داحوس “1”

آفاق | 0 تعليقات

يستل من أعماقه ابتسامة لا مبالية.. الحياة عنده ملف أصفر لا يختزن إلا الموت، والخريف، ولون أصابع مدخن مدمن.
مرتبة الحزن عنده بدأت بأول صرخة أطلقها وبموجبها ذبح أبوه ديكاً اسود احتفالاً بتسميته (داحوس)!!
جارتهم (أم صريع) قالت إن الاسم لا يناسبه لأن الداحوس مرض للأصابع، وخاصة الإبهام اليمني، ولذلك يصعد النخل بـ (الكر) حين يكبر. ولو تعلم لن يستطيع أن يكتب بيمناه!!
أبو (خريش) يناقض هذا التشاؤم بأن الاسم دلالة على موقعه (داحس.. والغبراء)!!
(المشاطة) العجوز، وأكبر سكان الحارة، تعرف أن جده (دويحس) هو أول من غرس نخلة في هذا الوادي، بعد انفصاله الشهير عن قبيلته، بسبب ثأر قديم..

• • •

داحوس لم يهتم لهذا الانشقاق الأسرى في التسمية، ولا يعرف إن كان في البلاغة، أو حتى أسماء النبات والحيوان من يقاسمه هذا الاسم، لكنه يعرف أنه صناعة تلك البيئة التي رحلته إلى هذا العالم، وأن الأفق الذي وصل إليه، هو هذا التيه المتواصل لدرجة صار يشك بأنه من مواليد العقرب، وهي التي سممت كل أزمنة حياته ومشي باقي سمها على شريط عمره الباقي.
تنازل عن كل الإرث الذي خلفه والده من النخيل والحيوانات، وغيرها في سبيل أن يمتلك الحمار (أبو مصاقل).. ولم يكن ساذجاً وقتها، لأن أثمن ما بالإرث هو الحمار، إذ مشت الدهور على قريته أربع سنوات متواصلة لم تطل غيمة حلوب لتسقى أرضهم الشهباء!!
لم تكن الأمور كما تصورها داحوس.. لقد ذهب كل شيء في القرية الناس والشجر، والحيوانات.. وحتى الحمار!!
قالوا إنها سنة (الصرمه).. الجدري فتك بالناس.. والطاعون والجرب فتكا بالحيوانات والنخيل ماتت (واقفة) بسبب العطش!!
داحوس لا يدري كيف ساقته المقادير أن يكون خادماً عند نجار يمضي نهاره بين قديد جلود الجمال وعصبها (ليوسر المحال، والدراج) وكيف يزن خرق (المحالة) ويدهنها بالودك لتنوح على آبار الفلاحين تحكي عذاب الليالي الطويلة..
يذكر أنه كان مع النجار يشذبون جذعاً كبيراً من الأثل، والمنشار الكبير بينه وبين معلمه.. مرت بخطواتها الوئيدة.. لم تكن تنتعل إلا تلك الخطوط المحيطة برجليها الصغيرتين..
(الحنا) زينت الطريق على رجليها أضاءت نفسه بتلك الأماني والأشواق التي كثيراً ما رسمها حتى في يقظته، وهو يرى تلك القدمين الصغيرتين كأنما يمشيان على رموش عينيه، ولأنه الغريب فإن حصيلته منها هو هذه النظرات المذبوحة..
معلمه النجار يبتسم وهو يلاحظ التغير المفاجئ على داحوس.. الشفتان يبستا.. اصفرار بالوجه، وانتفاض باليدين.. هل الولد (مخشور)؟ قالها النجار!!
يتبادلان النظرات.. الهم الأكبر للنجار هو تقطيع الجذع، في حين أن داحوس ترقص في عواطفه وروحه الأماني والرهبة كل ما يشاهدها..
النجار يبتلع جرعة الصبر الأخيرة على هذا الغريب.. والغريب فعلاً، لكنه لم يتمالك نفسه حين لمح شكلها.. توقف حتى الصمت!!

  • (أثريه صاحب نظر).. قالها النجار بنفسه انتابه الذهول من تلك الغطرسة التي تتناغم بها حركة جسمها وأطرافها..
  • (عز الله إنها تجمد القاز بالسراج.. استغفر الله العظيم.. يا ولد.. داحوس.. عدل زبيلك على راسك)
    وكأنه جذب بتيار صاعق.. ضحك داحوس، تطايرت نقاط من لعابه.. اختلطت دموعه بسائل عرقه.
  • (أي والله.. عدل حكيك يا عم.. الزبيل على راس الحرمة، لكن عدل خشبتك.. والمنشار)!!

• • •

الحي كله ارتبط بشخص داحوس.. عرفه الناس، عاشقاً من طرف واحد..
خيال أي سواد في الشارع يجمد الدم بعروقه حتى ولو كان (شوال فحم)! السواد عنده عشق يرتبط بالليل، والحنا، وعباءة المرأة وثوبها!

  • (ويا زين زوله الأقفا).. و(بالحنا والمداس.. يا حلو مشية خلى).. و (ينقش الحنا بكف حسين)!!
    هذه هي أدوات الغزل التي يرددها داخل نفسه..

• • •

خرج مرة من بيت (المطوع) بزفة الأطفال.. يحمل عي كتفيه خاتم القرآن ولد (أبو صويدح).. الأطفال وراءه يرددون..

  • (اشروه.. وإلا كسرنا عصه)
    وداحوس لابس (الزحمة) لهذه المناسبة المعروفة.. وعند بيت (صويدح) تقف الزفة.
    العائلة، والجيران… والمطوع يفترشون (العشة) يأكلون التمر والزبد وخبز (أم حويس)!!
  • (ترى داحوس مثل عنز الراضي ما تسرح إلا مع الضحال)
    قالها المطوع..
    يرفع داحوس رأسه، وبياض الزبدة تتناثر على أطراف شاربه..
  • (طال عمرك.. الرفاله زينه)

• • •

وداحوس مثل الجراد، أو كما يصف نفسه أحياناً حين يقول:

  • (أنا مثل أبو ذنبن.. ما يطلع إلا بالسنين الردية)!!
    وفعلاً فقد تدهورت حالته، وحالة من معه.. ولأنه مجهول الهوية في الانتساب إلى (عيال الحمايل).. فإنه أخفي جذوره القبلية في سبيل أن يعيش!!
    عمل صبي جزار، واشتغل (نفاخاً) على كير أحد الحدادين.. لكن الذي لم يزل من ذاكرته تلك الحادثة التي عرفها عن ذلك (المقرود)..
    لقد جرته الظروف، وسوء الحال أن يكون أجيراً ولكن هذه المرة في حفر بالوعة.. (أي والله بالوعة.. والدنيا حسر وكسافة)..
    سأله واحد (وش اللي صار يا داحوس)؟!
  • المسكين حفار (البلاليع)!!
  • (وش أمره يا داحوس)؟
  • نزل بالحفرة، فاجأته الصراصير.. انزرعت تحت إبطيه، ودخلت منخريه، وتحت سرواله.. انتشرت على خارطة جسمه ووجهه.. صاح..
  • (انت يا ابو كسافة.. فكنا من قعوستكم.. كلنني.. الحقني وإلا طلعت وخليت البلاعة)!!
  • وبعدين؟؟ ضج الحضور بالسؤال والضحك..
  • (طق ومات.. وسمي الشارع (سوق أبو صراصير)!!

• • •

لم يكن داحوس راوية فقط، وإنما (خراط جيد) في سكب الحكايات وتزيينها.. لكنه كان يكره العجايز ولا يطيق مجالستهن.. يقول:

  • (إن العجوز تدهن رأسها (بعكة) سمن ويقول:
  • (إنهن يخاشرن بليس برزقه).
    ومع هذا طاردته لعنة العجائز.. تزوج منهن اثنتان.. واحدة ماتت (بشرق ماء).. والثانية طلقها (ولا هو متحسف)!
    يروى أن عجوزاً تزينت.. خلطت الحنا بمسحوق الورد وظفر الحوت المحروق.. (مشطت) بهذا الخليط، وتعطرت (بكلونيا) بنت السودان..
    أدخلوها على العريس (لحم بزبيل) كما يقول.. (ولع) العريس سيجارة (أبو جنيه).. صرخت بوجهه
  • (وبعد.. عود مهذري.. وتشرب تتن)!!
  • (أي والله عود.. ومهذري.. لكن التتن أزين من ريح الكمخ اللي يطلع من راسك)!
    .. (الصبح توكل على الله.. وطلقها مع طلعت الشمس)..
    يركض داحوس بالشارع.. تتطاير (العجاح) تحت قدميه..
  • (يا من عين التيس، وله بيشلي)..
  • (بیشلی.. واش هو البشلي يا داحوس)!
    يرد..
  • (قروش تركية لقاه جدي خزن ببيت الدرجة)!
    يواصل الركض..
  • (يا من عين التيس.. وله الأجر من الله.. التيس فحل عارضي.. وأهل الصنف يقولون عترى)!!
    الصوت يختفي في الأزقة المتعرجة، والتيس أكله (الحنشل). والخلف على الله..
    من السرة إلى الحلق نقش جسد داحوس بـ (المكاوي).. واحد عن (الخرعة) والثاني عن (النفاخ)||
    أما كية (العلبا) فهي عن مرض (خازباز)!! وقد عرف أن المثل يقول مرض (خاز.. باز.. ما يشق إلا بالمخراز).. ولا يصيب إلا الحلق.. (الله يكفينا الشر)
    داحوس اشتغل (محرج) يقبض عربون السقيفة.. ولأن صوته جهوري خرج بعد منتصف الليل يصيح
  • (يا مسلمين.. يا جراده.. الجراد بشعيب طرخان)!!
    خرج الناس، بأكياسهم على الحمير، وراجلين.. الكل يريد الجراد، خاصة وأن الليلة باردة جداً.. وصيد الجراد سهل!!
    جلس داحوس على (عاير) ينتظر عودة الناس.. وخواطره (تحوس) بأكثر من حيلة بالخلاص من هذه الكذبة البريئة..
    سلخ الساعات الأولى تعاقبه نفسه..
  • (كيف هكيت على الضعوف)؟!!
    لكن خاطره الشيطاني يقول..
  • اللي ما يعتدل.. ما يميل.. مهابيل.. ويا زين الكيل على نصف الصاع)!!

• • •

لم تكن هذه أول (المقالب) لداحوس.. عرف ساخراً لا مبالياً بالتقاليد.. المهم أن يعرف الناس الابتسامة..
راهنه (الزكرت) أن يدخل السوق الكبير بثوب العروس (أبو سفيفه) يلبسه أمام الناس ويحرج عليه
لم يبال من ضحك الناس.. ولكنه كسب الرهان وحتى يضيع الصياح بصياح آخر.. دخل اليوم الثاني وقد شكم ثوراً ضعيفاً، ربط على جانبيه صفائح (التنك وقواطي) الحليب.. وجعله يجر جثتين من الماعز متنه بوسط السوق الكبير.. وقد تلثم.. وهو يصيح..

  • (لا تلثمون.. ترى اللي ما يدسم شاربه، ما يعطره)!!

• • •

وداحوس دائماً يضحك.. أصدقاءه من الأطفال، والمعتوهين.. وكل ما هو مخالف لتقاليد قريته..
الصاعقة التي كادت أن تقتله، هو حين عرف أن أحد أقاربه قد دخل القرية خلسة يتعقب اخباره..
هذا القريب جاء ثائراً يريد تحطيمه أو قتله.. ولأن صيته وصل إلى القرى المجاورة، وأن ما أثار عليه قرابته.. كيف يحترف عمل نجار، وحداد، ليخرب هذا الأصل الكريم؟!!
عرفت القرية سراً كان يخفيه داحوس، ولكنه كالعادة لم يهتم، بل أراد أن يتحدى كل خصومه..
ولما أن القرية انقسمت على نفسها بين المؤيد المناصر، وبين المزدرى المعاند، فاجأ الجميع، وأمام قريبه بالذات يحفر كنيفاً في وسط المدينة..
احتج قريبه.. صاح..

  • (خربت أصلنا.. الله لا ياصلك.. لكن راسك ما يسلم وأنا أبو حشام)
    سخر منه داحوس.. تحداه..
  • (يابو حشام إذا أنت صادق قل لربعك وأهلك.. أن الفقر ذباح.. وإذا هم رجال يصرفون على من كيسهم.. ولكن أنا أدري أن المثل يقول.. حسن راسك بالفاس.. ولا تحتاج للناس، واللي ما يعجبه يتمرغ بالتراب)!!
    داحوس يعرف أن قرابته تظللهم الكبرياء الكاذبة ولأن الأصل (ما يسقى من الماء) كما يقول.. فهو خرج عن القاعدة، وكسر حاجز التقاليد حين تزوج بنتاً سوداء، أنجبت أول أولاده الذكور!!

• • •

داحوس تنقله خطاه إلى الشام، وفلسطين تابعاً مع حملة (عقيل) ولأنه صاحب مسئولية وولد، فإن (المراجل ما هي بالسوالف)..
وفعلاً وفق في تجارته.. يبيع الإبل والغنم، ويستورد بدلاً عنها قهوة وأرز، وسكر وشاي، وقماش أبو (درجتين)..
وكالعادة إذا الفلوس تدير (الروس) فإن كرمه وشهرته بمعاونة الفقير والمحتاج، والبيت المفتوح (للضيفان) ساقت الرياح هذه الذكرى لأهله، وأقاربه..
بدون أي علم منه، يدخل عليه الضيوف متنكرين.. يقدم العشاء، وبطرف بستانه ينامون تحت النخيل لم يسأل منهم ولا من أي فلك قدموا.. وهم أرادوا أن يعرفوا هل فعلاً أن داحوس بهذه السمعة والمنزلة الكبيرة..

• • •

تنكشف الأسرار، ويعلم بأشخاص ضيوفه.. وقد تمت المصالحة ولكنه لم يتنازل عن خطه الذي جرى عليه.. سكتوا وهو يودعهم.. ولم يعلموا بالحملة التي سبقتهم لأهلهم من طعام ولحم، إلا بعد أن وصلوا..

• • •

ذكريات وسيرة داحوس لم تنقطع.. حتى سخريته من الأشياء كلها لم تغير طابع حياته..
ربط الضرس بسلك من النحاس، وطرفه الآخر بحلقة باب كبير، عرف بباب السور..
والأعرابي المسكين منحني.. يطوف داحوس من وراء ظهره يحمل عصاته (الخيزران) الرفيعة.. (يمسطه) على ظهره..
الأعرابي يقفز مرعوباً.. وقبل أن يستفسر عن المتسبب يضربه يصيح عليه داحوس..

  • (شف ضرسك يا الخو بالأرض.. وما حرك داواك)!!

• • •

يذكر داحوس أنه أكل هريسا (ملحوساً)..
تقيأ.. اصفر لون وجهه، وكاد يموت لكنه بأخر لحظة تذكر كتاب (تسهيل المنافع)..
سحب من الأترجة غصناً، قطف من طلعها.. عصر حامضها.. شر به..

  • (ويا زين بريق النعناع.. يصير غسول للكبد)!
    شفى داحوس.. لكن شريط ذكرياته لم ينته..

• • •

ملحوظة:
داحوس شخصية وهمية، لا يهدد العادات ولا التقاليد.. ولكنه شخصية مجذوذة من هذه الأرض بتراكيبها، وجياتها..
الشخصية الشعبية هي التي تمتلك التاريخ الذي لم يكتب، ولكنه يعيش بين الناس، منقولاً بالتواتر للأجيال..
ولأن داحوس يحمل الصفات التي تجعله يحكي شيئاً من سيرتنا فإنه يظل حي مربوط لأيدينا، وناطق بألسنتنا.. ولعل خاطره وحكمته التي تقول:

  • (إن كل كلمة لا تجلب الابتسامة.. هي مثل سيجارة (أبوبس) تنقص كل ساعة من عمرك خمس دقائق)
    (مدوحس)!!

التاريخ/ 4- 9- 1400هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *