داحوس “2”

آفاق | 0 تعليقات

(الذين لم يكتب تاريخهم من بسطاء الناس هم العظماء المجهولين)! (مدوحس)
ربط وسطه في حبل الليف، شمر عن كميه، ربط ثوبه بحزامه.. طوى (غترته) الخلقه على راسه..

  • (تسلموا.. يا ولد اخلط الطين.. اهرسها برجليك.. توكلوا على الله.. عدوا لبن.. عدوا طين)!!
    على السلم الطويل تبدأ رحلة النهار، الشريط المتزاحم من أجساد العمال.. والسلم يهتز..
    (الأستاذ) الأطرم يمضغ الكلمات غير المفهومة، وحرارته الزائدة بالعمل، وعصبيته تجعل أي عامل يأخذ حسابه من هذا الإمبراطور (الفاحش) على الجدار..
    رمي الأستاذ (خلاط الطين) على وجهه بالطينة.. نزل من السلم يسب ويشتم بكلمات معلوكة غير مفهومة..
    يعود المسكين للخلط.. تعرض العينة على (الأستاذ) يهز رأسه بالموافقة.. ثم يستأنف العمل.. يسأل داحوس..
  • (غداً العمال عند من يا طواري)؟!
  • (عند جار سويط وقفت الدورية)..
    كانت الحارة بأكملها تأخذ وجبة الغداء والعشاء للعمال تثبيتاً للعلاقة الأسرية التعاونية بين سكان الأحياء..
    داحوس يتذكر في صغره أن (عسبان) النخيل، وأعواد الأثل تأتي معونات لصاحب الدار، ويذكر تلك الأغاني الحزينة بالليل عند تجريد (العسبان) على ضوء القمر أو السراج (الجرملى الطيب)!!

• • •

يجمع داحوس (غترته) و (طاقيته) يكورهما يضعهما تحت فخذه.. يتكئ على صندوق (الشاي) الذي وضعه (مسنداً).. يسأله – طواري -..

  • (والزكرت وسالفة الشنطة (الهز مستر) واش صار بجلستهم يا داحوس)؟
    يسحب ثوبه يغطى ساقه المحروقة ثم يسعل..
  • (كانوا يسمونها وارد البحرين عليها صورة كليب وش حليلة فاتح فمه وينبح بمحقان قدامه..)!!
  • (المراد وش سويتوا باسطوانة ضاحي بن الوليد)؟؟
  • (أغلقنا البيت، وسددنا شقوق الدار، وحتى الشنطة حطينا بحلقه فوطة على شان ما يطلع الصوت)
    (زفن الزافن، وشربنا الشاي بالهيل، ودخنا الغرفة بالعود القماري حتى لا تطلع ريحة التنن)!
  • (وبعدين وش اللي صار بالخاتمة)؟!
  • (خذوا الشنطة والاسطوانه والحقوها بالسمسمية.. كسروا الشنطة وطق الربع على عصوين بوسط السوق.. تفرقوا ومن تاب تاب الله عليه)!!
  • (وقصة الزنجفة وخناقة البلوت)؟!
  • (طولتوها وهي قصيرة، خلوني أدور زرقي)؟!
    يرفض الحاضرون خروج داحوس، خاصة وأن (السوالف) زان وقتها – كما يقول (طواري)!!
  • (قولوا لا إله إلا الله)
  • (ونعم بذكر ربي)!
  • (اجتمعنا بمجلس (هادم اللذات) كل ريع البلوت.. لمينا من بعد صلاة التراويح إلى قبل يحين السحور)..
  • (ومن اللي فاز يا داحوس)؟
    يرد بعصبية
  • لا تستعجل على رزقك.. يا الربع ما شفت القف من ضاطور المخزن.. اللي سماك طواري ما غلط.. اثبت الله يثبتك على طاعته)!
    يضحك الحضور.. (كمل يا داحوس)..
  • طلعنا من القهوة، واثنين من الربع متقهوين مرتين وواحد منهم زعلان.. الأجودي نام وصحته الوالدة للسحور.. رفع وحدة من المطازير، وخبط به بالصحن، وتري على عيونه النوم، وصاح أكه.. ضحك أخوه وقال:
  • (كبتت قبل تحلم.. قم نم لايزغل بليس بافمك)!

• • •

داحوس لم تهمه الأمراض (كوو) عرقوبه وبطنه، وشرب (المحو)، لكن الذي عجز عن (دبرته) هو ما تقوله أمه..

  • (اصح وأنا أمك تشرب الماء اللي تحت النجوم ترى يبول به إبليس.. وإياك أن تنام بالصفرة أو نغني وتصفر بدار الأرزاق حتى لا تطير البركة)!
    داحوس يقول..
  • (جربنا كلش والصامل قليل)!
    في الربيع (كشت مع الربع) و (الخشرة) صاعين أقط – وسحلة – تمر وثلاثة (أصواع) طحين..
    لم ينس العاصوف الذي (نثر) شملهم اختلفوا بتفسير هذه الظاهرة العجيبة..
    (أبو دحس) يسميه (عويد الريح) ويحلف إنه – شاف – عرس الجن بوسط العاصوف..
    رد (ملقوف)..
  • (دور غيرها يابو دحس.. كذبة ما صلت على النبي)!
  • (إذا ما انت ما صدق جرب تكب رماد إذا مرك عويد الريح وتشوف حتى شعر الجنية)!
    (يتنحنح) داحوس..
  • والسراب (وش تسمية المرحومة جدتك)؟
  • (شعيب الجن اللي ما يقف ماء، لكن ما تمسك له أثر)
    داحوس يتذكر البئر التي تعشعش فيها الخفاش، ظلت مهجورة لا يشرب منها أحد..
    قال راوي..
  • أن البئر حفر بمكان مقبرة، وأن الماء ينقلب إلى دم مجرد أن تصل الدلو إلى أعلى البئر!!
    ويروى.. أن الشجر التي تشرب منه تموت، وأنه وجد على جانبه شجرة صارت مسكناً للبوم والخفاش سميت شجرة (المهابيل) من أكل منها أصيب (بالصرعة) والجنون!!
    داحوس لا يستطيع أن يصدق هذه (الخذاريف) لكنه بقرارة نفسه يخاف من (البير) ويعلل ذلك أن هذا الخوف ناشئ من التربية الحسنة التي عاشها!! فالصبح الفطور (شاهی ولجه) وعصا (المطوع) بالمسجد بين (الرقعتين، والجزمتين، والنصبتين) حين كان يتعلم بالكتاتيب.. (والعصا لمن عصا) كما يقول ذلك والده!!

• • •

(كسافه) اشتغل معاوناً في سيارة البريد التي تصل قريتهم كل ثلاثة أشهر مرة قادمة من المدينة الكبيرة..
كان نجم الجلسة في رواياته العجيبة بعصب (غترته) المخططة على (الكوفية).. وحتى يؤكد أنه (متمدن) صار يشرب سجاير – غازي – العراقية.. وعندما شاهد والده في (العابر) صاح مسلماً..

  • (كيف حالك يا شبيه)؟!
    و(شيبه) هذه عجز عن حل رموزها إلا واحداً عاش فترة طويلة في مكة وفسرها بأنها تعني (يا شايب)!!
    (طراطار.. والعشا عند الخطار) ويتناثر الصبية الصغار على زوايا السفينة، يزعجون بأصواتهم أصحاب (المقيال)..
    كان داحوس ممدوداً على سارية بيته يهش الذباب (بمهفته) الخوص يدفعه الحنين إلى أصحابه الذين وزعتهم الغربة.
    يعتدل جالساً (ليفتل) حبال الليف المكومة على الحصير الجالس عليه.. خواطره البعيدة تزحف إلى أيام العيد والأطفال يتحلقون حول الأبواب..
    ۔ (عيدكم عادت عليكم)!
    والأطفال يقفون بانتظار حفنة حمص، أو حلاوة (راحة الحلقوم)..
    فإذا حصلوا على الحلوى والحمص انتشروا مرددين..
  • (عشاكم شط الفاطر وأدامه دهن قاطر)
    أما إذا وجدوا الباب مغلقاً، فانهم يصيحون بصوت واحد:
  • (غداكم لحم الفارة، وعشاكم شط الحمارة)!!
  • والله الشياطين.. لكن يا زين أيام مضت..

• • •

صاح الحقوني (يا الربع.. لا والله اللي قرصت.. إما حية والا عقرب)..
تجمعوا أشعلوا النار.. تقفوا أثر الحية (أم جنيب) قتلوها بشطو قدم (المقروص)..
طول الليل والنار مشتعلة و(الطبول والطيران) وحلقة (السامري) تسهر مع (المقروص) حتى لا يطغى السم على (كبده) ويموت!!
داحوس يسأل..

  • (وين خرزة العقرب اللي عند أبو حاشد) يقولون إنها يد بيد والمعافي الله)!
    ينطلق ثلاثة منهم للبحث عن (الخرزة) الذي قيل أن مالكها اشتراها «بقعود وأمه» وأنها بمجرد أن توضع على مكان اللدغة تلتصق وتمتص سم الثعبان أو العقرب!!
    عادوا ثلاثتهم بدون خرزه، ولكن تصرف داحوس هو الذي أنقذ الملدوغ حين فصد مكان اللدغة ورضع الدم وبصقه.

• • •

كانت «خراشة» الوالدة – كما يقول داحوس الديك «الأنصب» يؤذن للفروض الخمسة، ويصحى الجيران، خاصة بالصيف حين يكون النوم بالسطوح.. حتى القطط المتوحشة كانت تخشاه، فقد فقأ عيني قط حاول الهجوم عليه..
الصبية الصغار يتحاشون الدخول عليه، وحتى الاقتراب من أفراخه الصغيرة.. لكن الإنس «أشطن» من الجن كما يقول داحوس..
دخل عليه اثنين من «حرامية» الدجاج، ولئلا يصيح الديك أو أفراخه، فقد تعود اللصوص على رشه بالماء حتى يظن أنه مطر.. عند ذلك سحبوا الديك ودجاجه..
ارتبكت الأم، عاشت أياماً تشعر بالألم على فقدان الديك لكن اللصوص قطعوا الشك، حين تركوا صرة عند بيت داحوس بريش الدجاج لتنتهي «سالفة» الديك بتلك الدراما الحزينة.

• • •

هرب الكبار والصغار، أغلقت أبواب الحارة، أطلت النساء والأطفال من شرفات المنازل..

  • «ولد طواري ينبح مثل الكلاب»!!
  • داحوس..
  • «أكيد عضه المغلوث»..
    وقصة «الغلث» في حارتنا عاشت أسطورة صارت شبه حقيقة أم «مريعس» تقول أنها لحمة تسقط مع مطر «الوسمي» إذا ما أكلها طير أو حيوان أو إنسان فإنه يصاب بالسعار..
    لكن «شو أحيط» يخالفها الرأي معتقداً أنها «ريح» تخل مع الهواء وينتفخ البطن.. وبعد أسبوع من إصابته العدوى ينبح مثل الكلاب»!!
    سحقوا له مرارة «الغراب» مع العصفر.. قرأوا له عند المطوع، وأبواب المساجد.. لكن المسكين «ولد طواري» فارق الحياة بعد أن نبح إلى أن اختفى صوته..
    «أنتم السابقون، ونحن اللاحقون».. يرددها داحوس كل صباح جمعة حين يمر على قبر والدته..
    في عيد رمضان يخرج زكاة الفطر عنه وأولاده، ومن يعول ولا ينسى في العشر الأواخر من رمضان أن يتصدق كل ليلة، والأجر والثواب لوالديه..
    أما عيد الأضحى فإنه يشتري «أطيب الطليان» أضحية لها.
    في المنام رآهما صامتين لا يرفع أحد منهما طرفه إليه، يتهامسان بصوت غير مسموع، ولما حاول الحديث معهما يضيع صوته، ولا يصبح مسموعاً يتساقط على رأسه حشرات ميتة، وحين يهم بالوقوف تنغرس شوكة في قدمه..
    يصحو داحوس مرتجفاً.. يبحث عن «حسين» عله يفسر حلمه..
    يرد حسين..
    «أبشر بالخير.. هذا حرارة الحنيني، طارت براسك ورتك نجوم الضحى»!!
    على ظهر سيارة البريد «البارو» يذهب داحوس، وطواري وأبو كسافة، قاصدين الظهران..
    عملو ثلاثتهم «كوليه» الراتب «ثلاثة أريل والكسوة بنطلون خاكي وقميص مل» …
    يتذكر داحوس كيف أنه اشتغل جندياً مع (الهجانة) كانت الرواتب تمر، ودهن، وأحيانا حبوب، أو غنم..

• • •

صرف مرة راتبه خمسة تيوس، وشوالين، شعير أكلت التيوس، الشعير وباقيها مات بمرض الطاعون!! ينسى ذلك كله وهو يحزم «بصطاره» متوجهاً إلى سيارة الشركة ليستلم بطاقة العمل المحلاة بصورته..
بعد سنة يصله خطاب من أمه ومعه صرة «كليجا، وحبحر» وتذكر أن صاع «الشنان» وصل إلى قرشين!
يجمع «شلة الديرة» يتقاسمون الصرة يكتب لصديق له..
نبشركم أن طواري اشترى سيارة، فرملتها الجدار.. تعطلت (بالبر) وأسعفتها الحمير.
«داحوس»

• • •

مع الأصدقاء ۰۰۰
السيد عبد الله عبد العزيز الناصر، من وزارة الزراعة بالرياض… النقاط التي أوردتها برسالتك، وصلت باليوم الثاني لكتابتي مقال عن «سلبية الموظف»..
المقال تضمن النقاط التي أشرت إليها.. وموضوع الوظيفة والموظف يحتاج إلى دراسة مكثفة من قطاعات مختلفة لها صلاحية قراءة المشكلة من جذورها والبحث لها عن حل.. لك أحر تحياتي..
• • الأخت «ك.ع» والتي كتبت رسالتها بدرجة حرارة الصيف ظهراً التي وصلت إلى «43»..
قضية التلقين بالتعليم، وحفظ المتون والكتاب، دون إدراك ما يحتويه المنهج من غاية سليمة.
لكنني لا أفقد الأمل، وأرجو أن تكوني كذلك ليمكن في المستقبل إيجاد نوع من التعليم الذي يعيش مع شروط حياتنا الحاضرة ليؤسس قاعدة للمستقبل..
.. شكرا على رسالتك وتواضعك..


التاريخ/ 11- 9 – 1400هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *