ثريا عمر بن أبي ربيعة، وفقيه أبي العلاء، وسيف دولة المتنبئ، وغيرهم قد يوضعون في أي دفتر للتاريخ لتخرجهم للعالم مصادفات المؤرخين أو قراء الحوادث والسير.. لكن الشعراء الثلاثة أعطوهم هذا المد التاريخي إلى كل الأجيال..
ففي الأسفار العربية فقهاء وفاتحون وعاشقات يماثلن امرأة العزيز، ولكنهم لغير وضوح تلك الأسماء وشهرتها بقوا في ذلك الدفتر القديم..
الشاعر «الفنان» هو وحده الذي سحب بطاقات تلك الأسماء ونقشها على بوابات العصور، وحفظها طلبة المدارس وجعلها نشيداً في المحافل الوطنية واستشهاداً للحكمة والسيرة البشرية كلها.
الوعاء الضخم للتاريخ جمعه الشاعر بقصيدة، ولذلك كانت الملاحم والمطولات والأساطير كلها محفوظة في ذاكرة الشعوب.. ثابتة وأزلية حتى في مراحل انحطاطها..
الجدل الذي يدور ولا يمل عن القصيدة العربية وحوارها مع الزمن والإنسان والطبيعة ليس خلافاً يؤدي إلى امتلاك الشجاعة والانتصار بقبيلة عبس على هذيل وإنما هو انتصار لهذه الحركة المتصلة بوجودية الكلمة وتجددها.
نقرأ القصيدة الجاهلية ونضع أمامنا القواميس لحل رموز تلك الكلمات، نعيش غرابتها وقاموسيتها الحاضرة، ولكننا إذا فهمنا تلك المفردات وفككنا تلك الأوصال تلاحمت القصيدة في ذهن القارئ في كامل محيطها الاجتماعي والتاريخي وتوسدت تلك التلال من المال التي تزين غرتها زهرات الأقحوان ومرابض ألمها، وعيون الحبيبة في خدرها ترصد فتوة ذلك الشاعر العاشق المحرض على البطولة وخالق فتنة حروبها وثاراتها.
من يقول بأن البدايات والنهايات في ذلك قصائد ذلك الديوان العربي الكبير، يلتزم بمعنى البيت الواحد ولا تترابط معانيها من تلك المخلوقات التي يصورها الشاعر.. قد يكون محقاً ولكنه قد لا يكون دائماً على حق!!
محاكمة التاريخ ستبقى قضية كل الأجيال لأنها ضمير الوطن وثقافته وفرضية هذا التماسك جعل من الأمم العريقة حية لا تنقرض.. وبقي تراثها عمارة تلتقي عندها نظرات كل المارين ممن يعطون ويثرون في هذا السفر العظيم.
القصيدة العربية خلقت مكونات وجودها ولم تقل أي قبيلة عربية أن هذا الشاعر أفرط في المعنى وداخل البطولة في الرثاء والعشق واستهوته سلوكيات هذا الخلط، وعدم الترابط في التسلسل للمعنى واللفظ.
المجتمع العربي هو الأساس في تكوين شخصية الشاعر، وهو الذي أملي عليه الرغبة في هذا التعدد والانشطار، وقبل منه هذا البناء للقصيدة.
إذا قلنا أن هذا ينطلق من ثقافة تلك المرحلة نخرج من مدلول الحكم الجائر إلى منطقية الحوار. وإلا كيف صار للقصيدة تلك المؤثرات حتى في صياغة التاريخ العربي؟!
اللغة هي الأداة والغاية ومن داخلها تنمو بقية الأطراف والرؤوس.. أي أن الفعل للغة وحدها حتى لو لم تلتق على معنى يربط ذلك التشتت في وحدة واحدة.. والكلمة هي البطل والعاشق والمرثي، أي نستطيع أن نقول إنها مرحلة تجويد، اللغة واحتوائها كمظاهرة عنيفة بين اللهجات العربية وقبائلها حتى اللغة القرشية التي تلتقي عليها طقوس وتجارة العرب لم تظهر شاعراً محسوباً إلا في وسط تاريخ الخلافة الأموية حين كان الاستقرار والتواصل مع بغداد ودمشق وميلاد المجتمع الأرستقراطي في المدينة ومكة.
لنترك تلك الجدلية التاريخية الطويلة لأنها تتوازعها مفاهيم المؤرخين وغيرهم ممن يجتهدون في تعليل وتفسير كل ظاهرة، وربطها بمجمل عللها.. لكن الذي يواجه أي باحث أن واقع الشعر العربي ينقسم إلى متعاطف مع التاريخ ليفك حالة الاضطهاد الذي يعيشها التاريخ العربي الحديث وسط كل الشكوك المطروحة حوله.
وبين من تسيطر عليه نزعة الحرية المطلقة التي لا ترى في التاريخ إلا طرفاً ثابتاً، ومجرد التفكير فيه رجعية جديدة، بدعوى أن كل جيل يستحدث تاريخه.. وهذه النزعة وفدت من الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب وكان تيارها محمولاً بوسائط عربية كثيرة.
هذا المخاض فعل سلطته في اتجاهات الأدب العربي الحديث الذي لم يحمل خطه الواضح وإنما تكسرت جسوره على ثقافة غربية بحتة بحكم تواصل الاستعمار وانتشار حضارته الحديثة وبقدرة تأثير هذه الثقافة الناضجة على الأجيال العربية الحاضرة.
الرفض، الآن لم يعد خصومة المحافظين والمجددين بقدر ما هو تطور في المفاهيم الإنسانية ومحاولة احتواء الثقافات الأخرى في دائرة الثقافة الأقوى والأشمل.. وهذا هو سر البحث عن هوية أدبية في العالم الثالث.
فإذا ما خرجنا من أفقيات الثقافات الأيدلوجية، ومعميات السريالية، والمعقول، واللامعقول، نجد ظاهرة عدم الوضوح جرت معها سلبيات ما أصبح يسمى بالتجديد ولو كان هذا التجديد لا يحمل مضامين جديدة تتخطى الواقع بكل توتراته وانفعالاته.
مسألة الغموض – مثلاً – تنجذب من منحنيات كثيرة، بعضها يحمل قواعده وأصوله من الفلسفة الغربية ويتصل بعلاقة حميمة – وإن عربت – إلى التجديد في أصول الشعر الغربي، وهذا الذي يشكل في البدايات الأولى لمرحلة الشعر العربي الجديد بكافة رواده.
الجانب الآخر حمله رواد التجديد ممن تطرفوا إلى القصيدة (الإلكترونية)، حتى سميت المرحلة السابقة أي جيل السياب وأصحابه بالكلاسيكية الجديدة.
حالة الغموض قد تحمل بعض المبررات الصحيحة، ذلك أن التعبير المباشر الذي حلق في سماء الميدان العربي، وخاطب تلك الانفعالات والحماس الذي احتاجته تلك المرحلة في إذكاء روح العروبة ونضال العرب، لم يعد في الوقت الحاضر يخاطب هذه المرحلة لأن الأساس في التعبير وإن لم يقتصر على الشعر وحده إنما تعدى ذلك إلى القصة والرواية والمسرح من خلال مخاطبة الوعي الحضاري للإنسان العربي أي الانتقال إلى التعبير غير المباشر بأقصر الجمل وأكثفها إثراءً للإحساس واستلهاماً للتاريخ والأسطورة كتعبير مضاد لتلك الواقعية المنقولة «فوتوغرافياً».
من هنا جاء ما سمي بالغموض لأن حدود المألوف التي عرفها الشاعر العربي تعتمد بالدرجة الأولى على الموهبة دون معرفة أن حدود الثقافة صارت متداخلة ومرتبطة بمكونات التاريخ وتطور الحاضر.
فعلم النفس والاجتماع والفلسفة والصراع السياسي، مجالات الشاعر ووسائل استخدامه وإن كان المحتوى يظل ذاتياً، ولكنه يخاطب اللامحدود في الكائن الطبيعي والبشري..
إذن الغموض في الحالات الحديثة يأتي من استخدام الشاعر للزمن كله كمواجه طبيعي للإنسان، وبالتالي صارت التجربة والمعاناة تعايش التاريخ الثقافي للحضارات كلها، وصارت الموهبة وحدها تعطي الاستعداد لخلق شاعر، ولكن هذه الصنعة لا تتحقق إلا بتصادم الشاعر مع هذا التراث الإنساني واستيعاب ثقافة الأزمنة كلها بدون حدود الماضي والمستقبل والحاضر.
القبيلة العربية الوحيدة في التاريخ التي علمت وثقفت أبناء المدينة، كانت مدرسة لا يتحقق شرط وجود الشاعر إلا باجتياز ذلك الامتحان اللغوي الصارم، ذلك ما أستطيع تسميته بمرحلة تجويد اللغة.. وكان لسان القبيلة هو الحسم في أي خلاف في مرحلة وضع قواعد اللغة العربية حتى أواخر العصر الأموي.
في الحاضر صار التراث الإنساني – بفضل التواصل – ميدان الشاعر، أي أن عنف رقصات قبيلة أفريقية تلتقي مع ترانيم «أبنشاد» الهنود، وتختلط مع صرامة الفلسفات المادية.. كذلك تلتقي روائع مايكل أنجلو، مع قصائد العذريين، وشكوك أبي العلاء، وتهويمات الصوفيين.
هذه البيئة الإنسانية شدت الشاعر العربي الحديث إلى خلق مغامرة جديدة في الكائن الشعري الجديد إذ لم تكن مصادفة أن تولد القصيدة مع هذا المركب الحضاري، خارجة عن تقليدية العزف على وتر واحد.. لذلك كانت المجابهة مع المحافظين والتراث وسوء الفهم بين جدلية ثقافتين متباينتين.
الاتهام بالغموض، يواجهها الشاعر وحتى القاص بأن مقاييس الفهم تتصل بالأفق الثقافي غير المنكسر، أو المتأطر لذلك كان وعي الشاعر أكثر شمولية وتركيزاً حتى من الناقد، ومن يقول بعفوية «لماذا لا تقرأون حتى تفهموا» يواجه الحقيقة بتجرد.. أي أن كل التفرعات تلتقي على مصب محصلة الثقافة الإنسانية كلها..
في ديوان الشعر العربي يقول: «على أحمد سعيد «أدونيس»: «الشعر يكتسب قيمته الأخيرة من داخله من غير التجربة والتعبير وليس من الخارج مما يعكسه أو يعبر عنه.. فلا يمكن تقييم الشعر بمقياس اعتباره وثيقة اجتماعية أو تاريخية أو باعتباره تناول موضوعات معينة دون أخرى.. إنه صوت كاف بنفسه، قائم بذاته فيما وراء موضوعه وبيئته»
هذا المنطق هو الذي أوجد التعاكس في فهم الغاية الشعرية والتزامها جانب الفعل في تحريك الموقف النفسي من الوجود كله.
لكن هل الشعر العربي يأخذ بهذا المنطق والتفسير؟! المشكلة التي تواجه الشعر أنه حول مفهوم الحرية إلى فراغ مطلق، لتخرج القصيدة الإلكترونية بافتراضات غاية في السخرية والانفلات.. ولذلك صارت المحاكمة ليست بتقوقع فريق وتطور آخر.. إنما الأمر هو الخوف أن تكون الحرية بيت الموتى لهذا التطور الجديد..
البحث عن هوية شعرية لا يعني أبداً تقييد الشاعر «بلزوم ما لا يلزم» وإنما بخلق ضوابط لا تلغي بدأ تطور أدوات الشاعر.
ميدان الشاعر طويل ومتسع.. ولذلك كسب هذه الحقيقة في أطول جدل في التاريخ، ولأن الشعر ثروة العرب الكبرى، فإنه سيبقى مجالاً للخصومات الطويلة.. وهذه مجرد خواطر تتوسط هذا الجدل.. أي مجرد خواطر..
شيء عن موقف الحياة والناس!!
لن تدخل شخصية المعظم نفسه إلا بواحدة فقط هي وسيلة القوة!!
المفارقة الوحيدة أنه ليس هناك مطلق في الحياة، أي أنك مهما احتميت بالفضيلة كقوة ذاتية نابعة من عمق تكوينك الإنساني لن تكون إلا أداة رخيصة تباع في سوق المحتالين والأغبياء وحتى الطيبين من الناس!!
أنت فكرة، أو مثال، أو أخلاق، إذن أنت موقع لا يرخص له في البناء الاجتماعي إلا أن يعيش وسط إطار التقاليد والظروف، والعماء الفكري، أي أنك أسير معظم الأحكام الجائرة والسريعة!!
فأنت ضحية التربية التي أوقفها عليك أبواك والمجتمع، وأنت بعد ذلك، ضحية أي نمط من التفكير والسلوك ولأن مجتمعك لا يراك إلا بالزاوية التي «يكيفك» هو أمامها فأنت مقبول في جنته لمجرد رضاه العاطفي أو مدحور لمجرد أن يراك بعين «الغائب» أنك مثال للشذوذ والسقوط.
إسراف المجتمع في رؤياه لن يحددها أي قضية إلا القضية المسموعة ولذلك صارت الحرب النفسية لها مواقعها غير المنكرة أو البسيطة في أي مجتمع لا يعايش العقلانية بحدودها الواقعية.
الصغر المثالي في حياتنا هو أن تكون سلبياً وصغيراً، أو بمعنى إجمالي أن تكون «طيباً» والطبية أن تكون كبقر الجنة لا تنطح ولا ترفس!!
هنا المعادلة الصعبة عند أي نفس تقيس الأمور بمعيار مثاليتها..
فأنت أمام ضمير المجتمع لا تستطيع أن تتحكم بمجمل معايير فكرك وسلوكك لأنك أمام مواجهة محكومة «بقطيعة الأمر والحقيقة» وهنا تنعدم فرص الجدل المنطقية. وتكون الجانب المسلوب الموقف والإرادة وتكون صاحب الصوت الأحادي المهزوم!!
هذا الشعور يقودك لتفكير آخر هو أن محطة الغني الفاحش هي ذات المحطة التي يقف بها الفقير عارياً ساخطاً.
فمثل ما تدرك وتشهد أن الغني وسيلة تغير في السلوك إلى الدونية الأخلاقية من حيث البحث عن المظهر والتسلط وإيجاد وسائل التعويض بأي طريق كانت، فإن الفقير بذات التفكير يشعر أن الوجود عدواني وسخيف ولا يوجد ظاهرة تقبل انتماءه له إلا وسيلة القوة وحتى لو كانت بطريقة السطو، وانتحال أي شخصية كانت فهذا هو المنطق الطبيعي للمعادلة القائمة وأنه لم يفترض هذه القواعد والأسباب إنما وجدت قبل وجوده وذلك فعليه أن يوجد نفسه في هذا المحيط المتأزم مهما كانت الصور المقلوبة ولهذا الشعور موقف، يفرغ المثالية إلى نوع من التحدي قد يكون مع الأنا المهزوم تحد يتفرغ إلى الجريمة أو الانعزال والتفرد في فلسفة خاصة ذاتية.
النفس البشرية ليست محدودة القدرة على الإبداع والابتكار ولكن في محيط ما تتيحه من حرية مقبولة عند الطرف الآخر.
وهذه هي أزمة الانسان مهما تعددت العصور لأنه دخل لمخلوقات لا تدرك ماذا يجب وما هي أسس تكوين المجتمع العقلي والفلسفي، ولأن المفكر يؤمن بحرية الآخرين فإنه يتنازل عن الحرية الذاتية، ولذلك لن يجد البديل إلا أن يحطم أسسه ومجمل ما يفكر به لأن التفكير بالآخرين هو الأمر الطبيعي والحيوي.
ليست الأنواء والتغيرات الطبيعية هي التي تكيف ظروف الإنسان – كما يدعي الطبيعيون – وإنما هي دواخل الانسان الكثيرة التعقيد، والتسلط، وخليط الماضي والحاضر، وبوليسية الضمير الغائب، هي التي تكون هذه الذات المأزومة والمهزومة.
تلك ما يصاحب العالم الغربي أيضاً بالغوص في انفرادية الذات، والبحث في المخدرات والضياع كبديل عن هذا السجن المادي العنيف.
«فالشرق شرق.. والغرب غرب، ولن يلتقيا».. وتلك حقيقة لم تكن جغرافية فقط وإنما هي حاجز تاريخي ونفسي تولد ونما مع عوامل الطبيعة والإنسان.
التاريخ/ 17 – 4 – 1401هـ
0 تعليق