محضر «أ»
هذه هي المعلقة العاشرة.. قرأ المدير السطر الأخير منها، ذيل بقلمه الأخضر تحت توقيعه اسم «المعفر نفسه بالمداد حكم بن سعيد»!
البيان الثاني للمحضر: «سقط سهوا اسم «معموس بن صلوح» من قائمة المعضلوين بدون عفو، وفقاً لقرار دائرة المحافظ الثاني، لمرور شهر من تاريخه، دون أن يحضر إلى دائرة الأحوال العامة.
يقرأ على الصفحة الثالثة عشرة… «يمنح علاوة تشجيعية زيادة على علاوته الدورية، ويكتب خطاب شكر يوضح عليه الدرجات التالية.
الحضور ۸۰٪ الصمت ۱۰۰٪ الإنتاجية 15% الابتكار ۳٪ المجاملة ۸۷٪!!
يمهر توقيع مع الأرقام الثلاثة للأشخاص الذين وقعوا على المحضر.
حاشية:
ينتدب للمأمورية المشار إليها بالفقرة (ب) (أحمد) لمدة أربعة أشهر ابتداء من ليلة 16 صفر.
في زمن الإجازة!!
قرأ للناقد الأمريكي «والتركيز» رأياً عن المسرح الحديث «كافكا.. جويس – بيكيت» أن مسرحياتهم شاذة وغريبة.. أن هؤلاء الكتاب ينظرون إلى مصير الإنسان وكأنه يعاني من انحدار يجتاح حياته.. إنهم يقدمون شخصيات لا تترسب إلا في عقولهم أو في محيط معاقل الأمراض النفسية..»!!
ثم يعلق: «من الطبيعي أن مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية، مهما كان سيئاً فإن به من الشخصيات الجيدة والنافعة ما يمكنه أن يصبح نموذجاً يحتذى به للشخصية المسرحية النافعة، وحتى لو في مدينة نيويورك معقل العنصرية»!!
يغلق مجلة «الفصول الأربعة» التي نشرت هذه الترجمة.. يشعر أن رأسه في حالة صحو غير عادية.. يتساءل..
- «لقد قرأت الخيام ولم اعرف إذا كان سحر اللغة العربية هو الذي أعطاه هذا التفوق حتى على الشعر العربي، أم أن الشاعر حقق هذا التوتر والاحتراق في الخطوط النفسية بلغته الأصلية.. أم أن حس الشاعر «رامي» كان محوراً في خلق هذا التناسب الروحي؟!
أن تفصل القطرة من بحرها ففي مداه منتهى أمرها!!
• • •
الشاعر الغربي أيضاً جعل حتى من قبح الصورة عالماً رائعاً، حينما تخيل حبيبته ذات الشفتين الدافئتين مزرعة للدود، وانبعاث الروائح الكريهة بعد موتها.. ذلك ما يخرج عن دائرة المحسوسات والعقل إلى منطقة الحلم، والسباحة فيما وراء حدود العقل..
«الخيام» حرك سكون الأرقام، والأنابيب، وأعطاها لغة راقصة.. نسي مختبراته وتجاربه، وغلب عليه تفوق الذات الشعرية على صاحب الحقائق العلمية»!!
يتساءل ثانية..
- «كير» على حق يبحث عن صحو عالمي، لا يخاصم الواقع، أو يزرعه بالأمراض النفسية، وتلك حلقة في خصومة غير متكافئة.
الذين يصممون الآنية، والمسجل، وكراسي القاعة الضخمة، يسرقون من أنظارنا تلك البهجة بالفن، لأن هذه الأشكال لمجرد المنفعة العابرة.. بنفس الدرجة المبشرون بالعدمية، والجنون، والقلق هم ظاهرة منسوجة في رداء تلك العجلة المرقمة في المصنع والمتجر، ودائرة الحسابات العامة..
الفنان لم يكن مبشراً، وضحكاً، ولا سلبياً ليعالج ذاته بطقوس «اليوجا» أو الغيبوبة في أديرة «البوذيين».
لماذا يختار الفنان الأزمة والحصار، ويجر عربة طويلة محملة بالمغفلين من البشر ليتناسخوا في «غيتو ساما» بطل كافكا أو «غودو» بطل «بيكيت»؟!!
كما عرفنا فالأول يعامل العالم الخارجي، وكأنه حالة غير منسجمة، وأن هذه التلقائية التي حصل عليها الوجود بتكوينه أصبح معتقلاً للإنسان وبالتالي نبتت له إضافات حشرية هي من صميم شذوذ هذا التكوين..
الثاني، يحاكم العالم من باطنه العميق، أي أن الإنسان حقق بعقله وضعاً مأساوياً، وتلك هي الأرض حين يصبح وليدها يحفر له القبر بذات اللحظة!
العيب لم يكن بشرياً، ولكنه تفوق العقل المزيف حتى عند الكاتب.. وأولئك المبشرون من النقاد، والمغفلون من الحضور من بعده.. لتلك الأعمال المسرحية جاءوا للبحث عن جديد.. وفي هذا لا يختلف مصمم الأثاث والآنية، والأزياء، عن خالق الكون المسرحي إلا بهذا الحشد المغفل وراء أي شيء يبدل الموقف والحركة.. وهذه صنعة المعاصرة السيئة!!
قراءة رابعة:
يسجل في المحضر القادم غياب اثنين من العاملين في سجل الوظيفة لينقلا إلى سجل الوفيات!!
يرقم على بطاقة الأول خمس وعشرون عاماً خدمة، وثلاث عشرة سنة إجازات متأخرة.. حسم أقساط الزواج للبنك، ويرفع باقي الضمان التقاعدي «أمانات» حتى يسدد السلف المستديمة عليه!!
ثلاثة تواقيع.. وتاريخ السابع منه!!
على هامش الدوام!!
يفتح الصحيفة: «رزقت مهمومة بنت على بولد ذكر» !!، يضحك.. يرمي زجاجة «الطامس» الأبيض على المعاملة المؤجلة!! يعيد القراءة.
«يحتفل العالم بمرور مائة عام على وفاة الكاتب الروسي العظيم «فيدور دستويفسكي»!!
يفتح زجاجة الطامس، يشطب على كلمتي (وفاة.. وميلاد) تسحقه لحظة احتراق حادة.. يتذكر …
الكاتب الروسي لم يتخرج من جامعة، عانق الموت، والعفو بلحظة درامية عجيبة.. في لحظات الصرع كتب أعماله العظيمة..
«الأمير مشكين» في الأبله، يعانق سعادته رغم سخرية الناس من تصرفاته.. «دستويفسكي» يري في شخصيته المبشر بعالم متسامح ولو كانت تلك الشخصية «مازدكية» مريضة.. تلك هي الضمير الذي لا يتزيف وهي الحقيقة المباشرة لإعادة روسيا إلى عالمها المثالي»!!
يقفل زجاجة الطامس؛
- «مهمومة» وولد، ورأس قرن جديد.. عجيبة أن تصادف وفاة كاتب روسيا العظيم بداية القرن، وميلاد «بن مهمومة» العربي!!
بعد خمس سنوات سيقرأ هذا الطفل الجديد أن قانون الرياضيات المعاصرة يفرض نتيجة جديدة وهي أن حاصل ضرب قرن × قرن = ثانية في التوقيت المحلي لمدينة واشنطن!!
سيوقف في أكثر من دائرة جوازات عربية للتفتيش والمعاينة، وسيقفل مطار روما لمدة ساعة، ويعلن حظر التجول، لمعرفة ما إذا كان قد قرأ «لدانتي» أو شاهد تمثال «داودو»!!
أما إذا مرض، وتعطلت قواه العقلية، أو مات في علب احدى السيارات اليابانية، فان (مهمومة) لن تدري بتلك المصادفة التي جاء لها ابن عربي بعد مرور مائة عام على وفاة «دستويفسكي»!!
ملحق لمحضر «۱۳»
«تكف يد الموظف «الساحلي» وفقاً لما جاء بمحضر اللجنة الابتدائية والتي وجدت أن المذكور قد استعمل سيارته الخاصة في الأعمال الرسمية وصرف من الخزينة قيمة الوقود، بعد أن تعطلت سيارة المكتب.
وحيث أن هذه مخالفة لنظام المادة الرابعة للصلاحيات الممنوحة له، فقد تقرر على ضوء ذلك إيقافه على ذمة التحقيق حتى تشكل لجنة أخرى في البت في القضية»!!
ملحوظة: ينتدب بدلاً عنه موظف من الإدارة للقيام بالعمل بالتكليف فقط، وتقرر مصاريفه السفرية لاحقاً!!
«تواقيع»!!
• • •
قال الجاحظ في كتابه «البرصان، والعرجان، والعميان، والحولان» «.. وكان كلاس، ومقلاس أخوين، أحدهما أيمن، والآخر أعسر فكان الأيمن يفخر على الأعسر فأخذا في سرق، فقطعت أيديهما، فكان الأيمن لا يستطيع أن يعتمل بيده، وكان الأعسر يعمل بيده العسراء أعماله كلها على صحته وعادته.. ففخر الأعسر على الأيمن بذلك، فقال الأيمن ما علمت للأيسر فضيلة إلا أن يسرق فيؤخذ فتقطع يمينه.. قال شاعر
«وما تفعل فإنك حذلمي
يمينك حين تبسطها شمال
والحذلمي «القصير الذي يتدحرج في مشيته»!!
• • •
لم يكن الجاحظ إلا ذا عاهة جبار، وقد خرق ناموس العقدة من التشوه «الخلقي» (بفتح الخاء وتسكين اللام)، عاش عصره مؤرخاً وعالماً، ومحاربا عنيداً، وساخراً من كل شيء.. تلك هي الشخصية الصحيحة النفس..
يسخر من نفسه.. يسأل:
- «ترى هل ذلك الكتاب محضر غير موقع إلا من عصر الجاحظ لأصحاب تلك العاهات»؟!
تبادر إلى ذهنه ذلك الساخر العنيد الذي يكره «فيروز» حين قال: - «صويلح.. ودك لو ضرسك ملجلج، وما في الراديو إلا فيروز.. يا طول ليلك»!!
رد عليه.. - «الضرس أقلعه، وأصك الراديو، وجعلك أصمخ وأعمي يسحبونك لفراشك»!!
قالت جدتي:
كان راعياً بعيش حياة الصعاليك، ينام بين إبله.. طعامه التمر والماء…
عاشت معه أخته إلى سن الأربعين، وقد عُرف بين القبائل بالتائه البخيل!!
عرف اقتفاء الأثر، والأزمنة الأربعة، ومتى تختفي الثريا ويطلع «السماك».
قالوا إنه وجد غزالة تجري ووراءها ذئب عجوز.. طاردهما الراعي رمى بسهمه الذئب العجوز.. قتله.. قالت أخته..
- «شجاع. وبطل» !، قالت الغزالة..
«إنني أدعوك إلى كنز جديد سيغير كل حياتك»!
سأل الراعي.. - «وهل نركب ناقة، أم جملاً»؟!
- «لا هذا.. ولا ذاك! أغمض عينيك دقيقة واحدة»..
- ثم مخاطبة أخته …
- «وأنت ابعدي عن هذا المكان، فإن الشجرة التي تقفين عندها ستحترق»!!
قال الراعي.. - «إننا لا نحمل زنداً، ولا نعرف النار إلا في مضارب قومنا.. فنحن نعيش على التمر واللبن.. فكيف ستحرقين شجرة خضراء نجلس في ظلها كل ظهيرة؟!
وضعت الغزالة يدها على عيني الراعي. اختفيا في قاع الأرض.. خاطبته الغزالة.
۔ «أنا ناعسة.. صبية جنية، كان هذا الذئب يطاردني وكان من شيمة قبيلتنا أن لا يجوع أحد بأرضنا، ولذلك نعمل قرعة بين الفتيات ومن تقع عليها هذه القرعة، ترسل طعاماً لهذا الضيف، وطالما أنك قتلت خصمي، وأنقذتني من الموت، فإنني سأقدمك إلي شيخ مشائخ الجن ليجازيك على فعلتك.. - «ارتجف الراعي.. قتلته المفاجأة.. ضاع تفكيره.. قال لنفسه:
- «جن، وعفاريت، وغزالة.. وشيخ معزول تحت الأرض»..
غزالة عرفت حيرته، نفذت بحدسها إلى ما يجول بخاطره.. خاطبته.. - «قل فقط لشيخنا إنني لا أريد إلا أملاكي فقط.. وحين يسألك عن شيء آخر.. قل هذا مطلبي»!!
قالت جدتي: - «إن الراعي عرف أن الإبل والغنم التي رعاها طيلة سنينه الماضية كانت تحت سلطة جنية خرساء، ملكت نفس الراعي المسكين، وأخرجها منه شيخ العفاريت!!
سألتها.. وكيف أصبحت حياة الراعي، وأخته؟! - «أما الراعي فأصبح شيخ قبيلته، فقد بنى بيتاً بخمسة أعمدة وتزوج (جلوي) وصار أكرم وأشجع قبيلته.
وأما اخته فقد تزوجت وأنجبت طفلة أسموها غزالة، عاشت في وادي الجن فترة طويلة تداوى المرضى بالأعشاب، وتفصد لدغات الثعابين والعقارب…!!
• • •
رحمها الله.. لقد مات ذلك الحلم الذي جسدته جدتي في حكاياتها، وأساطيرها.. يوماً ما ناولت أمي (حرزاً) قالت إنه من جلد الذئب.. علق برقبتي حتى سن السابعة..
في العاشرة لطخت ذراعي، وقدماي بالنار.. كانت الحكمة التي عاشت في حينا، أن «القدحة» تقوي الأعصاب، وتجعلنا عدائين نسابق الريح، وتبعد عنا العفاريت إذا ما علقنا «حرز» جلد فوق رقابنا!!
محضر (ب) ۱۳ الإلحاقي:
لقد ورد في ملحق المحضر (۱۳) مخالفة «الساحلي» للصلاحيات الممنوحة له..
وبما أن ما جاء في محضر اللجنة الابتدائية، كان منحازاً ومتجاوزاً حدود النظام فقد تقرر الآتي:
«يعاد الساحلي إلى عمله، وتصرف رواتبه، ويمنح العلاوة والترقية، وتحال اللجنة الابتدائية إلى لجنة التفتيش الجديدة، بعد أن تم كف أيديهم جميعاً»!!
• • •
تناول «الساحلي» صورة القرار من الصادر.. أرفق معها استقالته وطلب تصفية حقوقه..
قال مدير الشركة..
- «ولكنك عدت مكرماً محفوظ الحقوق»؟!
ابتسم بكبرياء.. - «ولكن من يعيد لي حقوقي المعنوية بعد الاتهام الذي وسمتموني به؟!!
- «هذه قضية يتعرض لها الكثيرون، ومصدر الخطأ التقييم الخاطئ بالخطأ، والمخطئ عليه غير خاطئ»!!
- «قصدك تقول المخطئ بريء حتى يثبت خطؤه»؟!
- «نعم.. وهذا ما أردت التعبير عنه»!!
- «شكراً.. خط خطين.. وامح الثالث.. هذا قراري الأخير» …
التاريخ/ 24- 4- 1401هـ
0 تعليق