عالم الأحلاف الجديدة

آفاق | 0 تعليقات

الساسة أصبحوا «كهان» العصر الحديث، والسياسة صارت صعبة الرصد، لأنها لا تتعامل مع حقائق مباشرة ويصدق عليها العملية الرياضية التي تتوجه دائماً بتقريب حقائقها بـ «نظرية الاحتمالات»!
فالميدان الذي تتناور حوله السياسة العالمية الحاضرة بقطبيها الروس والأمريكان هو العالم الذي خارج السلطة القانونية لهم..
فرغم الحذر الشديد، والعناق الخشن، إلا أن الأهداف تبقى الصورة التي تستر بكل الوسائل السرية والصامتة، وهذا ما يرغم العالم على أن يسوده القلق من المصير المجهول..
فحين تعلن «روسيا» أنها حامية الحريات الديمقراطية الشعبية، والأنظمة التقدمية في العالم، لا نجد تفسيراً منطقياً لهذه الحرية، سواء بمعناها الفلسفي أو الإنساني أو حتى القانوني حين نجد أنها عبارة عن شعار لا يقل عداوة عن كلمة «استعمار»..
وإذا كان التفسير «الأيدلوجي» لهذا المعنى تجسد بطبقة العمال الكادحين أو «البروليتاريا» فإن هذه الطبقة موجودة في جميع أنحاء العالم وجميع مراحل التاريخ، ولكنها ليست بالضرورة تدين بالولاء المطلق للشيوعية، وهذا التصنيف الجبري الذي أثار جدلاً طويلاً على مختلف الفلسفات لم يضع حلاً إنسانياً لهذا الغبن، وأن الطبقات لم تستطع روسيا إذابتها وفقاً للنظرية الشيوعية، بدليل أن العجز الزراعي لم يكن كله قضية ظروف مناخية، إنما من خلل نظام الجمعيات الزراعية التي تؤدي وظيفتها وفقاً لسياسة فوقية ليس فيها أي طموح فردي، وهذا الذي جعل فاعلية الفرد أقل منها حتى في دولة تنهج نفس العقيدة، وبتحريفات خاصة عن النهج الروسي قد استطاعت التغلب على هذه الأزمة بما سمي بـ «التسيير الذاتي» اليوغسلافي، إذ أنها جعلت قضية الإنسان وسعيه وراء الحوافز جزءاً هاماً في إنتاجيته ولا يعني هذا أن النظام «اليوغسلافي» مثالي يقتدى به، وإنما من باب الشواهد أن الحرية في التفسير الشيوعي موقف فقط ..
الشيء الثاني أن أكثر الأنظمة التي تنهج اليسار الماركسي تكون اقتصادياتها عسكرية أكثر منها تنمية جماعية لكافة القطاعات الأخرى..
«فكوريا» الشمالية تبني تطلعاتها في المستقبل على غزو الجنوب عسكرياً مهما كانت المصاعب، وكذا الصين وألمانيا الشرقية، وكوبا التي صارت مصدر تموين للحركات اليسارية في أفريقيا.. كل هذا يؤدي بالنتيجة أن تعميم الشيوعية لم يعد بالقابليات الجدلية، وإنما بالفتح العسكري خاصة في البلاد الصغيرة لأن «التحريفات» للماركسية سواء في أوربا أو الصين قد تؤدي بالاستقلالية القومية لأكثر البلدان، وإن كانت تتبع نفس الخط الماركسي..
من هذا المنطق كان غزو «أفغانستان» معللاً، كالعادة أنه بطلب من الحكومة الوطنية هناك، وبموجب معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين.. أي نفس التعليل الذي كانت تحتمي به الدول القوية المستعمرة..
وإذا كانت قضية غزو «أفغانستان» دخلت إلى أزمة عالمية، كما تحكي لنا الوسائل السمعية، والمكتوبة، فإنها في الإطار الأعم مسألة حركت السواكن في أمريكا وحليفاتها..
فقد طرحت مسألة التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة وأعطى الضوء الأخضر للاستخبارات المركزية، وزيدت نفقات التسليح، وحتى البحث عن قواعد استراتيجية في البر والبحر، إلى جانب ممارسة ضغوط مباشرة اقتصادية وتقنية على الاتحاد السوفياتي، ومحاولة جر الدول الأوربية والحليفة كاليابان، وهي التي حتى الآن تتردد في قبول كل المقترحات الأمريكية.
لكن ما يطرح على الرأي العام العالمي هو هل أمريكا لم تكن على علم مسبق بالغزو الروسي.. أم أنها تغافلت وفقاً لتفاهم مسبق مع الروس؟
التعامل مع الأخلاقيات في القاموس السياسي غير وارد، وهذا ما يصدق على هذا الموقف..
ففي حين تظهر أمريكا إعادة بناء الجسور مع باكستان وفقاً لمتطلبات المرحلة، لا نجد الدعم الذي تريد أن تقدمه أكثر من أربعمائة مليون دولار، وهذا المبلغ لا يستطيع شراء ناقلات جنود لكتيبه واحدة!
من طرف آخر نرى أن وصول «أنديرا غاندي» إلى السلطة في الهند جاء متزامناً مع غزو أفغانستان، وأنديرا تقف بكل قوتها ضد بناء أي قوة باكستانية مهما كان الثمن بل هي أكثر حنيناً في التعامل مع روسيا من المعسكر الغربي..
إذن مبدأ الشك وسوء النية وارد من كلا المعسكرين عند هذه الدول الصغيرة.. فلا محاولة تحسين الوجه الأمريكي بالمساحيق قابل للعشق، ولا التصدي للاتحاد السوفيتي باستعداداته العسكرية أمر تستطيع حسمه قوات باكستانية أو حتى صينيه، لو افترض تدخلها في أي حرب بين روسيا وباكستان..
وإذا كان الصراع، كما تقول كل التقارير، على البحار الدافئة من جانب روسيا حتى تصل إلى المناطق الاستراتيجية، أو البعد الجغرافي لحماية القارة الأوروبية فإن الغاية الأخرى هي مناطق البترول العربية – الإيرانية التي هي أهم للعالم بأسره من أي مواقع أخرى.
يبقى المعنى الأساسي للتدخل السوفيتي أكثر حساسية وتوتراً، لأن أفغانستان بحد ذاتها ما هي إلا موقع استراتيجي تشكل مع القرن الأفريقي والبحر الأحمر نقط ارتكاز في الحرب أو السلم في وجه خصومها..
لكن ما هو المبرر لهذا التدخل، ولماذا جاء في شتاء هذا العام القارس؟!
إن روسيا، مهما كانت المبررات التي تشيعها في حماية الحكم هناك، فإن الجانب الحقيقي وراء الغزو هو التهديدات الدائمة والمستمرة لكل المسئولين الأمريكان في غزو الخليج وتشكيل قوة خاصة لهذا الغرض خشية – كما تقول – من أن يحدث حظر بترولي من الدول المنتجة لأي حدث إسرائيلي عربي، أو أمريكي إيراني..
النقطة الثانية أنه بعد معاهدة «كامب ديفيد» والتي انتقلت من مجرد صلح إسرائيلي مصري، إلى حلف ثلاثي يجمع مع تلك الدولتين القوة الأمريكية.. وعلى هذا فان مصر تشكل ثقلاً سياسياً واستراتيجياً على المستوى الإفريقي والعربي.. ومهما تكن الصورة قاتمة في المستقبل فإن الواضح هو توسيع مناطق النفوذ بالقوة العسكرية أوجد معادلة صعبة لجميع الدول التي لا تملك إلا قناعاتها بعداوة كلا القوتين وخطورتهما على استقلالها.
حتى أن التفسيرات الكثيرة لما ستكون عليه «يوغسلافيا» بعد رحيل «تيتو» ربما تكون مجال مصادمات ساخنة، أو هي الموقع الذي قد يحرك قوى الحلفين الخصمين في القارة الأوروبية بانفجارات ضخمة، وهذا الأمر تدرك خطورته جيداً كل دول أوربا.. فهي لم تحاول الانسياق الأعمى وراء القرارات الأمريكية، لكنها – بنفس الوقت – شجبت بشدة غزو أفغانستان، وهو الموقف الوسط في الصراع الحاضر الذي قد يجعل أوربا لا تجد بديلاً إلا تعزيز قدراتها الذاتية عسكرياً واقتصادياً، والبحث عن تحالفات ودية مع القوى الناشئة كالهند والصين وغيرهما التي سيكون لها دور هام في المستقبل.. حتى أن المبادرة التي تقودها فرنسا في صنع هذه التحالفات، أو التعاون المفتوح جعل الرئيس «ديستان» أول القادمين لزيارة الهند بعد فوز أنديرا غاندي..
من جهة أخرى تقود اليابان حلفاً اقتصادياً لدول «الباسفيك» – كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، هونج كونج، وكذلك الصين الشيوعية حتى تكون بعيدة عن الضغوط التي تلوح بها أوربا وأمريكا بتغيير اقتصاديات اليابان التي أصبحت تشكل عنصر تفوق في جميع أنحاء العالم.. وهذا الموقف هو البحث عن هوية دولية لليابان بديلة عن القوى العسكرية المتصارعة. وحتى لا تمس رفاهيتها أو إخضاعها للأزمات المتبدلة في الأفق الدولي..
إن نقاط التلاقي بين أقصى اليمين الأمريكي – الياباني – مع أقصى اليسار الصيني، أو المعتدل – كما في الهند يلغى الطموحات الأيدلوجية الأممية، إلى المصالح القومية. أو ما قد نسميه بعودة سياسة الأحلاف من جديد برؤية خاصة..
يبقى الموقف العربي الإسلامي الجانب الأضعف في القوة الدولية، على الرغم من المؤثرات الخطيرة التي تشكلها جغرافية هذه البلدان ومجالاتها الاقتصادية، ذلك أن الاستقلال الوطني لكل قطر واتخاذ القرار من موقع المصلحة الوطنية والتلاحم في مواقف قومية أو روحية لم يوجد هذه الشخصية المستقلة.. بحيث تصبح العلاقات مشروطة بالاستقلال الحقيقي عن أي مؤثرات قد تطرأ، وكتدليل على ذلك ما حصل في المؤتمر الخاص بدول العالم الإسلامي المنعقد في الباكستان إذ تشكلت المواقف بتبعية لقوى خارجية يصح أن نقول معادية.. وبصرف النظر عن الحساسيات التي أثيرت بأن الروس هم الأكثر تقارباً مع العرب في توريد السلاح ومناصرة الثورة الفلسطينية في المجالات الدولية، لا نجد هذا التبرير واقعياً ولا عقلانياً، لأن الثورة «الأريترية» وهي ثورة عربية صرفه تذبح بالسلاح الروسي من قوى شيوعية.. كذلك التعزيزات البشرية من هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل، وهو ما تستحي أكثر الأنظمة العربية إثارته في وجه الاتحاد السوفيتي.
من منظور آخر تقف العداوات الدولية من الحركة الإسلامية الحالية موقف الشعور بالخطر حتى لا تبعث الأممية الثالثة، لتشكل قوة بديلة، حتى أن أمريكا هددت بغزو باكستان فيما إذا تحقق أنها تنوي تفجير قنبلتها الاسلامية الذرية.
إذن المواقف المؤقتة أو الروتينية لا تخلق شخصية متوازنة ومحترمة من أي فريق دولي، لأن التعامل لم يعد بالعواطف، وإنما بالمناظرة من مواقع ثابتة وراسخة، وهذا ما يثبت أن كثيراً من الدول العربية والاسلامية مشلولة الأطراف بفعل التناقضات الحادة لا في مواقفها فقط، وإنما حتى في مصالحها الوطنية وهو ما جعل شعوب هذا العالم أكثر مأساوية وسط المتغيرات الدولية.

تناقضات في التعليم الجامعي..

الحديث عن التعليم الجامعي في جامعاتنا المحلية الست يجبرنا على معالجة التناقضات الحاصلة في هذا التعليم الهام.
ففي حين نجد أن جامعة الرياض مثلاً تأسست قبل عشرين عاماً لم تستكمل بعد تجهيزاتها الأساسية من معامل ومكتبات وهيئات تدريس ومقر جامعي مبني على الأسس الحديثة، نجد أنه ينمو إلى جانب هذه الجامعة خمس جامعات وعدة كليات في أبها والقصيم ومكة، إلخ.
وإذا افترضنا أن الحاجة تدعونا إلى التوسع في إنشاء هذه الجامعات من دعوى الاكتفاء الذاتي في مختلف التخصصات، فإنه بالمقابل نجد أن هذا التوسع قد وزع هذه الكفاءات، وزاد من نفقات الميزانية في التعليم العالي وجعل الازدواجية في التعليم ظاهرة حادة.
خذوا مثلاً المسافة بين مكة وجدة لا تعدو (60) كم نجد أن كلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة تدرس مادة الجغرافيا والتاريخ في حين أنه تدرس نفس المادة في كلية التربية بمكة.
أيضاً في الرياض يدرس هذا التخصص في أربع كليات بجامعة الرياض كلية الآداب، وكلية التربية، وبجامعة الإمام محمد بن سعود في كلية العلوم الاجتماعية. كذلك تقوم بنفس الدور كلية التربية للبنات التابعة للرئاسة العامة.
وفي القصيم، وأبها والمدينة دراسة نفس التخصصات في هذا التعليم النظري يشكل واحداً من البعثرة الجهود الحاضرة..
نأتي إلى هذا التعدد في الجامعات هل هو مبنى على منطق الحاجة؟! أم هناك علاقة غير مفهومة بين هذا التوزيع ووجهة نظر إيجابية؟
نحن نعرف أن الجامعات في الخارج تدار وتمون بواسطة مؤسسات خاصة، وسر تعددها هو عنصر المنافسة.. لكن الذي يحصل لدينا أن الجامعات ترتبط بميزانية الدولة.. الشيء الثاني أن الكثافة البشرية والتوسع العمراني في المدن الكبيرة جعل الحاجة مبرراً لهذا التوسع..
إذاً كيف نفسر ظاهرة الازدواج في عدة كليات تدرس مادة واحدة وبمناهج مختلفة في أكثر جامعاتنا؟!
الشيء الثاني، أن هناك مطالب أخرى في إنشاء جامعات جديدة في الجنوب والغربية، وربما أيضاً في القصيم.. هذه الدعوات هل هي في مصلحة خطة التنمية؟! أو في مصلحة التعليم العالي ككل؟! ثم يأتي الأكثر إصراراً على الزيادة في العلوم النظرية كظاهرة متنامية في هذا التعليم..
أنا أعتقد – من رؤية شخصية – أن هذا التعليم يأتي على حساب إنشاء المعاهد المتخصصة في المجالات المهنية والفنية وهي الأهم في التطوير، وبالإمكان أن تخضع لسياسة أي جامعة ولا خير في ذلك..
فالأرقام البيانية سواء من متخرجي جامعاتنا هنا، أو البعثات الخارجية إلى التعاظم في هذا التخصص النظري، ليأتي على حساب التعليم في الكليات العلمية من جهة، وفي بناء تلك المعاهد التي نحتاجها كضرورة جادة في تخريج مساحين وكهربائيين، وإخصائيين في الأجهزة الحديثة راديو – تلفزيون – أو في مجالات «الكمبيوتر»
ثم يأتي شيء قابل للدراسة والتنفيذ هو لماذا لا يتم التنسيق مع الدول الخليجية الشقيقة في إعادة وضع هذه الجامعات وفقاً لاستراتيجية المنطقة بغية التكامل في هذا التعليم وتبادل البحوث والخريجين من منظور الموقف المتماثل..
وإنني أتمنى أن يكون هذا الموضوع مجال بحث من مواقع مسئولة تدرك تماماً حساسية وقيمة هذا التعليم العالي، وعلى ضوء حاجاتنا في المستقبل.
للبهاء زهير:
أمولايَ إني في هواكَ معذبٌ
وَحَتّامَ أبقى في الغَرامِ وأمكُثُ
فخذْ مرة ً روحي ترحني ولم أكن
أموتُ مِراراً في النهارِ وأبعثُ
فإني لهذا الضيمِ منكَ لحاملٌ
ومُنتَظِرٌ لُطفاً من الله يَحدُثُ
أُعيذُكَ من هذا الجَفاء الذي بدا
خَلائِقُكَ الحُسنى أرَقُّ وَأدمثُ
ترَدّد ظنُّ النّاسِ في فأكثروا
أحَادِيث فيها ما يطيبُ ويَخبُثُ
وقد كرُمتْ في الحبّ مني شمائل
ويسألُ عني من أرادَ ويبحثُ


التاريخ / 26 – 3 – 1400هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *