المواجهة.. والتحدي

آفاق | 0 تعليقات

حين فشلت الوحدة بين سوريا ومصر كأحد الجسور التي راودت الحلم العربي.. لم يكن تلك الفشل نابعاً من هدف الوحدة ذاته، وإنما لأن أبعاد حدث كهذا لم يدخل في ذهن المواطن العربي بالقطرين مضمون تلك الوحدة كعمل له نتائج خطيرة.. وهو ما جعل التوقف في تلك المحطة سبباً كبيراً في تتالي أحداث شكلت مآس كبيرة في التاريخ العربي الحديث.
وإذا كان من زعم أن أسباب ذلك الفشل يرجع إلى التسلط القطري الأكبر على الأصغر في جميع مؤسساته المدنية والعسكرية، والفوارق الفردية والاجتماعية إلى آخر تلك التعديلات التي أنتجتها تلك الأزمة..
فإن هدفاً آخر قد تحقق، أو كانت تلك الوحدة هي أحد أسباب التعجيل بسقوطه.. وهو حلف بغداد، الذي كان القنطرة التي باستطاعة الاستعمار الغربي والأميركي المرور من فوقها.. إلا أن إعادة ترتيب مناطق الضعف والقوة في الوطن العربي وعدم استقرارها جعلت أمريكا تركن إلى قوة إسرائيل ذاتها مدعمة بكل إمكانيات القوى الصهيونية في العالم وحلفائها مستغلة تلك المراوحة غير المستقرة في أوضاع الأقطار العربية، ومسلسل الانقلابات التي هي غالباً تدبير غربي أمريكي أو سوفيتي بأدوات عربية ليس لها من وجه وطني إلا الطموحات الشخصية..
لقد أدى ذلك المسلسل من الفشل في السياسة العربية المحلية إلى انبثاق وجه سلبي في التعامل مع الأحداث، فالمواطن العربي يجد فيها عرضاً بعيداً عن أي حركة تمسه. وعادت التهكمات والتصنيفات تعيد سيرة الفارق الحضاري والنوعي والاستعماري التكنولوجي، وتلزيم نوع من السياسة الموجهة لهذا الوطن.. كل ذلك أدى إلى صنع وهم ضعف الشخصية العربية أمام تحديات الظروف المستجدة..
وحين خرجت إيران بثورة عقائدية إسلامية، وهدمت ذلك الصرح الكبير المبني على حسابات خاطئة، بدأ الالتفاف حولها عربياً من جميع الواجهات الأيدولوجية، وحتى المحسوبة على اليسار المتطرف.. وهذا ما يبين ضعف الاتجاهات العربية، والبحث عن منفذ يطبع الوجود العربي على لقاء موحد.. وصارت الدول الغربية وأمريكا تجمع على إعادة النظر في جميع السياسات الخارجية من مشكلة الحرب الفيتنامية، إلى التغييرات المفاجئة في أفغانستان ومآزق ممرات البترول العربي في البحر الأحمر، خاصة بعد النفوذ الجديد للاتحاد السوفيتي..
وهنا جاءت المبادرة كحالة امتصاص وتوجيه لضرب أكبر قوة عربية وخلق المفاصل المريضة في الوطن العربي.. ولقد كان الدور الذي أخذ به السادات هو أخطر حالات المواجهة بين العرب مع أنفسهم، وبين عدوهم.. وهنا أخذت أمريكا مبدأ خلق التوازن الجديد بمحاولة جذب دول عربية أخرى إلى هذه الممرات الخطيرة، ولو بالضغوط أو التهديد بالغزو، أو خلق أزمات داخلية تؤدي إلى انقلابات سياسية ترفع ولو وقتياً الحصار الكبير على سياسة السادات الجديدة..
بالمقابل هناك نوع من غسيل المخ المركز للشعب العربي في مصر.. ولعل هذا يجعلنا نرجع إلى الوراء، ولو إلى سنوات غير طويلة في تاريخ مصر العربي..
فالخديوي إسماعيل أنشأ دار (الأوبرا)، وكتدليل على حضاريته، ومزامنة عصره إلى عصر النهضة الأوربية دعا إلى احتفال ضخم في مصر لحضور افتتاح تلك الدار، وبصورة مشابهة لاحتفال الشاه بمرور ألف عام على سلطة العائلة الشاهنشاهية.
فقد جمع زعماء وشخصيات من مختلف أنحاء العالم.. وكانت موارد مصر في ذلك الوقت لا تسمح بتمويل هذا الاحتفال الكبير، وكانت فرصة أن باع نصف أسهم شركة القنال إلى عملاء إنجليز وفرنسيين.. وبنفس الوقت كان قد حدث زلزال على مصر في ذلك العهد أدى إلى أن يقول شاعر:
ما زلزلت مصر من كيد ألم بها.. لكنها رقصت من عدلكم طربا!!
وحتى في زمن الرئيس الراحل عبد الناصر، صور المواطن العربي في مصر بأنه إنسان القرن العشرين، والذي سيأخذ مبدأ تحرير العالم الفقير، والوصول إلى أعلى مراحل الزعامة الكبيرة في هذا القرن..
وعلى الرغم من أن عبد الناصر له محاسنه وإنجازاته، فان تعليب عقل المواطن بصور وأشكال غير واقعية، أدى إلى أن تكون النظرة الداخلية للمواطن نفسه منقطعة الصلة بالواقع الحقيقي مما أدى إلى النظر إلى بقية الأقطار العربية الأخرى وكأنها محكومة من صوت العرب أو جريدة الاهرام!!
وإذا كان هناك من سبب جوهري في تلك الازدواجية هو أن المواطن العربي ذاته بايع بشكل درامي على زعامة مصر بصرف النظر على أي أخطاء كانت..
وهذا لا يجعلنا ننكر الدور العظيم الذي قام به الشعب العربي هناك في التأثير الإعلامي، والمساهمات الكبيرة في التعليم، أو تنشيط الحركة الثقافية..
إلا أنه بعد وفاة عبد الناصر تداخل إحساس بأن التفوق الإعلامي فقط هو الذي جسد تلك الروح المتعالية بين الأوساط الشعبية في مصر.. أو بالأخص على مستوى المثقفين..
وهنا كان رد الفعل قاسياً حين بدأت إعادة الجسور بين الوطن العربي عموماً، ووجد المثقفون وغيرهم أن هناك مواطنين عرباً لا يقلون عنهم في التأهيل والثقافة، وأن ما سمي ببدو الصحراء ما هم إلا أجناس تصاعد بينهم التعليم، وتوفرت لديهم حوافز دفعتهم إلى البحث عن تعميق حياتهم في مسار العصر الحديث..
وإذا كان الدور الثاني هو الأخطر، وهو المجرى الذي بدأ يأخذ به السادات في محاولة الضرب على وتر خطير خاصة على دول منطقة الخليج، وأنها تعامل المواطن العربي من مصر وكأنه قطيع من الحيوانات، وأنه لا يلقى أي معاملة إنسانية..
هذا الدس الرخيص هو التعبئة الأخيرة المنبثقة من منعرجات أزمة اتفاقية الصلح المنفرد.. ومحاولة كسب الشارع هناك على حساب الوطن العربي عموماً.. وتطبيع هذه الاتفاقية بأنها جزء من مأساة ارتباط مصر بالعرب سياسياً وجغرافياً واقتصادياً وما رادف من حروب طويلة مع إسرائيل بسبب المشكلة الفلسطينية..
وإذا عرفنا أن هذا التجهيز الإعلامي له سوقه العامة بين أوساط معينة – فإننا لا ندري لماذا جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية في داخل مصر ذاتها، والمبعدون أو المهجرون من المصريين في عصر هذه الاتفاقية يصبحون أنواعاً جاهلة وحاقدة، أو شيوعية.. ومنع الاعتراض من قبل أئمة المساجد على شجب الاتفاقية أو التعريض ولو بشكل غير مباشر في صلاة (بيجن) في كنيس شارع عدلي؟!
ويأتي شيء آخر ومهم.. فقد خرج في عهد الرئيس أباطرة مال جدد.. فإذا استثنينا (عثمان أحمد عثمان) فإن بقية المحاسيب، وذوي الرحم من حسني مبارك وسيد مرعي وغيرهم.. وهذا الأخير هو المسيطر على تموينات مصر استيراداً وتصديراً فإن المعونات التي دفعت تراكمت داخل خزائن أشخاص معدودين.. وهذا الذي حتى الآن لم يكشف عنه بشكل رسمي من الدول التي دفعت تلك الإعانات لتضيع الحقيقة أمام المواطن العربي في مصر..
وإذا كانت مسرحية (البغل في إبريق) قد أحدثت ضجة في وقتها كإشارة لفشل حرب ۹۷ وتعليقها بشخص عبد الناصر نفسه.. فإن حرب المقاطعة العربية بحجمها المالي والسياسي، وتأثيراتها على الدول الصديقة، أو حتى على الدول المرتبطة مصالحها مع الدول العربية، قد جابهت الاتفاقية بشيء من الفتور حرصاً على مصالحها، وهو ما حصل في زيارات السادات لألمانيا، ومبعوثيه لبقية الدول الأخرى كاليابان، فإن رد هذا الفعل، هو الذي حدا بالرئيس السادات إلى أن يواجه مغالق كبيرة، وهو الرجل الذي كان يحلم بأن الاتفاقية ستتعامل مع العقل العربي، لا مع عاطفته، وأن المسألة مرهونة بزوال تلك الفورة العاطفية.. وأن أمريكا التي تملك 99% من الحل قد حققت انتصارها على السادات فقط لا على الشعب العربي المكافح هناك..
سيرة تاريخ الخديوي والسادات تلتقي عند أزمة الاقتصاد في القطر العزيز.. وإذا كان الرئيس الحالي لا يجد ما يبيعه إلا القضية العربية، وشرف مصر.. فان العائد المالي هذه المرة هو لجان الكونجرس، والسوق الأوربية المشتركة، وهي التي تعرف سلفاً أنها لا تستطيع أن تراهن على جواد خاسر، يغذي شعبه على الخطب ويزرع بذور الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط، وتحطيم دور المواطن في التعبير عن رأيه في هذه المرحلة الديمقراطية العظيمة!!
وحتى أمريكا، وبقرارة نفسها، أنها لا تهتم بشخص السادات، ولا حتى بالوضع السياسي الذي يقوده، وإنما يهمها أن تجعل من السلام المزعوم إطاراً للتعامل في المستقبل بين العرب وإسرائيل كواقع حتمي وحقيقي..
وإذا كان الرفض لهذه الصيغ جاءت بإجماع عربي وغير متمايز بين نظام وآخر، فإن المؤتمر الإسلامي الكبير الذي سيعقد في المغرب هذا الأسبوع يأتي، ودور الإسلام كعقيدة آخذة في امتداد العقل العالمي.. وتوقيته مع صفقة الاستسلام الخاسرة سيكون هو الرد العنيف، خاصة وأن الدول التي ترتبط بها مصر سياسياً واقتصادياً هي معظمها دول إسلامية ذات ثقل عالمي محسوب على جميع القوى الكبيرة.
ثم يأتي دور له نفس الضغط والقوة، وهو مؤتمر دول عدم الانحياز والذي يتشكل أعضاؤه من دول تعادي العنصرية في أفريقيا، ومشرق الوطن العربي في إسرائيل، فإن احتمال مقاطعة مصر في هذين المؤتمرين سيكون مواجهة مصرية مع العالم، وكأنها دولة عنصرية لا تملك الدعم الذي تملكه الدول العنصرية الأخرى.. من قوة اقتصادية.. أو دعم خارجي..
إن استغلال هذه الأحداث كقوة ضغط على دولة كانت بطليعة العالم الثالث في الدعوة إلى الحرية، هو انتكاسة في التاريخ الحديث لهذا القطر العزيز علينا.. وأن محاولة إخراجه، وبظروفه الحرجة، كقوة ردع مضادة إلى كل حركات التحرر عربياً وإفريقياً لهو الشيء الذي لم تخرج مصر ممن مآسيه خاصة بعد حرب اليمن التي جرت انتكاسة حرب 67..
وإن هذا الإغراء ومحاولة تصدير القوة العسكرية أو التهديد بها وجعل الجيش المصري العظيم فرق مرتزقة موزعة على الخريطة العربية أو الإفريقية، لإبعاده عن دوره الحقيقي هو أمر قد يواجهه السادات في المستقبل، وهو لن يخيف أي عربي لأن الدور التاريخي الطويل لهذا الجيش عريق بعروبته وعقيدته، ولأن كل دول الاستعمار لم تستطع استخدامه وهو في ظل حكم أجنبي..
هنا نقول أن الدور العربي لا ينكمش بخروج مصر مؤقتاً من ساحة نضاله في البناء الحضاري والسياسي.. ولكن ما هو مطلوب هو تعويم الخلافات، والظهور بشخص العربي الذي يبني عالمه مهما كانت المصاعب.. ولعل دورنا في الحاضر هو دور يملك عوامل البناء، والتأثير الكبير في هذه المرحلة التاريخية.. ويملك بنفس الوقت أدوات الضغط ولكن يجب التمييز بين ما هو أسلوب التعامل بعقل سليم، وبإجماع عربي ومنهجي، وبين التصرفات الانفرادية أو تفكيك هذا التوحد بالرأي والعمل وهو ما تسعى إليه كل الفئات التي تحاول أن تحرمنا من دورنا التاريخي، وطبعه بأثرنا على هذه المرحلة..
ومثلما أراد (تشرشل) أن يتحالف مع الشيطان في سبيل مصلحة بريطانيا، علينا فقط أن نتحالف مع أنفسنا وهنا المحك والاختبار.. وللتاريخ حكمه الذي لا يرحم ومرحباً بوحدة عربية على أي اتجاه، وبأي أسلوب!!

ثقافة.. وفنان

عبد الوهاب الدوكالي فنان مغربي معروف، وقد كنت ممن يعجب بأدائه وصوته وذلك التحديث في الموسيقى العربية في المغرب، دون إخلال بالموروث من الرصيد الفني لهذا القطر العريق..
لقد كان مصادفة أن ألتقي بهذا الفنان، ولكن رصيدي من فهمه أنه كمعظم الفنانين العرب الذين تحكمهم الموهبة فقط، وما تعلمه من دراسات منهجية في المعاهد المتخصصة في تلك الدراسات الأكاديمية..
الدوکالی عكس هذا كله، لقد كان يتحدث من منظور الفنان الواعي والذي يتجسد في الجمع بين الحس الموسيقى والشعري، والثقافة الفلسفية، إلى جانب الخلفية التاريخية في الثقافة العربية والإسلامية..
سأله أحد الأصدقاء عن وقفات موسيقية خاصة وغير مفهومة في أغنيته الشهيرة (مرسول الحب) وخاصة مقطع (تك.. تم) فرد..

  • (لقد كانت الأغنية في مقاطعها الأخيرة تحتاج إلى إيقاع مخالف للأغنية التقليدية، وكنت أبحث عن أسلوب مميز لإحدى الحركات الخاصة والتي تتلاءم مع مجمل الهيكل العام لتلك الأغنية.. وقد احترت كيف أستطيع أن أصل إلى ذلك الإيقاع المطلوب..
    وتأتي مصادفة عجيبة.. إذ كنت نائماً، وعلى إثر كابوس قمت فزعاً من النوم، وكانت دقات قلبي سريعة.. هنا فقط تحول ذلك الكابوس إلى شيء أبحث عنه.. وفي تلك اللحظة وجدت أن (تك.. تم) هي دقات القلب التي لا يستطيع أداءها إلا الإنسان نفسه، وأنها هي التي تصلح أن تدخل ضمن مقاطع الأغنية.. وقد كنت فرحاً ولعلها المرة الأولى التي أتكلم عن هذه الحادثة)..
    الدوكالي يعطى للأغنية العربية وجهها الثقافي والحضاري.. وبالتالي فهو نوع من الشباب الذي يريد أن تتخطى الأغنية العربية محيطها المحلي وحتى العربي إلي العالمية..
    وكم كان حديثاً شيقاً عن العود، والأغنية العربية بصفة عامة، وفيروز التي قال عنها أنها تسبق عصرنا بأكثر من ثلاثين عاماً..
    وكم يكون رائعاً أن يجمع الفنان بين إتقان تخصصه وثقافة عصره.. وكم نحن بحاجة إلى نوعيات مماثلة تعطي إشراقة جديدة للفن العربي، وتطبع تاريخ الأغنية العربية الجديدة، وتزاوج بينها وبين موروثنا العظيم..
    ومن القلب نقول تحية لهذا الشاب الفنان وكل صحبه.

الشاعر (محمود درويش)
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل..
وفي شهر آذار، مرت أمام البنفسج والبندقية خمس
بنات.. سقطن على باب مدرسة ابتدائية..
للطباشير فوق الأصابع لون العصافير..
في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها..


التاريخ/ 13 – 6 – 1399هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *