صراع الإنسان مع الفواجع والأمراض شيء قدري لا يتصل بما يحاول أن يحتويه، لأنه في مطلق أفعاله وتفكيره لا يرمي دائماً نحو الشر، ولكنه ليس مجرداً من نزعات التحولات في سلوكه إذا ما استطاع أن يجد نفسه سلطاناً كبيراً على إنسان ضعيف..
وإذا كانت الكوارث العظمى في تاريخ الإنسان قد عطلت مسيرته في الانطلاق نحو الوجود الأفضل، فإنه بمراميه وتصرفاته قد غلب بعض الوحوش، وجيوش المايكروبات في القضاء على ابن فصيلته.
في الإمبراطورية الرومانية القديمة خرج (اسبارتكوس) من قيد مصارعة الوحوش الضارية، والتي كانت رياضة الأباطرة والأسر الكبيرة في روما، وزمرة من أصحابه يقود عصبة الرقيق التي استطاعت أن تكون جيشها باسم مضطهدي الإمبراطورية ويقود أكبر ترويع لتلك الحصون المرفهة، رغم ما كان يهدف إليه من نسف حاجز الفوارق الإنسانية بخلق علائق إنسانية جديدة..
فقد استطاع أن يتغلب على جيش الإمبراطورية، ويشكل عصاباته التي تحصنت في جبال الألب، وخط أول مبادئ الخروج من قيود ظلم الأباطرة الرومان.
ومهما كانت الهزائم التي لحقت بعصبته التي مزقتها الانشقاقات وجيوش الإمبراطورية، إلا أنها تركت وعياً إنسانياً رائداً بكيفيات التعامل بين فئات الأمة الواحدة وجددت انتصار المبادئ الإنسانية العظمى، وكسرت العلائق بين السادة والعبيد، أو خلعت ذلك الانفصام العضوي الذي جسدته بدائية الإنسان..
وحوادث العالم القديم مهما تراكمت في التاريخ كأسطورة رهيبة فقد تركت أثرها التقليدي على ما بعدها، وأصبحت سيرة متوحشة يتعامل بدساتيرها كل حكام التاريخ الذين فقدوا روح الإنسانية..
وإذا كانت المظالم تولد بدافع حماية المطامع الذاتية، أو القابلية بالتحكم بالإنسان من خلال مجموعة تصورات باطلة، فإن ردود الفعل على مر التاريخ جعلت التساوي برد العنف كمقابل مساو (للبادئ أظلم)، حمى متوارثة في تلافيف الدماغ البشري وحيوانيته الرهيبة التي بلغت غاية تطورها العقلي أو التقني، بل إن المسار الحديث في خلق الوسائل الإرهابية التي بدأت تأخذ بها معسكرات الاستعمار الحديث في الشرق والغرب، وما تصوره بعض الواجهات الإنسانية التي يعذبها المصير المحتوم للإنسان لهي صورة بشعة متزامنة على اختصار الإنسانية بنوع من المرض القادم الذي يهدد عقل الانسان ووجوده..
وإذا كانت بريطانيا (العظمى) في عهد استعمارها للهند قد قدمت هدية لآخر إمبراطور مغولي رؤوس أولاده الثلاثة في صينية كبيرة.. وقطعت (بتشديد الطاء) أصابع عمال النسيج اليدوي الهنود بغية إنقاذ مصانع النسيج في (لانكشاير).. وأن الإعمار ومد الخطوط الحديدية وإنشاء الدولة العصرية في تلك الجزر الإنجليزية الفقيرة قد جاءت من (خراج) تلك الأمم المضطهدة.. فإنها لا تختلف بالأسلوب والطريقة التي جاء بها حكم (الدوتشي) في إيطاليا كفاشي رهيب وحليفه هتلر كعقاب إنساني على أوربا والعالم..
فزعيم جبهة العمل النازية الدكتور (لاي) قد قال: «إن الشعوب المنحطة تحتاج إلى غذاء أقل، وملابس أقل وثقافة أقل مما يحتاج إليه الشعب الأرقي»!! وإن إطلاق حرية الأعمال الوحشية في عهد (الجستابو) الذين ترفعوا في عرض أعمالهم، عن القبول بالحكم القضائي في العهد النازي باعتبارهم فوق السلطة القضائية.. لا يستغرب أن تكون نظرية (المجال الحيوي) النازية جزء مهم لذلك العهد اللاإنساني.. وهي نظرية أن الشعب الجرماني، أو العنصر الآري قد لا يكفيه الإنتاج الزراعي والصناعي، وطالما أن هناك شعوباً منحطة تسيطر على أرض وإمكانات صالحة للاستثمار، فإنها المجال الحيوي لأن تستغلها هذه الشعوب الراقية وبأي أسلوب كان..
ورحم الله (إيفان) الرهيب الذي دق المسامير بقدمي المرسول المسكين من أحد ملوك أوربا.. فقد تصرف من واقع هيبة روح القيصرية الروسية العظيمة، وبتثبيت قوة سلطته أمام الحضور في صالونه العظيم وهو الأسلوب الأرحم من النازية.
وإذا كانت أمريكا قادت حركة الإبادة الكبيرة للهنود الحمر لتثبيت قدم الرجل الأبيض القادم من أوربا.. فإنها سلخت جنساً بشرياً كبيراً من أبسط حقوقه حين كانت تقود الرقيق الأسود من أفريقيا ليعمل في مساحاتها الشاسعة كمزارع مملوك الإرادة والجهد، وهو ما فضحه التاريخ الحديث..
إن العقوبات الإنسانية المتتالية ليست انفصالاً عن النزعة المتحكمة في التسلط فقط، وإنما هي تداخل في الرغبة بخلق الإبادة أو القمع كجزء من بناء أي تاريخ قديم أو حديث..
وإذا كانت الديانات السماوية العظمي قد هذبت الأسلوب والسلوك البشري، ووضعت من تعاليمها دروساً في الربط بين المعاش على الأرض، والامتداد إلى الوجود الأسمى..
فإن الإنسان قد استغل هذه التعاليم في الغزو الصليبي، وسلطة الكنيسة في العصور الوسطى وكيفها مع التطويق باسم السلطة الكنسية في صنع أحزمة العذاب، وبيع صكوك الغفران، وخروج الإصلاحات الدينية التي قادها مجموعة المصلحين مثل (مارتن لوثر) وما تلاه من حركات أخرى غيرت مجرى التاريخ الحديث في عهد النهضة الأوربية الصناعية.
ولعل أهم ما يقود إلى التصور في المستقبل القريب هو التهديد برفع سلاح الاستعمار الغذائي، أو ما عرف الآن بحوار الشمال والجنوب، أو الدول الغنية والفقيرة
هذا السلاح الجديد هو الذي يطوق العالم بالإرهاب الكبير الذي تقوده الولايات المتحدة كشعار بالتهديد برفع أسعار المواد الأولية، أو بالأخص البترول من قبل الدول المنتجة لهذه المواد..
وإذا كان العصر يتجه إلى صعوبات جديدة في المستقبل، وتحديد خارطة القارات الفقيرة، واللجوء إلى إغراقها في الحروب الصغيرة، وربطها في حلقة الديون الدائمة في مسلسل طويل من الهزائم اليومية، وشلها عن تطوير قدراتها الزراعية والصناعية، أو رفع كفاءة الإنسان فيها المادية والتعليمية، فإن كل التصورات بخلق وحدة العالم الفقير لازالت في حيز الآمال الصغيرة لأن كل ما يتصل بالتطور أصبح ضمن الممتلكات الكبيرة للدول المتقدمة، وبذلك تبقى الاحتمالات بخلق ضغوط موحدة غير قابلة للتنفيذ إلا بحدود التوحد الإقليمي..
فدول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية، والتي تشكل شبه وحدة قومية، أو اقتصادية، قد تكون منطلقاً لوضع خطة رائدة إذا ما تناست خلافاتها الإقليمية..
ومثلها بعض الأقطار الأفريقية التي تسيطر على مواد أولية كثيرة في تسيير الصناعات الكبرى في العالم المتقدم وتعيش لغة وقومية واحدة..
ولعل أكثرها تجانساً من حيث الوحدة الوطن العربي الذي لا زال يحتفظ بأكبر نسبة من الانشطار الذاتي والقومي..
فهو الوحدة المهيأة لملامسة الوجدان العربي، والقيادة الكونية للعالم الثالث، لا من أجل السيطرة على معظم القوى الاقتصادية، وبالأخص البترول والفوسفات ولكن لأنه أكبر رابط تاريخي جغرافي، وأكثر مناطق العالم حساسية بالتغيرات العالمية..
فقد ربط بين حضارة الشرق والغرب في عهد التطور العربي الإسلامي الكبير وهو المستهدف بعد ذلك بالغزو من قبل الأتراك والمغول والصليبيين، وأخيراً الاستعمار الغربي العسكري والسياسي، والاستعمار الحديث الاقتصادي..
وإذا كانت التطورات القادمة تبني استراتيجياتها وقواها على هذه المنطقة باعتبارها قوة الإشعال الكوني فإن التصادم بين المصالح الدولية يجب أن لا تخضعنا إلى دوائرها الضاغطة، أو تطويقنا بمشاعر الخطر، أو جعلنا على حافة الهاوية، بقدر أن يجب أن لا نتناسى أننا بالصورة القائمة في ذهن التاريخ الحديث بدون دور رائد أو مؤثر على المستوى المتطور التي أخذت به قوى أخرى كالصين أو الهند التي وضعت إرادتها وحجمها البشري والاقتصادي كقوة جديدة ومعادلة لاختلال التوازن العالمي..
فالتطورات القادمة تضعنا في المواجهة، لا لأننا جزء من العالم النامي الذي يريد أن يتحرك في إطارات التنمية والاستقلال الذاتي، وبالحدود التي تفرضها علينا المعسكرات الكبيرة بانتهاج سياسة عدم الانحياز بل لأننا جزء من الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية المؤثرة في أي خطط موضوعة للمعسكرين الكبيرين..
وبقدر ما نستطيع الوقوف على تطوير قدراتنا الذاتية والتغلب على المراهقة السياسية والتجزئة الإقليمية، فان دوراً كبيراً يجعلنا في المدى الطويل سلطة تقرر الشكل الحديث للسياسة الدولية القادمة، مهما تعاظم دورها، أو نفوذها..
لنقل ببساطة أن حرب التجويع التي تعلنه أمريكا، وترفعه كشعار ضاغط في وجوهنا لن يخيفنا إذا ما قدر أن نخرج من إطار التنافس بالشعارات الكلامية إلى الخطط العملية الواضحة..
فالإمكانات بين المشرق والمغرب، أو بالتحديد لو استغل المشرق فقط بالمساحات الضخمة المتواجدة في العراق وسوريا، وتحويل جزء من فائض مياه الفرات ودجلة إلى صحاري الجزيرة العربية، واستغلال أحدث التقنيات الزراعية، فإننا سنتحول من دول مربوطة إلى قمح كندا، أو أجبان وأرز أمريكا، إلى دول ذات استراتيجية جديدة في الاقتصاد الزراعي وهو الذي لا زال مجال مزايدات بين روسيا وأمريكا بحكم ظروف المواسم الحادة التي تتحكم باقتصاد كلا البلدين..
إن أعوام التجويع صورة قاتمة في الحرب القادمة، وهي سلاح ضاغط إذا ما استخدم في حالات التطويق الجديد للإرادة العربية..
إسرائيل نفسها تبحث، وعلى الطريقة النازية، عن مجالها الحيوي في استغلال مياه النيل في سيناء، والسيطرة على جنوب لبنان، والضفة الغربية في سبيل الدفاع عن نفسها في مستقبل الزعازع القادمة، خاصة في الحرب الاقتصادية الخطرة، لكننا بالمقابل لا زلنا نراوح بين مسألة التسيير الذاتي، والجمعيات التعاونية الزراعية، والقضاء على الملكيات الخاصة ذات الحوافز الذاتية، وفي الإطار النظري فقط.. بدليل أن الخطط الزراعية في المشرق والمغرب لم ترق حتى الآن إلى الحدود الدنيا من الدخول المتنامية كقوة منافسة مع البترول مثلاً، وهذا يجعلنا نتصور أن تطوير كفاءتنا الاقتصادية ذات التنويع في الاستثمارات المتعددة غير متجانسة، أو أقل من المفروض أن يكون في التحديات القادمة..
إن المواجهات التي نعيشها في مختلف تنويع الضغوط الحديثة أو التاريخية لا تجعلنا ننظر إلى أنفسنا كوحدة مؤثرة أو نستطيع بأبسط الأسلحة أن ندافع عن وجودنا القائم أو المستقبلي أمام الخطط الرهيبة الموضوعة..
وإذا كانت الأحداث التاريخية ذات الفواجع الرهيبة قد غطت مساحة ضخمة من تعميق الظروف الصعبة، فان هتلر، أو (إيفان الرهيب) وغيرهما معروضون في سوق الأحداث القادمة، وليس أمامنا إلا الخيار الأوحد هو استغلال إمكاناتنا وطاقاتنا بعقل يربطنا إلى عجلة العالم المتقدم الحديث، وهو أولى المواجهات التي تتحدى بقاءنا ووجودنا..
الوجه القبيح!
مجلة الحوادث البيروتية تضرب أعجب التصرفات في سلوكها، وأسلوبها في صنع التبدلات العجيبة والميكانيكية..
فهي في البداية سلطة (ناصرية) غير محدودة النفوذ ولسان قومي عربي يؤمن بالقومية العربية، والاشتراكية العربية، ووحدة الوطن من المحيط الى الخليج!!
فسليم اللوزي تلميذ منحدر من آل (أمين) في مصر، وامتداد لمدرسة المرحوم (التابعي) أستاذ صحافة الباشوات!!
وتبعاً للتجديد انسلخ، بعد المد الناصري، إلى ما يسميه ديمقراطية الكلمة العاقلة والواعية، وخلق فرص التعبير لكل الاتجاهات بغية تحقيق دعوة خدمة الصراع غير المسلح بين القوى العربية كلها وعلى مستوى الكلمة الصادقة!!
الحوادث بقدرة قادر استطاعت أن تستجيب لما تسميه بالتفاعل مع الحاضر.. فقد نسفت عمارتها ومطابعها ومركز معلوماتها في بيروت، وفي الأسبوع الثاني تصدر في لندن كأقوى مجلة تصادفها ظروف صعبة كهذه!!
وهي تستكتب «جلال كشك» الذي عرف شيوعياً ثم قومياً عربياً مؤسساً، فمسلماً يدافع عن شرع الله جل جلاله، وثائراً كبيراً مع الزعيم «الخميني»: وأخيراً فيلسوفاً مجدداً لمبادرة السادات، ولكن بلغة السفير فوق العادة الذي يحمل عدة جوازات سفر دبلوماسية، وبمختلف التأشيرات والتواقيع!!
مجلة الحوادث تركتنا نتساءل عن هويتها، وانتمائها ومجالات دعمها.. أو بالأصح الطرق التي توجهها..
فالصورة العربية، والإسلامية التي تنتهجها مهزوزة لدرجة أن مجال التشكيك ذهب إلى الإدانة الصريحة..
والتصور بأنها محسوبة عربياً على دول الخليج التي ترى أنها الباحثة عن صوت مدافع بحجم الحوادث، قد لا يشرف هذه الدول مهما كانت تصورات هذه المجلة لهذه الدول، لأنها على طريقة (توفيق الحكيم) ادفع لما تريد أن أكتبه أو أصرح به.. وهذا أمر عرفناه في الطقوس الحديثة بما يسمي (المتغير الاتجاه)..
الحوادث مجلة تشتهر بالوجوه المتعددة، ولذلك فهي محسوبة على كل الاتجاهات الخارجية، وتمثل مظهراً غير عادي، ويجب معرفة ماذا تريد، وعلى أي الأنهر تشرب، أو تتقيا.. وكم في التاريخ من أطياف عجيبة والساحة حبلى بالمواليد المشوهين!!
قيس بن ذريح:
وَما أَحبَبتُ أَرضَكُم وَلَكِن
أُقَبِّلُ إِثرَ مَن وَطِئَ التُرابا
لَقَد لاقَيتُ مِن كَلَفي بِلُبنى
بَلاءً ما أُسيغَ بِهِ الشَرابا
إِذا نادى المُنادي بِاِسمِ لُبنى
عَيَيتُ فَما أَطيقُ لَهُ جَوابا
التاريخ / 27 – 6 – 1399هـ
0 تعليق