وقفة مع اللغة..

آفاق | 0 تعليقات

اللغة تكونت وعاشت، قبل قيود قواعدها ومصطلحاتها.. حتى مسألة تطويرها يأتي طردياً مع تطور استحداث وسائل الحياة عند الإنسان وما يخترعه، أو يكتشفه في المجال الكبير للطبيعة..
الجدل الذي يدور، ولا زال، بأن أي شعب من شعوب الإنسانية نشأ يتكلم لغة شعبية، ويكتب بلغة اصطلح عليها عربياً بالفصحى، والعامية، تكونت في رحم واحد هو المجتمع..
اللغة العربية تأخذ بهذا المنظور التاريخي، وإن اختلف علماء فقه اللغة ومؤرخوها على أساسيات نشأتها وتطورها.
المجال في هذا المقال ليس البحث في الجذور التاريخية للغة العربية، لأن الذي حسم الموقف في توحيدها، وإعطائها هذه الصفة من الشمول والتطور هو القرآن الكريم، الذي يتفق كل العلماء أنه هو الذي أرسى مفهوم اللغة، وأعطاها البعد العالمي..
علماء اللغة العربية الذين وضعوا قواعدها، وصمموا الشكل والموضوع نعترف جميعاً أنهم أخذوا القاعدة للفعل، أو الضمير، أو غيرها من موقع اللغة القائمة آنذاك، ولذلك خضعت بمجمل (نحوها) إلى الصراع التاريخي سواء بين اللهجات العربية، أو بين الأمم الأخرى التي تتكلم الفارسية أو السريانية، أو غيرها عند ذلك احتاجت – كما يقول المؤرخون – إلى التدوين ووضع قواعد لها تحفظ لها هذه الخصوصية النادرة.
من هذا الأفق التاريخي تكون اللغة حركة الفكر وتنمو أو تقف مع تطوره، أو انحساره لكنها ذات دلالة واحدة للفهم لأي بيت شعر، أو جملة في نثر، وإن اتسعت الاشتقاقات، واستطالت معانيها..
القول بأن الشاعر العظيم يبقى في حضرة الزمن، وإن تقادمت العصور حقيقة لا غبار عليها، لكن الذي لن تستطيع فعله إطلاقاً عن معاصرة هذا الشاعر أو الفيلسوف، هو البيئة القومية التي أفرزته من بين ملايين الأجناس البشرية، ومنحته الديمومة..
إذن التقادم الزمني لا يلغى كل فعل الماضي، وإلا لسقط ابن خلدون، وسقراط وغيرهم.. ولما أصبحت الأسطورة ميداناً الرمز الشعري والقصصي.
تطور الكلمة العربية الحديثة – مثلاً – جعل الشاعر والقاص يلتقيان عند الجملة الشعرية ذات الكثافة الحدسية الموحية، وإن اختلف الميدان الموضوعي عند كليهما..
فالأبعاد التي يرسمها الشاعر هي أبعاد نفسية وعاطفية بالدرجة الأولى، ومعنى البطولة التي رفع شعارها الشاعر الجاهلي لا تحقق عنده المضمون الاجتماعي لعظمة الإنسان إلا في ميدان الجانب الروحي الشفاف، لكنه لا يستطيع إسقاط فترة الشاعر الجاهلي أو المعنى المكثف الذي أعطاه في تلك الفترة لدواعي حاجة حياته، لأن الأرض، والزمن، وحتى الأبراج لم تتغير بنظامها إنما المتغير دائماً هو الإنسان الذي يستطيع تغيير اللغة واصطلاحاتها وفقاً لموقف العصر الذي هو فيه..
القاص ينفلت من هذا الأسر، لأنه يلتقي مع الحدث مباشرة، وبدون تكلف، وهذا الحد الموضوعي يمنحه التصرف بالمساحة اللغوية أكثر من الشاعر، وإن التقت مهمة الفنان في موسيقة اللغة وشحنها، وتكثيف المسار النفسي وتداعيات الزمن عند كليهما لتصل إلى المعادل الموضوعي بالكوني، والذاتي عند الإنسان.. هذا الرابط هو الذي جعل التعبير الحديث سمة عصرية..
الدكتور «طه حسين» رافق بيت أبي تمام الذي قال فيه..
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه
بكفيه ما غاليت في أنه بـرد

وقال الدكتور «هذا البيت لم يفهمه المتقدمون لأنهم لم يألفوا هذه الصورة.. صورة الحلم بالكفين وتشبيهه بالبرد، وإنما كانوا يشبهون الحلم بالجبال»!!
ويعلق طه حسين أن الخلاف ناشئ من أن أبا تمام حضري في حين أن المسار الذي عايشه النقاد هو تضخيم الموقف، وعدم التعود على سماحة المعنى الجديد، وإنما الغلو بتكثيف اللغة على حساب المعنى، لأن الأساس في التعبير لم يتعد البيئة البدوية..
في هذا الإطار نعيش ذات الحالة والموقف في الوقت الحاضر..
انتقال القصيدة من البيت المقفى، إلى الحر، وانتقال القصة من التصوير «الفوتوغرافي» للزمان والمكان، وتسلسل الحدث، إلى الإيماء وانتقاء الحادثة وإعطائها كل أبعاد الزمان والمكان، حتى الرسام، حين ترك لآلة التصوير أن تنقل الطبيعة المباشرة، ليقف على مرحلة التعبير النفسي باللوحة، كل هؤلاء أوجدوا هذا الطريق لأنه مطلب تاريخي مباشر مع تطور الإنسان.. ولذلك تكون الخلاف بين المحافظة على الماضي، وإنكار التجديد، مع أن هذا التطور ولد كضرورة زمنية، تطابقت مع وعي الفرد، وإنكاره لأي زوائد تعبيرية تبعده عن الوصول مباشرة إلى المعنى المطلوب.
التغير لم يكن في المضامين اللغوية المتعارف عليها فقط وإنما بالوسائل التي استحدثت هذا التغير في التعبير جعل الاتصال بين الفنان، والمتلقي لا يمر بخطوط متعرجة، أو مسافات طويلة، وهنا كان ولازال للغة تطورها الذي يسبق قواعد النحو، والصرف واشتقاقاتهما..
بنفس المنطلق لم تخضع الفلسفة للقيود العلمية البحتة في وضعها في معادلة ثابتة مع الضوء أو الصوت مثلاً، ولم تكن تعبيراً جمالياً تلتقي مع الفنان في «النوتة» أو الكلمة، أو اللون، ودائماً تحاول أن تصل إلى الشمولية الكاملة في الوصول إلى المعنى المادي والروحي عند الإنسان، وجعلها في موقف واحد، لأن الغاية الأساسية في الفلسفة هو البحث عن مضمون الحرية التي هي لها القدرة على إطلاق مواهب البشرية من كل القيود.. وهي في هذا قد تستعمل اللغة بدلالة قانونية أكثر، لأن المعنى هو المطلوب، واللغة وسيلة إيصال، وليست غاية قصوى كما هي عند الشاعر أو الكاتب النثري..
ولأن الفيلسوف شمولي النظرة، يتصادم مع أدوات الفكر كلها، ويؤطرها، فإنه في هذا الموقف لا يختلف إطلاقاً مع الشاعر، أو الناثر في استثمار أقصى حدود اللغة وتطويرها، وجعل اللغة أحياناً «تغنيه» خاصة للكمال التعبيري.
يبقى الناقد هو الملزمة الثالثة في دفتر اللغة، لأنه يتعامل مع موجود فني سابق، حضر وأوجد قبل وجود الناقد لكنه في معظم الأحوال يشتق معنى مضافاً للعمل الفني، أو يحمله أكثر من بعده الواقعي.. ولذلك غلبت صفة التعسف والمبالغة أحياناً على مواقفه، وإن كانت الضرورة حتمية في التعامل معه، لأنه يملك ذوق الفنان في التصور والحساسية مع النص ويعطي لهذا العمل شمولية الفيلسوف في النظرة الجزئية أو الكلية..
لهذا أصبحت مدرسة النقد أكثر تحرراً من الفنان ذاته، وإن كانت أقل دقة في إشاعة الجدل إلا من خلال نظرة الناقد وحده..
فالمنطلق الذي يسير عليه إما ذاتي بحت، تغلب عليه صفة «الشخصانية».. وإما أيديولوجي يقيد عمل الفنان ويوظفه لهذا الهدف العقائدي، وتبقى مسألة الحياد في نقد العمل الفني نادرة أن يتفق عليها ناقدان، ولو عاشا في بيئة واحدة وتقاربا في الثقافة.
إذن الناقد يطوع اللغة لغاية ذاتية، وإن كان عائدها في الكسب والخسارة يلتقي على عمل الفنان.. ونستطيع القول أنه يطور المفهوم دون حساب للمفردة اللفظية، أو دلالة معناها الذي قد يختلف في تفسيره من ناقد لآخر، ولكنه لا يقطع الصلة في استحداث أدواته الخاصة في الوصول إلى تعريف معين، قد يشتق أسلوباً جديداً للغة وإن كانت اللغة لم تكن غاية أساسية عليا عنده.
بين هذه المواقف تبقى اللغة ميدان صراع ليس بين اللغويين وحدهم، وإنما مع كل من يتعامل معها، حتى ولو بالصوت كالمذيع، أو المغني الذي يملك رخامة الصوت.. ذلك أن بيت الشعر مثلاً، قد لا يكون له الحساسية الموسيقية بصوت الشاعر نفسه، ولكنه قد يصل إلى السامع بصوت آخر يعطيه بعداً ذوقياً أكثر، إذا ما كان هذا الصوت قادر على إعطائه هذه الصفة الجمالية..
نخرج من ذلك أن اللغة قادرة على إضافات كثيرة لقواعدها، ولكنها غير ملزمة بتاتاً أن تبقى على أسر اللغويين، وخلافاتهم الطويلة ولذلك حققت بقاءها، وعلت مفاهيمها على أصحاب «حتى» لأنها الأساس في الجدل، والتعريف لكل مواقف الإنسان والحياة..

جحيم الإعلان!!

لم يكن من المفارقات أن تجد صورة حصان عربي، يوحي لك بأنه أسرع من سيارة «الرولز رويس»!! ولا من العجيب أن تجد شيخاً أعرابياً يحمل على يده صقراً يوحي لك كذلك أنه أسرع من «الكونكورد»..
الإعلان يبحث عن الإثارة، وأصبح له ميداناً خاصاً في التأثير على الانسان المعاصر.
فالمصمم محاط بتأثير الفنان من حيث الشكل أو اللون، ومجذوب إلى دفتر «الشيكات» كمعوض يحثه على إنتاج جديد.
الإعلان لغة عصرية خطيرة، لا بالأثر الذي يتركه بالترويج إلى بضاعة ما أو التأثير السلبي يخلق دعاية مضادة لكل عرف إنساني..
الانتخابات الدولية عنصرها الأساسي الإعلان، ودائرة الاقتصاد الحديث تعتمد مباشرة على هذا الأثر الحساس..
الإعلان عندنا أخذ مساره، ولكن بعفوية وسذاجة كبيرة.
البعض يستغل موقفاً محلياً كالميزانية، أو افتتاح مشروع ما لمسئول، واستغلال هذه الفرصة كحدث يوظفه المعلن لهذه الغاية..
قطعاً لا نستطيع معرفة الأثر على المشاهد، ولكن جاذبية الإعلان أنه يستحدث من المناسبة طريقة مؤثرة ويعطيها بعداً فنياً أو حديثاً، لا أن يستغل صورة الموقف الطبيعي لذلك المشروع للدولة، واستغلال هذه المناسبة لغاية شخصية.. ومن هنا يصبح الخبر الذي تبحث عنه الصحيفة في المجال المحلي إعلاناً فقط..
بعض الصحف درجت على استغلال القارئ بإعطاء الإعلانات صفة الخبر المحلي وهي مسألة تجارية وإن لم يلحق بآخره «مادة إعلانية»!! وهي شطارة خاصة إن كان هذا التعبير يحمل معنى أدبياً، ولكنها خسارة فاضحة!!
الإعلان – بهذا المعنى – يجب أن لا يدخل السلوك السري، والممارسة الغبيه، وإلا أصبح الشك بالصحفي أمراً مثاراً..
نحن نشاهد شخصيات تجارية كثيرة، تأخذ صورها عند كل مناسبة في بعض الصحف وتبرز أخبارها، وإن كانت لا تخدم أي قارئ، إلا ما تمنحه لهذه المؤسسة أو تلك..
حتى بعض الصحف الخليجية صارت تنافس على هذا الموقف، وأصبحنا نشاهد تجاراً من الدرجة الثالثة يقعدون خلف مكاتبهم، ويعطون صفة العمالقة في المشاريع الصناعية والزراعية الكبرى، ولو كان أحدهم مورداً للعب الأطفال!!
القضية مرتبطة بين سذاجة التاجر، وخبث الجريدة واستغلالهما لمعنى سام وتطويعه إلى موقف غير أخلاقي..
قدرة القارئ أو المشاهد تستطيع فرز هذا التضليل.. ولكن الأمر يحتاج إلى رقابة أخرى، سواء من الجريدة أو المجلة. إن كان المسئول فيها يشعر أن تلك الأخبار هي مجاملة من المحرر ورقابة أخرى من مجلس إدارة الصحيفة أو المجلة على هيئة التحرير ومطالبتهم برسوم الإعلان..
القضية لا تتحدد بصحيفة معينة، أو الاتهام لشخص معين أيضاً، ولكن هذه الحالات بدأت تتكاثر بشكل غير عادي وقد يكون التاجر وهو الذي يستفيد، لأنه انفلت من ميزانية الإعلان الرسمي المباشر، إلى الخبر الموظف لهذه الغاية..
تبقى الثقة موجودة بالجميع بدون استثناء، ولكن ما نرجوه أن لا تتزعزع هذه الثقة وتصبح اتهاماً ثم قضية.

مع التحية..

الصديق العائد للصحافة من جديد «إياد مدني» عاد للزميلة عكاظ مديراً عاماً..
أنا لا أستطيع أن أقدم له التهنئة، لأنني أعلم أن الصحافة – ولو كان عمل الإنسان إدارياً – تبقى مهنة المتاعب والإدمان على هذه المتاعب..
الصديق يستحق أشياء كثيرة، ولكنني أهنئ الزميلة عكاظ أن تحصل على كفاءة (إياد) الإدارية والأدبية..
وله مني مزيداً من التقدير في عمله الجديد، وأماني بالتوفيق في كل ظروف حياته.
للبحتري:
لي حبيب قد لج في الهجر جداً
وأعاد الصدود منه وأبدى
ذو فنون يريك في كل يوم
خلقاً من جنانه مستجداً
يتأبى منعاً، وينعم أسعا
فا ويدنو وصلاً ويبعد صداُ
أغتدي راضياً وقد بت غضبا
ن وأصبح مولي وأمسي عبداً
وبنفسي أفدي على كل حال
شادنا لا يمس بالحسن أعدى
مر بي خالياً فأطمع بالوصل
وعرضت بالسلام فرداً
وثنى خده إلي على خو
ف فقبلت جلناراً وورداً
سيدي أنت ما تعرضت ظلماً
فأجازى به ولا خنت عهداً
رق لي من مدامع ليس ترقى
وإرث لي من جوانح ليس تهدا


التاريخ/ 29 – 3 – 1401هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *