لم تمنح ترخيصاً بالإقامة على تلك الأمتار الصغيرة من الأرض!!
محيط من اللهب الأسود يقرر إحراقها واقفة!! نسيت عناقها مع القمر، وكيف أن جديلتها كمروحة من ريش النعام (تهف) على صاحبتها لتنام في حضن القمر.
ضاع من قلبها الفرح.. لم تعد هزيمة الجوع لحظة (يحمد الله على نعمته)!! سقط مخزون الحب، وبقي الدفتر المعمور بالأشعار، والغناء.. دفتر للحساب ونظريات القوة.. والبحث عن شرط للبقاء بين أزمة المدن المحاطة بالسعال والميكروبات والأفيون..
التصقت جديلتها على سارية مدرسة للبنات، كضيف خجول قهره الزمان. (النظيف)!! أطلت بحياء، تشاهد الأقدام الصغيرة تزحف أمامها..
الحارس الكهل يسرق من لحظات نعاسه انتباهة مفاجئة على صوت عجلات السيارة.. تنزل الصغيرة وقد ربط مؤخرة جديلتها بزهرة اصطناعية!! الحارس يدير سواكه للمرة العاشرة … يستغفر الله ويدعوه أن لا يرى. (الكالحة، والناطحة وأركان الشر الثلاثة)!!
وقالت مرة، أن الجوع هزيمة بشرية وأن عقد قران بين الأنانية والحرب قد تم بعد أن فتح أول فم في الوجود!!
صغيرة أخرى تسحب شنطة أكبر من قدرة كتفها الصغير.. العجوز ينهض لمساعدتها..
قالت المدرسة:
- (النخلة وضعت شعاراً حتى على تقويم التأمينات الاجتماعية)!!
اعترضت البنت الصغيرة.. - (ولكن أبي قال أن النخلة هي التأمينات الاجتماعية لأبناء هذه الصحراء)!!
المدرسة تطلب التصفيق للطالبة الجريئة.. تصرخ زميلتها في الفصل.. - (التمر – يقول الدكتور – يسوس بالأسنان)!!
الثالثة تطلب الكلمة.. ترفع يدها.. المدرسة تمنحها الإذن.. - (النخلة في بيتنا مكتوب على جذعها يعيش نادي (الهمل)!! يا (أبله) النخلة تلبس أي شعارات الأندية)؟!
تضحك المعلمة.. ترد - (شعار النعمة)!!
- (وخوي) الكبير صبغ رأسها باللون الابيض شعار ناديهم)!!
- (طيب.. عاشت النخلة في نادي الجياع بالأرض)؟!
• • •
صفارة الحصة الثالثة.. تفرق الصف العنيد لطالبات المتوسطة..
الحارس الهرم يجر عصاه، يسحب معه سنواته الستين.. عرفها لا تهرم أبداً.. تحاكمت عندها الأجيال، طلبت استفتاءً حراً.. عرف أنهم مهروها صداقاً كبيراً.. طلبوا أن ترقص على همس الريح.. أن تحكي عن النسغ الحلو في شفتيها!!
الشيخ العجوز يتذكر أنه أول من شاهدها في ربيعها الخامس تدفع من وسط قلبها أول حمل جديد!! اختلف النسابون إلى أي العائلات تتصل برحم؟!
قالوا إنها أول اليتامى الذين وجدوا في متاهة الأرض البكر.. وقيل إنها أول من أرسى ظلاً في المناطق المشمسة..
فازت في أول مسابقة للرقص، وعرفت بأجمل تسريحة على الأرض، (سقط سهواً) من أحد الأسفار أنها لا تحكى، ولكنها تغني!! برجها كتب في شهر «سعد السعود» لا بسعد الذابح!!
(كل الاجيال تحاكم ماضيها… التورط في دراسة التاريخ وبأنه غير موضوعي لأن الأحداث متناثرة على الزمن، يربطها الإنسان بكيفيته العاطفية أو العقائدية)!!
تسأل الطالبة..
- (ولكن المنهج لم يتحدث عن نشوء الأمم غير العاقلة.. النخلة، وإن تعددت فصائلها، تكسب هذا الثبات في الموقف الإيجابي من الإنسان.. هي تعطيه بحس الكريم..
قيل إن الحروب وحدها التي عادت النخلة!!
هناك مدن حوصرت لم تستسلم إلا بعد حرق نخيلها!!
يسمع الحارس، دقات ساعته (الخراش) بغرفته.. يسحب من جيب صدره، ساعة الجيب، يقفز غطاؤها النحاسي.. - الوقت على «الدستة».. الشمس عمودية.. لم يعد للنخلة ظل.. سأله مرة «علي» الدلال..
- (وكيف انتهت أملاككم من النخيل لتصبح حارساً في هذه المدرسة)؟!
لم يعجبه السؤال، لأن الماضي كحصة التاريخ، ذكريات تروى الحقيقة فيها نسبيه، لكنه أدرك أنه معلم يروي تاريخ هذه الأرض.. - (كلنا من التراب.. نحن والنخلة الجذور واحدة، وإن اختلف النوع.. باعوا الأرض بعد أن تحددت معالم جديدة للمدينة!! أرضنا كريمة انتزعوا مدرسة للبنات.. الأنثى هي الحقيقة القائمة على هذه البقعة الصغيرة.. أي أنها الرمز المعنوي للبقاء.. لو عرف جدي قصة هذه الأرض لأوقفها بيد معلم لتحمل اسمه ليصبح كأحد الفاتحين لمدينة الأمية)!!
يكرر السؤال (على الدلال).. - (ولكن هذه النخلة محاصرة بجحيم الأسفلت.. كلاكما غريبان، أنت وهي.. أنت حارس أمي في مدرسة متوسطة.. وهي قائمة في محيط لا يفترض لها البقاء تحت سارية هذه المدرسة.. أيكما التاريخ.. ومن هو الراوي؟!
يقطع الحوار نزول أربعة أشخاص.. السيارة الكبيرة تحمل رافعة وأربعة فؤوس ومنشار كهرباء.. يسأل المندوب..
تزحف ابتسامة صفراء على الحارس.. يستعجل الرد … - (وهل أنت مبعوث منظمة الأغذية والزراعة الدولية)؟!
يضيق المندوب بهذه السخرية المبطنة. - (لا.. مندوب البلدية.. وأحمل قراراً معيناً عن هذه النخلة)!!
على الدلال تأخذه المفاجأة.. يوزع نظراته بين الحارس والمندوب.. يركز الحارس عصاه.. يجيب.. - (وما هو القرار البلدي)!
- (أن تقطع النخلة)؟!
- (ومن يصدر قرار إعدام الأحياء، ولو من النبات)؟!
- (هذا الأمر، جاء من اللجنة.. وهناك شكوى من أن هذه النخلة قد تكون طريقاً لتهديد أمن المدرسة)!
- (الذي أعرفه أنها لم تكن سلماً للصوص.. ولا طريقاً للمنحرفين طول تاريخها الذي عايشته)!!
• • •
على الدلال يذكرها بفستانها الطويل، توزع تلك الابتسامة الحنون بين ركاب (الجامبو).. على مدى التسع ساعات بالرحلة الطويلة لم يذبحه حصار الساعات..
قبل النزول للمحطة الأخيرة.. سألها إن كانت تحمل قلماً.. سحبته من جيب صدرها.. ناولته إياه.. نسي الاسم، والإقامة، وتعبئة بطاقة للدخول!!
كالممسوس بتيار خفي لا يدري لماذا هذه الرعشة.. القلم الذي رقد على صدرها ماذا يقول.. كيف يصور رياح الفصل الشتوي والربيعي المخزون في نبضها.. أي الفصول أحب إليها.. وما الألوان التي تعشقها.. الكذبة الكبرى أننا نقول بالحب معاني تبدعها أنانيتنا.. حب التملك، حتى للجماليات من (الجماد) ترغب باحتوائها.. الحصول عليها..
المضيفة كنخلة الحارس.. لكن العاشقان مختلفان بفارق السن، والتفكير، والمزاج..
ما هي أول الكلمات التي كتبتها في دفتر عشقها، أي إمضاء وقعته على صورتها لمعجب يرحل ولا يراها.. هل تكون شاعرة.. مغنية.. ولكن كيف تصبح شاعرة، وهي كتاب يقرأ كل يوم بجميع اللغات وعلى مسافة آلاف الأمتار من الأرض..
أفزعته مفاجأة سؤالها..
- (من أي بلد أنت)؟
- (من قطر النخلة)؟!
- (واسمك الحقيقي)؟!
- «عاشق الدلال»؟!
تطير به الذكريات.. الحارس لم يقاوم قطع النخلة.. شاهد اغتيالها بأمر من المأذون غير الشرعي.. حملوها بالسيارة الكبيرة.. شيعها بدمعه.. قدم معروضاً كتب عليه طلباً بالنقل إلى خارج الحارة، على الخط الدائري، أو في حي الجنود.. لا يهم.. ردت مديرة المدرسة.. - «ولكن ألا تشعر أنك تفارق بناتك بالمدرسة، وأنت حارسهم»!!
بغرس عصاه على إبهام رجله.. - «البنت الوحيدة التي جعلتني أتعاقد معكم ماتت بقرار من البلدية.. ولم يبق من حريتي إلا أن أملك قرار عبوري إلى اتجاه آخر.. أرض جدي لم يعد بها شبر أو متر لقبري.. المدرسة وحدها هي الذكرى.. وحتى لا يأتي قرار آخر.. أريد أن أعيش على الذكرى فقط»!!
- «الحزن لا يكفي.. ورأيك هذا كالمحب من جانب واحد» !! قالت ذلك المديرة..
على الدلال ولد في (شباط). والحارس في تشرين ثاني.. نسي تلك المداعبة من الحارس..
لو شاهدها بالطائرة.. مس قلمها.. سمع سحر صوتها هل يستبدلها بغرام النخلة؟!
• • •
يعلن جرس يوم الأربعاء، نهاية الدرس الأخير.. العطلة نصف السنوية تبدأ اليوم.. قال الراديو..
- «جاءنا أن أمطاراً غزيرة سقطت على الجناح الشمالي، والشمالي الغربي من البلاد.. جعلها الله أمطار خير وبركة»!!
يحرك المؤشر إلى محطة عربية ثانية.. - «سقطت المدينة العربية الثانية في أيدي الأعداء.. الخسائر بالأرواح قليلة»..
يضحك.. - «والنخلة تسقط في زمن المطر»!!
حديث عن المنسيين!!
الأستاذ «فهد العريفي» طالب بتكريم الأستاذ سليمان السكيت المعلم الأول في حائل.. وأستاذ أجيال كثيرة..
الأستاذ «عبد الله بن خميس» عقب على هذا الموضوع.. التطابق بالرأي كان إيجابياً.. لا لأن سليمان السكيت يمثل موقفاً من التاريخ التعليمي.. القضية تتعدى هذه الحدود العاطفية..
لو لم يكتب الأستاذ «صالح البكر» عن أستاذه سليمان السكيت، لأصبح اسماً منزوعاً عنه حتى صفة الفعل الماضي!!
الحديث يجرنا لحالة الجزع المر على هذه الشخصيات الرائدة في وطننا.. كثيرون هم الذين منحونا أشياء عظيمة، ونسيناها..
مجلة اليمامة أسسها «حمد الجاسر» وجريدة الجزيرة أسسها عبد الله بن خميس، ولولا أن الاسم المعنوي معلق على زاوية المجلة والجريدة لنسي الاثنان.
مجلة اليمامة «مثلاً» لم تتكرم وتعلن جائزة باسم مؤسسها لتمنح هذه الجائزة للأستاذ أحمد السباعي..
والجزيرة هي الأخرى يمكنها أن تواجه مشروعاً مماثلاً في خدمة أي جانب ثقافي.
القضية أننا ننسي واجبات هامة، وهذا باعتقادي عقوق مباشر لتلك الفئات الحية..
سليمان السكيت أعرفه، مغامراً بسعادته، وراحته، أعطانا الشيء الكثير هو وصاحبه الأستاذ «صالح الطويرب»..
لقد قلت مرة أن من باب التكريم، أو الاعتراف ببعض الجميل أن تسمى الشوارع، والمدارس بأسماء هذه الشخصيات.. وقلت أن مدرسة كالمدرسة السعودية التي سقطت، وتعيش بدون هوية، أو مبنى، وهي المؤسسة قبل (45) عاماً نسيت كتاريخ هؤلاء الرواد.
حائل كلها ملزمة بتكريم هؤلاء، ولو سار هذا التقدير في مدن المملكة الأخرى، لقلنا أننا بخير..
لا يكفي أن نشعر بالمرارة والألم، ونحن نشاهد هؤلاء الأشخاص كمباني الطين القديمة التي زحف عليها الزمن وعوامل التعرية!!
الشعور بالواجب، وممارسة هذا الواجب قسمة بين الجميع.. وأروع الأشياء هو أن نشعر الأحياء بقيمتهم لنرد بعض المعروف عليهم.. وإلا كما عرف عنا «نحن العرب» لا نكرم أو نذكر بالخير إلا مواتنا، لنسقط جانباً من الواجب، وكأننا لا نعرف من التاريخ إلا الماضي فقط..
الحق المعنوي..
الأخت «خيرية السقاف» تعذرني، إن جئت متأخراً بتهنئتها كمديرة للتحرير في جريدة الرياض، ولعل عذري هو أن التهنئة من زميل معاشر لهذا العمل، قد يفسر بمجاملة غير مستحبة للجريدة نفسها.. وبصرف النظر عن كل شيء، فإن الزميلة جديرة بأن تكتسب هذا الحق، وإن جاء متأخراً، لكن مجرد الإقدام على إدراج سيدة مؤهلة بوظيفة معنوية كهذه يلغي البعد الرابع عن استحواذ الرجل على كل شيء، كما يقال!!
الأخت خيرية مربية، وصحفية وأم.. ومع هذا تناضل على جبهات عديدة في وضع تناسب بين هذه الواجبات العسيرة..
إن من يستحق التهنئة بالواقع هو جريدة الرياض لا لأنها كسبت أولوية اقتحام تلك الأسباب الرافضة لإعطاء سيدة مهمة كبيرة، ولكن لكسرها حاجز الرؤية القصيرة، لأن المرأة تملك مقومات حياتها وتطلعاتها كالآخرين..
ولأن الأخت حملت معها هذا الفصل الجديد من الطريق الطويل فإنني أرجو لها التوفيق في المسيرة الجديدة، والصبر على مهنة الأشقياء.. ولها تحيتي..
التاريخ / 1- 5 – 1401هـ
0 تعليق