التاريخ/ 1 – 11 – 1400هـ
حين يتعذر عليك قبول واقعك الأدبي، لا يعني هذا أنك شاهد العصر المبجل الذي يفوق هذا الواقع، ويتفوق عليه بأحداث عمل يستحق الالتفات..
لقد تعودنا من واقعنا العربي سرعة تتالى الأحداث وهي حالة لم تستطع التصنيفات السياسية قراءتها لانفراد الموقف بالاتجاه المضاد، وتحليله المسبق لنا من مختلف الرؤى.. ولذلك أصبح الأديب تابعاً صغيراً في هذا المسلسل الرهيب، أو رقماً في خانة العدم!
ما قيل عند الأدب الحزيراني، وأدب النكبة وتفصيلات ونقاط شعر الحرب والسلم، والالتجاء أحياناً للتراث لاستلهام الضمير الغائب في الوجدان العربي، والبحث عن مدلول ملاصق للعصر، ولو في الفرار إلى الماضي، أي قراءة التاريخ كمرحلة جديدة في خلق تعبير يتوازن مع شخصية هذا الفاتح الصغير في محيط الأدب، ومع كل هذا تتلاحق التصورات الفردية، وفق مفاهيم غير مؤطرة، أو محددة.
تساقطت كل الأقمار واللوحات، وظل الأديب ضمن التشويه الحقيقي لهذه اللوحة المتداخلة الخطوط، وصارت الغربة المصطنعة غربة حقيقية بين موانئ المدن الفقيرة، والباحث عن هوية غير عربية تقبله بالانتماء، ولكنه لازال في طرق التيه يتسكع كأي متسول أعمى.
قيل عن الحضارة العربية الشيء الكثير، وزعم أن العربي مراسل صغير الحضارات إنسانية كان دوره الوحيد النقل لا الإبداع، وقيل أيضاً أن المبدع من عنصر غير عربي، ولو كانت أساسيات أي حضارة هي اللغة لا الجنس وزعموا أن الإسلام قام على نزعة الحرب، لا السلام.. وأشياء كثيرة كانت تدرس حتى في المدارس العربية.
قضية مقاومة هذه التيارات لن نصل إليها إلا بحضورنا الذاتي والثقافي، والتفرد بخصوصيتنا الإنسانية والحضارية.. لكن الذي نقف أمامه بحيرة هو كيف تمت تلك الحضارة، وما هي الأسس التي قامت عليها؟
نحن نعرف أن العربي خرج من الجزيرة العربية وهو لا يملك أي تصور لحضارة ما.. ولكنه كان يملك الإيمان العظيم بدينه وموروثه اللغوي والذاتي، وبالتالي استطاع أن يفتح كل النوافذ والأبواب لتيارات الحضارات القديمة، واستطاعت اللغة العربية وناطقها أن يستوعب هذا الكم الضخم من الأسس بدون أي تمييز عرقي وديني. عامل الذمي، والكنيسة، وأصحاب الديانات الأخرى بجانب من العدل لم تتوفر لأي فتوحات أخرى.
في هذا الجو الرائع تمتع الإنسان العربي بأعلى قيمه الروحية، وبأرقى مستويات الحرية الاجتماعية والذاتية، وانطلقت إمكاناته إلى الإبداع والبحث وموازنة الأشياء مع عصرها..
لم يضق الفقيه والقاضي بزندقة حماد، أو مجون الحسن بن هاني (أبي نواس).. وكان أبناء موسى، والرازي وابن سينا يحتلون مرتبة الشرف الأولى..
مدت الجسور للفلسفات الإغريقية، ووسع باب الاجتهاد، ولم تنقطع خيوط التواصل والجدل، بين المعتزلة والصوفية، وأصحاب السلف، ولم يخش الناس من اعتزال أبي العلاء، وأنجاله فلسفة الهند وصوفيتها ولا يعنيهم إطلاقاً أن يكون نباتياً في حين حلل الإسلام اللحوم بمختلف أصنافها.
بمعنى أكثر تحديداً أن الطاقات العربية لم تنم إلا في ظل الحرية التي كفلها الدين، ومن ورائه الخليفة.. وبالتالي تكونت شخصية اللغة، وشخصية العربي، أي كان عرقه في وسط هذه الامبراطورية الديمقراطية، وحتى دينه طالما أن الرسول العظيم كفل الحرية للذمي إذا علم مسلماً أصول القراءة والكتابة!
في عصرنا الحديث استطاع الأدب أن يجد له منفذاً، ولكنه بقي بقيود أكثر من عصر الاستعمار الغربي للبلاد العربية، وصارت الموازين راجحة لكفة مادح قبيلة الحزب السياسي الجديد، أو النظام الذي يستطيع أن يبنى خيمته حول حماه.. لكن الأكثر عذاباً هو أن الهجرة الطويلة لملاجئ العالم لم تحمه من التصفيات النفسية والجسدية وصارت الكلمة لا تسكن إلا حارة أهل النار..
(دريد لحام) صفق له الناس طويلاً في مسرحيته الأخيرة (نخبك يا وطن) لأنه لامس مراحل الغفلة في العقل العربي وشرحها، ودون أكبر شهادة تعذيب للجيل العربي من الخمسينات إلى الثمانينات، ومهما قيل أن مسرحه تحريضي مباشر، وأنه كأي قصيدة مقفاه لخطيب في الجامعة العربية، فإنه يظل واقفاً على مشهد التاريخ العربي الحديث يعلق على الطرق العربية كلها ممنوع الخروج، أو الدخول، إلا بإذن ممنوح من دوائر التحري والجوازات..
ومسرحيته عبرت إلى بعض البلاد العربية لتنفي عن نفسها أنها المعنية بهذه الحقيقة، أو لتثبت أنها سلطة غير مانعة لنشاط المسرح السياسي..
الأديب العربي يمكن أن يعطي للمسرح، للمكتبة، وأن يملأ الفراغات الموحشة في هذا الضمير المأزوم، ولكن بشرط أن يحمل هوية مواطن لا يدخل في قضايا المقاطعة الكاملة حتى لإحساسه..
في روسيا القيصرية لازال يعيش العالم على أكبر عطاء قصصي وشعري للأدباء العظام، ولكنهم في روسيا الحزب الواحد، والنظام التعسفي صارت الهجرة هي الحل.. وحتى (سولجنستين) أصبح موضة سياسية، أفرغت من محتواها، وظل وحده الذي يصوت، ولكنه كقارع الطبول بين عمال المناجم..
لنقف على حقيقة الأديب العربي في ثلاث مراحل: أ- الإبداع.. ب – الانتماء.. جـ – التجمد.. أو الجنون!
في المرحلة الأولى يكون الأديب أكثر براءة، وحرية، ويكون التزامه غير مقنن في أنبوب أي سلطة ما.. أو على الأصح لا يكون لسلطة الشهرة مدخل، ولذلك نجد ثلاثة روائيين هم: (عبد الرحمن الربيعي) في عمله الأول الروائي – الوشم – كان أكثر تماسكاً وصدقاً.
وكذلك (الطيب صالح) و – عبد الرحمن المنيف – في أعمالها الأولى في حين أن نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، قبل توقفه، أكثر توهجاً وتصميماً على التناغم مع الوجود العربي بكل متناقضاته.
وإذا افترضنا أن مجالات الإبداع عند هؤلاء متساوية، وإن اختلفت أسس الإنتاج، أو الالتزام، فإنه يبقى التوتر والتباعد في المستوى هو مجال البحث والتحري.
هل الأزمة في المحيط السياسي والاجتماعي الذي يقيم فيه الكاتب – أم أن الأزمة ذاتية بحتة تتعلق بهموم الكاتب؟
الافتراض في هذا الموضوع قائم على أن كلا الموقفين أداة إعاقة وتحجيم للأديب، لأن المواجهة مع التقاليد السياسية والاجتماعية تحتاج إلى انفراج من كلا الطرفين، ولأن ما درج عليه مفهوم النقد العربي، أن الأديب مبشر بحضارة وتاريخ، وبصار في قراءة المستقبل، هو انتماء لعصر التنجيم والخرافة، ويكفي أن نزيح لوحة الأدب الحزيراني وغيره من جادة الأدب العربي، لأن الكاتب يبدع ليس لمرحلة أو لموقف، ولكن من مجمل هذا التوتر القائم في عصره..
تبقى قضية الانتماء أشد إلحاحاً، ولأن الأديب يهز عصاه في وجه التوقع، فإنه غالباً ما يكون انتماؤه وطنياً أي ليس لموقف أو سلطة، ولكنه بالتتابع يقع قسراً لهذا الانتماء، وإلا ظل أحادي الصوت.
هناك أيضاً الغطاء الأيديولوجي الشرقي، أو الغربي، وهو نتيجة قائمة على فراغ سياسي، ومحاولة تفسير التاريخ من مطلق لجدلية الخارجية، ولذلك لا أجد أي روح إبداعية عند من يمدح ستالين بلغة عربية من أن يمدح عبد الكريم قاسم، لأن هذا الطرح هو للذات العربية كلها وسلخها على ذوات أيدلوجية قد لا تتفق، وخط المستقبل العربي..
أما الانتماء الثالث فهو إحراق كل السفن، والغرق في مساحة الماء لكل الأرض العربية، ويمثل هذا الجانب بكل سخطه وعدميته «عبد الله القصيمي» ولأنه غير متوازن ذاتياً سواء في معتقداته أو سلوكه الفكري، فإنه يسقط على أنه أزمة التاريخ لكل الشعوب المتقدمة هم العرب..
فهم الذين لا يريدون أن تبني إسرائيل وطناً بين ثلاث وعشرين دولة عربية من أبناء «هاجر» في حين أن أبناء (سارة الإسرائيليين) والساميو الحضارة والإنسان يحرمون من إقامة هذه الدولة..
وبصرف النظر عن شذوذ القصيمي ولعنه لكل ما هو عربي، فإنه يخاطب هذا العربي الملعون بنظره وبنفس اللغة، ومن نفس المحيط والبيئة، وهو يعكس أزمة أخلاقية في التعامل، وفي الموقف، ولذلك يبقى مطارداً بلعنته الشخصية..
وبنفس الأزمة الأخلاقية هناك من يطرح ما يسمى بالفكر الحيوي مع إسرائيل، وبدون مخاوف كما يفلسف ذلك كتاب مرحلة (كامب ديفيد) غير مدركين كيف تمت تصفية «غسان كنفاني» وهو الذي وصل إلى قمة الوعي في العقل الإسرائيلي والتعامل معه بنفس العقل والوعي..
فالحرب الفكرية أخطر من حرب البنادق، لأنه الأكثر بقاء وانتشاراً من الأسرار العسكرية، والأسهل توصيلاً لعقول الناس، ولذلك كان تأسيس مركز المعلومات الفلسطيني أخطر على إسرائيل من تسلل الفدائيين عبر حدود لبنان أو أي قطر عربي آخر..
تبقى منطقة الوسط كحل عاقل للأديب العربي، أن يتجمد ويقف حتى يبقي على الأقل من مستوى العيش والسلام.. وهذه الظاهرة لجأ إليها أكثر الأدباء ممن يمتهنون النقد الاجتماعي، أو السياسي، وقد تصادف أن يكون الجنون موقفاً كما فعل نجيب سرور حين كان يعطي في أعلى مراحل جنونه أحسن قصائده، ومسرحياته.
وبين شبح الجنون والتوقف في محطة «الممكن من الأمان» يعيش الأديب العربي في حالة تصادم دائم..
لقد وقف أعضاء الحكومة الفرنسية بجانب سلطة أمن الدولة في سجن «سارتر» ولكن ديجول العظيم وقف معترضاً وقال: «هل تريدون سجن فرنسا»؟! وهنا كان السر في أن تكون باريس عاصمة الفكر العالمي الحر.
بطاقة (زفت)!!
جميل، وعزيز على نفسك أن تجد صناعتك الوطنية محل تقدير من مواطنك.. وهذا سر العمل الناجح في أي سلعة جيدة مطروحة بين نظيراتها من مختلف دول العالم..
لقد اطمأن المواطن للمكيفات، والسخانات، وحملها ثقته حين وجدها فعلاً تستحق هذا التقدير..
مثل ذلك شاهدته في مبيعات براميل «الزفت» في أسواق الرياض وبالتحديد بشارع «الوزير»..
هذه السلعة فاقت المنتوجات الفرنسية والأمريكية والانجليزية سواء بالسعر أو الجودة.. لكن الذي يؤلم جداً، وبتسامح أو تساهل من «بترومين» ووزارة التجارة، هو أن السعر الرسمي للبرميل من «بترومين» سبعون ريالاً فقط، في حين أنه يباع في السوق السوداء ما بين ثلاثمائة ريال إلى مائتين وثمانين ريالاً!
هذه الفوارق في الأسعار أعتقد أنها ناتجة عن فوضى السوق ذاتها..
فاذا علمنا أن المقرر لأي مواطن يبني (فلة) واحدة هو ثلاثة براميل وبعد إثبات ذلك بواسطة فسح البناء، أو شهادة البلدية، والوقوف بطابور الانتظار مدة قد تطول إلى ثلاثة أشهر في سبيل الحصول على هذه المادة فإن الذي لا تستطيع الوصول إلى تفسيره، هو أن المعروف أن منتجات «بترومين» من هذه المادة محددة الأسعار ولا تمنح إلا لشركات تستعمل هذه المادة، أو للمواطنين ممن يبنون مساكن لهم..
لكن أن تصل إلى الأسواق، وهي إنتاج محلي، وتباع بضعفي قيمتها الأساسية شيء لا نجد له أي تفسير!!
أولاً: كيف وصلت هذه الكميات إلى الأسواق، ومن هو الوسيط في تسويقها؟!
إذا كان المواطن، وبأساليب الاحتيال، فإنه على الأقل يجب أن تخضع لسلطة التسعيرة سواء من وزارة التجارة أو من نفس المنتج..
أما إذا كانت وسائط اخرى فيجب أن يبحث عن أساس هذه الفئات ومعرفة السر وراء هذا التلاعب..
ثانياً: نحن أكبر دولة منتجة للنفط وسنصبح من أكبر دول المنطقة في تصنيعه، وطالما أننا لن نفرض سلطة الرقابة على هذا المنتوج فإنه سيصبح عرضة لكل المتلاعبين وأصحاب الضمائر الخربة..
وإذا كنا نعرف أن أكثرية المواطنين يجب أن يشتري هذه الثلاثة براميل دون الإزعاج في المراجعة وإثبات كل الضوابط التي بموجبها ستصرف له هذه البراميل، إلا أن هذا التصرف لا يعفي بترومين ووزارة التجارة التحقيق في سر هذا الموقف العجيب..
إننا لا نستطيع أن نلقي اللوم على التاجر، لأن مبدأ المواطنة عنده هو العرض والطلب، والتسويق، ولذلك لن ننتظر منه حسن سيرة وسلوك، فهو يقولها بصريح العبارة أن هذه مهنتي، وهو صادق مع نفسه، لكنه غير بريء من قبل سلطة الدولة إذا كان هو أساس التلاعب..
إنني أتمنى أن تكون سلعنا المصنعة بهذا النشاط.. وتحمل هذه الشروط من النجاح عند المواطن، ولكن يجب أن ندرك أن المستهلك دعامة لأي صناعة، وهو الأحق بالرعاية، وإعطائه كامل الثقة بوطنه ومواطنيه.
0 تعليق