في المنفى العربي

آفاق | 0 تعليقات

المواقف الصعبة هي التي تخلق القدرات العظيمة والإنجازات الأكبر.. والأمم العريقة بتواصلها مع التاريخ وتطويع أزمانها هي تلك التي لم تأكل رئتها الأمراض العضوية القاتلة..
في الماضي كنا نبكي (المجد التليد) وندرس على مقاعد الدراسة (لقد جاوز الظالمون المدى) وامتد الحبل الطويل من البكاء والتشبيهات بمختلف الحيوانات الكاسرة ومارسنا كل المواقف ومن بينها التحرير بالقوة من كل العداوات الظاهرة أو المباشرة.. وخرج الاستعمار الواقعي، ليدخل إلينا الاستعمار الملثم بكافة عداواته القديمة، وبأكثر شطارة وتخطيطاً.
كل ما قيل من تفسيرات آنستنا في وقتها، وداعبت أحلامنا تضاءلت عند الواقع المباشر.. وهذا الأمر هو الامتحان الصعب أمام كل الشعوب التي لا تكون لها رؤية مستقلة لما بعد الاستقلال..
فالوضوح بالرؤية.. أو التشكيل للنظرية المطلوب تطبيقها لما بعد السيطرة الأجنبية، هي المأساة التي علقت أكثر المنطلقات على مشنقة الدول الكبرى.. والضياع في دروب الهوامش النظرية.. أو التقاتل حول فكرة ما مصاغة بجدليات بيزنطية متوترة، خلقت معها توتر تلك الشعوب بحكم غياب المنطق، أو الرؤية الواضحة.. وهذا الاستلاب هو الذي أوقع أكثر المنظرين في متاهات التفسير اللاواعي، والخلوص إلى الاستنتاجات المسربة من بؤرة الدوائر المسيطرة، والاعتماد عليها كوقائع محددة للمنظور القادم..
من سنوات طويلة، ونحن نشكو غياب العقل، والمراهقة الفكرية، والانسحاق أمام عجلة مفاجآت الزمن السريعة وأمام غياب التحليل، والتوقع، صارت الصدمات السريعة وتتالى الأحداث مشهداً تمثيلياً يعرض على ساحة كأننا خارجها..
تعلمنا كيف نؤسس الكذب الذاتي على النفس ووضع التبريرات الوهمية، وحشد عشرات التبريرات والتسويفات وطبع العصر بالمأساة القاتلة، وإذابة كياننا، وترجمت الغاية إلى شبه تنويم مغناطيسي على سفرة من الأطعمة اللذيذة للحالمين بيننا..
وتوسع إطار الصورة على مساحة أرض وطننا العربي لتكبر وتستل منا حتى النخاع الشوكي.. أو هكذا يترجم كل الراصدين لمستقبل هذا الوطن، أو شبه المعبرين عن غباء وتعميق الرضا بالواقع، واصطناع دور جديد لتمثيلية جديدة..
والموضوع الحديث في ترسانة التصور للأحداث القادمة كلها تبشر بصيف، حار، وشتاء دموي.. وهي محاولة رفع ضغط الدم العربي، وحقنه (بأسيد) التوقعات، أو التطوير في تجهيز الإعلام الرخيص، أو المباع ذاتياً وأخلاقياً إلى كل الدوائر العدوانية..
وإذا كنا لا نريد خلق تصور أو (توهم)، ولو سرنا بنظرية الاحتمالات، أو التوقعات، وطرقنا كل الحسابات وقراءة الأبراج، واستعنا حتى بعلماء الأرواح والمروجين هم من (بشكة) (أنيس منصور) في قراءة المستقبل القريب وتخيلنا، أو توقعنا أن تتم العمليات القادمة وفق هذا المنظور..
أو بمعنى أكثر ما يروى من تطويق الوطن العربي بسلسلة كبيرة من الأحداث، وتشتيت تركيزه عن قراءة الأسباب والنتائج ووضعه في كماشة الدوامات العنيفة.
والآراء التي (تسوق) لها الصحافة العربية، أو بعضها نقلاً عن ما توزعه الصحافة الأمريكية، وهي المحاولة على إعطاء شرعية جبرية لاتفاقية (السادات – بيجن) وافتعال أزمة البترول، والضرب على وتر عالمي بإعطاء الأسباب في نقص الوقود على دول منطقة الشرق الأوسط، أو إعفاء منظمة (أوبك)..
هذه الأسباب خلقت التصور الجديد لقراءة المستقبل العربي، أو ما يزعم أنه المخطط الجاهز، والمنتظر تنفيذه..
تقول تلك الاحتمالات، أو التصورات أن:
• • مصر ستقوم بغزو مباشر لليبيا، لتكسر أول الأذرع المحيطة بها ولو أدى الأمر للاستيلاء عليها لاستغلال ثروات البترول، والموقع الاستراتيجي، في دعم قوة مصر لتطوير فعالياتها العسكرية والاقتصادية كجزء من مهمة الحلف الثلاثي – الأمريكي – الإسرائيلي – المصري.
• • وبنفس التوقيت والساعة تباشر إسرائيل حملتها العسكرية بجميع القطاعات على سوريا والأردن ولبنان.. واحتلال أجزاء كبيرة، ثم المساومة على طريق أكثر استسلاماً في مبادرة المهزوم والمفتت القوي، كالذي عمل في ألمانيا في الحرب الكونية الأخيرة..
• • وكجزء من التطويق، يتم أيضاً تنفيذ أزمة عسكرية بين العراق وإيران، لشل حركة الجيش العراقي في المساهمة في مساندة الجبهة الشرقية، قبل أن تأتيها أي نجدات عسكرية عربية أخرى..
• • ويتم المخطط الأهم والمرسوم بادعاء أمريكا أن الخليج يواجه خطراً عارماً، وتنتهز فرصة الأزمة لتدخل عسكرياً في احتلال منابع البترول..
طبعاً هذا كله في حساب الاحتمالات، أو ما يتوفر حديثاً في تقارير الدبلوماسيين الأجانب والعرب.. وطالما أننا في بؤرة هذا التوقع، سنجد أن الاتحاد السوفيتي، أمام خيارين:
• • إما أنه على علم بسير كل هذه الاتجاهات، وقد رسم خطة مغايرة تكون تدخلاً غير مباشر بتحريك قوي أخرى بنفس المنطقة ودون أن تجر إلى إعلان تعبئة جزئية بين الحلفين وجيوشهما..
• • أو تحريك مناطق أخرى لا تقل في تأثيرها، في خلق أزمة مضادة، في أمريكا اللاتينية، أو في مناطق التعدين في أفريقيا..
وقد يكون الاحتمال الأكثر، أن توزيع الأدوار قد اتفق عليه في (فينا) عند توقيع (سالت ۲) بين القطبين الكبيرين..
تبقى أوروبا في المجال الحيوي للمناورة وفرض التنازلات، خاصة فيما لو نجح هذا التصور للمخطط القادم.. أو ربما تكون متممة للخطة وتدبير تحريك اتجاهاتها إلى قوة الضغط الأمريكية تحسباً للسخط الروسي، وما قد يكون عليه لو تعرضت أوروبا بالتحريك لقوات على حدودها من قبل حلف وارسو..
وما دمنا في المغارة المظلمة إياها، ووسط عالم الوحوش، فإن الخط الفاصل فيما هو محتمل، وما يجب النظر إليه بعين الواقع، وتغييره أو تجاوزه، هو الدور المطلوب للواقفين على مناطق النزاع، والذي – لا سمح الله – ستحترق أقدامهم، وتنشل قواهم العقلية والجسدية.. أو هو الأمر الذي سيكون أحد بنود الخطة إياها ومركز معاركها..
وفي تحديد النتائج، لابد من محاولة فهم الزوايا المعتمة في الأفق العربي..
إسرائيل. كما تلقينا من كل الأحاديث وأشرطة التسجيل – دولة عدوانية توسعية.. أي أنه أمام هذه الخيارات القدرية ليس أمامنا إلا خطر واحد هو الحرب على المدى الطويل..
وقطعاً لكل شيء ثمن، وخسائر، ودورات تاريخية، وحالات يأس، أو اندفاع، وهناك الأكثر خطراً هي الحروب النفسية التي ارتبطت بمخزون المعركة الطويلة.. البحث في صيغ التنبؤات الخيالية هي (للبصارات) وقارئات الكف.. ولكن في العقائد العسكرية أو السياسية يكون الأمر ليس قياسياً ولكنه مجموعة حسابات ومعادلات علمية..
في الوطن العربي مهما كانت قسوة الماضي، قد لا نصل إلى الوقوف على قوانا مجتمعة، ولو بالحدود الدنيا لاستطلاعها وتوظيفها في تجهيز الدفاع عن حقوقنا..
مثلاً نحن نبني كل مدننا المحيطة بإسرائيل (دمشق – عمان – الإسماعيلية) إلخ وكأنها لن تتعرض للقصف، أو التدمير..
وحالة ثانية استعداداتنا الاقتصادية، لم يكن هناك أي احتمال بتحويلها إلى اقتصاديات حرب..
وأمر ثالث هو الفروق الفردية بين الأقطار العربية من الناحية الثقافية التي هي التكوين الحقيقي لخلق جيل يستقرئ الحاضر والمستقبل، ويستحدث خطأ يتحرك.. إذ أن هذه الأجيال الصاعدة مسلوبة التكوين والارادة وتسبح في مستنقع التناقضات العربية الحادة.
المنهج المتفق عليه غير واضح، وحتى فيما سمي بجبهات الرفض والاعتدال.. لأننا لا نملك التعليل لتاريخ إسرائيل ولا مصادر قواها، ولا استقصاء أو قراءة النفس الإسرائيلية والدخول الى تناقضاتها، أو التسرب إلى مفاصلها.. وهو ما أعطيناه تسمية (الفارق الحضاري) بيننا وبينهم، وكرسنا عن عقل أو غباء..
ثم هل مارسنا نوعاً من اليوجا في التركيز على الأشياء والبحث في أساسياتها.. وخاصة منها السياسية والاقتصادية؟
الجواب أن الأمية في أقطارنا العربية تتراوح بين 80 في المائة إلى 55 في المائة من السكان العرب.. ناهيك بحجم دخل الفرد بين ما يسمى بأغنياء العرب وفقرائهم، وتوزيع معدلات الدخول على سكان هذه الأقطار. وتبقي الأشياء الأخرى المستوى الصحي، نقص التغذية.. العاطلون عن العمل.. البيروقراطية الإدارية.. إلخ إذن الدعوة لإطلاق أسر الذات العربية، بموازاة تخطيط بحجم واقع الهزات القادمة، أمر غير واضح..
حتى الفجيعة التي تركتها معاهدة (السادات بيجن) ليست هي المحور الأخير في حفر قبور جديدة، ومقيمة في بيوتنا وأمام عيوننا وحفلة الزار التي تدق طبولها علناً بيننا..
باختصار هل هناك عمل عربي.. أو هل هناك تصور عربي في أساسيات الحشد الضروري أمام الخطر القادم؟
قطعاً لا.. لأننا بحاجة فعلاً إلى (البحث عن الذات).. قطر عربي، يقول إن شراذم الإمبريالية الرجعية في أفغانستان تحارب الحكم الوطني هناك؟؟
وآخر بدأ الفلسفة النظرية الثالثة لتصديرها عربياً ودولياً وإلى عالم المسحوقين والمضللين..
وثالثة تراقص في مواخير شوارع إسرائيل والهرم، حسان منظري السلام..
أي أن النوافذ مفتوحة لحاملي الصليب المعكوف، والمنجل والمطرقة، ونجمة داوود.. وكل بقية الأعلام الطامحة والطامعة..
إن التحرر لا يأتي بقراءة الأدعية.. التحرر هو إعادة العلاقة بين شخص المواطن العربي وبين مرتكزاته العقائدية والإنسانية وإخراجه من شبكة التدمير الداخلية بحجة حماية الأمن الداخلي..
(الفاروق) نام تحت شجرة، ولكنه جلد حاكم مصر في عهده عمرو بن العاص، وطلب مقاضاة حاكم دمشق لأنه لم يراع حرمة ذلك الأعرابي الذي يطوف حول الكعبة.
وصلاح الدين الأيوبي طهر بيته وبيت أمته وتخلص من الجبناء والمنافقين، وكل ترسانة المثبطين، لينتصر على الغزو الصليبي..
وقبل الميلاد قال سقراط (اعرف نفسك) وهو أبس التعابير وأغلاها في إعادة الأمن الذاتي والشعور بالتفوق على كل عوامل التخلف أو الانشطار..
وإذا كان التصور السابق، هو قدر جديد للأمة العربية فمرحباً به، ولو إلى حد اختبار قدراتنا وكرامتنا.. لأن كل شعوب العالم لم تفرح وتعطى مدلولها الحضاري، إلا بالنضال.. وبالجوع والتشرد والسحق.. ولأن الانتماء للوطن ليس بالمراسلة أو العواطف الشعرية وليس كيس قمح يشبع معدة، أو علبة حليب تداعب شفاه طفل..
المواطن العربي هو صاحب الخيار، وبصرف النظر كل المقاسات التي تعرض على طوله وعرضه، فإنه النمط المطلوب للتعبئة القادمة.. وبدونه لن نتخيل أي انتصار وسنتحول إلى (نمر من ورق) أو تمثال من الثلج..

للمعلومية فقط..

سألني..

  • هل الكاتب فعلاً معه (كلبشات) الشرطي، وعصا المعلم، وبندقية المحارب؟
    قلت..
  • إن هذا المفهوم يرد في قصائدنا، وقصصنا، ومناظراتنا في المجالس الشخصية والجامعات.. ولكن بتعبير أوضح.. الكاتب هو واحد من أولئك الذين يرتكز عليها بناء وحماية الوطن..
    رد..
  • إن ما أقصده أن الكلمة صار لها نوع من السلطة.. مثلاً عند نقد أي مؤسسة اجتماعية، تكون الكلمات كالضربة الحادة في عنق تلك المؤسسة.. فهي تجمع كل خلايا الدم البيضاء لتكافح ذلك الجسم الغريب..
    نظرت إليه بإشفاق، وبعد صمت قصير قلت..
  • إنك تحاول أن تجامل أصحاب الأعمدة اليومية أو الأسبوعية في صحفنا..
    كلنا نعرف أنه يكتب عن قضية ما، ولكن الرد يأتي من مدير الشئون العامة، أو إدارة العلاقات بأن الحقيقة هي كذا، وليست كذا، وينتهي الحل بالتراضي، فلا غالب ولا مغلوب..
    سحب طرفي نظارته ليعدلها على أرنبة أنفه..
    قال..
  • ولكن هناك تداعياً في الفهم.. أي أن الواقعية في النقد نادرة.. أو قل أن التعامل، وإعلان الحرب بالكلمات هو الدائر على تلك الأعمدة..
    قلت ۰۰۰
  • ولكن لماذا يسمى أي تعبير، أو تنبيه عن خطأ، حرب كلام؟
    قال..
  • إنني لا اريد السقوط في بؤرة المجادلات، لأنكم تحملون، التصور، أو تعميق الأشياء، وإعطاءها كافة الوسائل شبه المنطقية، ولكن أريد أن أدخل إلى الجانب الأكثر حدة، مثلاً هناك احتمال الوقوع في الضرر من خلال تجني بعض الكتاب، وتشويه عمل شخص مخلص..
    قلت..
  • ولكن لماذا لا نعكس الصورة المنشطرة.. لنقول هناك مسئولون يعتبرون النقد نوعاً من المناسبة في الحديث للصحف، أو الظهور على شاشة التلفزيون، أو عقد الاجتماعات الدورية، وهي الظاهرة التي صارت جزءاً من المناظرة، أو محاولة استيعاب النقد، أو مواجهته بأسلوب ديمقراطية المسئول والناقد..
    صر على أسنانه.. وبامتعاض غير ظاهر قال:
  • دائماً تريدون أن تكون الغلبة لكم، وهذا نوع غير نزيه.. ولكن لا زلت أقول، أنكم تحملون سخطكم فقط ولتذهب (روما)..
    قلت..
  • يكفي هذا الحوار أن يعطي وجهة نظر، مع علمك أن المكاسب الشهرية بينهما غير واقعية، وأراهن أن تقبل مسئولية الكتابة ولو شهراً واحداً، وتضع الكاتب في أي مؤسسة ذات ربح معقول ليكون التبادل في التجربة (موقف) فما رأيك.. رد..
  • (دور غيرها)..

ليرحمها الله

المدرسة السعودية بحائل قدرها المسكين جعلها أول مدرسة في تلك المدينة..
اللوحة المكتوبة بخط الفنان (حلمي) تقول: أنها أسست عام ۱۳56هـ..
وأنها تحتفل بعامها الثالث والأربعين.. ولكن الاحتفال لا زال في ثوب الحداد الأسود..
فهي علمت أجيالاً طويلة من ضمنهم ممن تحضرني أسماؤهم (صالح البكر) مدير عام معهد العاصمة النموذجي.. ومعالي الأستاذ فيصل الشهيل، ومدير التعليم هناك ابراهيم الخياط..
ولكن كما قلت، أنها نالت من الحقوق من كل من تزاحموا على مقاعدها، أو قرأوا التوحيد والتجويد على الحصير بشمس فنائها الترابي..
المدرسة باقية وسط المدينة القديمة في بيت (طين) قديم سقط ثلثه، ولا زال باقي الثلثين آيلين للسقوط.
وكم هي حزينة وسط تلك الخرائب.. وكم يكون السقوط مؤلماً، وهي التي لم تحظ ولا برد أي اعتبار من إدارة التعليم، ولا ممن عرفوها أما لكل الرؤوس الحية.
ما يعنيني أنها لا زالت في ثوب حدادها، وفي علمي أنها في البيت إياه، وبأجرة سنوية لا أدري كم.
ووفاء مني لتلك الأيام العظيمة التي قضيتها في جنباتها، أن أهديها تحياتي، وأحر تعازي في أنفاسها المتقطعة.. وشكراً لكل الأوفياء الذين قطرت دموعهم على هيكلها الآفل.. وليتذكر الآخرون أنها مهجورة.. وأنها ذبحت من بكاء الصمد.


التاريخ/ 10- 8 – 1399هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *