لستم أفضل منا إلا في المظاهر.. إنكم نسل منسوخ على كربون غريب عنا، توزعون ابتساماتكم كلعب مصنوعة، وتخنقون عواطفكم بدعوى الجدية، والانتماء إلى عالم (النيترون) لم تغتسلوا بعرق جهدكم ولا عرفتم وجه الحياة من خلال المعاناة العاطفية والجوع الحقيقي للأمعاء والشرايين..
وإذا كان الأصل في النوع هو تحقيق مشروع هذا النوع بكفاءة رائعة فإنكم حتى الآن تسقطون من حسابات الزمن بأنكم مجرد أدوات زائدة عن الإنسان العامل.. أو بمعنى مركب أنكم جموع بلا جذور خاصة وأنكم تستلفون جهود آبائكم في المناظرة الطويلة عن حديث صراع الأجيال.. وهذا هو الرابط الوحيد الذي تلجئون إليه في صنع وهم عظمتكم.. إنه بناء خاص.. وعليكم أن تعرفوا أساسيات بنائكم في المستقبل.
• • •
كانت أخاديد السنين الطويلة قد حفرت منعطفات تاريخ ضخم في حياة هذا الإنسان الثائر على كل أشيائه الحديثة..
فذلك الصمت الذي يلف الشيوخ أمثاله عند (عاير) بيت وينظر للأشياء كمسلمات لا ندير له التفاتة، وإنما تحصر مساره ما بين البيت والمسجد، ومقارعة الأطفال بعصاه الغليظة، أو سرد حكايات الماضي إذا وجد من يستمع أو يستلهم تجربة قريبة..
هذا الشيخ الوقور من نوع مغاير في تفكيره وإن كان ملتزماً بكل قيمه وروحانياته، إلا أنه ظل على عتبة الحداثة يقارع ويناقش وإن كان حظه من التعليم القراءة والكتابة وحفظ جزء من القرآن الكريم.. ولكنه كشيوخ نادرين ممن عرفوا المتنبي والجاحظ وابن خلكان.
وعرفوا أيضاً وفاء الكلب، وكرم الديك، وفصاحة سحبان وشجاعة خالد وحمزة إلخ..
بمعنى أنه مركز جيل مضى ومعاصر.. ولكنه يختلف أنه لازال مع المستقبل يقرعه، ويدفع أجراس الإنذار بوجه أي تفرد أو انسلاخ عن ضمير أمته أو وطنه وبرغم هذا فإنه مع التطور ولكن بدون إخلال بالموازين فهو يرفض أن تكون الحوائط الشكلية بين المعاصرة والقدم لها فواصل حقيقية، ولكنه لا يتسامح بأن يقبل مجتمع يستورد الرمل وروث البقر من هولندا أو أستراليا، بحجة تقنية هذه المواد.. بينما يرى أن هذه المستوردات هي جزء من استنزاف لهذه الثروة لجدولة الثروات الحديثة وصبها في جيوب أصحاب العقول المستثمرة، وضحك مؤلم على عقول لم يتداركها الله حتى الآن بأن ترى الوجه الحقيقي لما ستصبح عليه.
• • •
وكمن يغمس قدمه في (مله) أو يطأ على جمر حاولت أن أدخل إلى عالم هذا الشيخ الذي لم يتجاوزه الزمن، وكمن يقبل على حشد من المشاهدين لإلقاء خطبة طويلة في الأدب أمام أساتذة وطلبة في كلية الآداب.. أو كمن يواجه أضواء الشاشة الصغيرة لأول مرة.
اقتربت منه.. وقلت..
۔ إنك لست (نفطي) ولا تريد أن تقترب من هذا الجيل الذي اشتعل بالنفط، وأشعل معه كل الطرقات القديمة.. وأنا أستشف منك أن رضاك عن هذا الزمن كلعبة الحروف المتقاطعة.. فأنت لا تريد أن تلقى أوامر أو تطرح بدائل لإبعاد الحاضر والمستقبل، وبنفس الوقت أنت تخلص إلى أن الصيغ المطروحة لا تمثل إلا سراباً منفلتاَ من انعكاسات صحارينا.
فالضعف الجسماني، وما يتبعه من فتور في الجنس والرؤية لم تعد ضمانات تستطيع التعويض عنها في شركات التأمين بحيث تعطيك بدائل وقطع غيار لجسمك وما هو معروف (بيولوجياً) (وسايكلوجياً) أنه لابد من تلازم الجسم السليم في العقل السليم ومحطة الكبار دائماً هي البحث عن نقيض يعطيهم دليلاً على البقاء.. وإلا فإن التسليم بكل ما تقوله هو محاولة إلى إرجاع أيام الأسبوع قبل الجمعة..
ومع مقدار ما نتظاهر في حبكم وولاتكم، فإن الملاحظ عليكم أن الصور التأملية لديكم لازالت في تلك المحطة الواقفة والتي غرقت في الرمل.. والإبحار مع الزمن مسألة حادة وغير مطابقة لتلك الشروط التي تفرضونها.. وهنا الأساس في القول إن البيضة لا تعتمل جسدين.. كلام صحيح.. وإلا ما قولك بأننا يجب أن نعلق أسماءكم ونسجل أصواتكم ونضع صوركم على مداخل مدننا. إن كل جيل لابد أن يعطي، والا لوقفت الأيام.. ونحن لا نطالب بأن نفصل عنكم، ولكن يجب أن لا تنقطع الهواتف بيننا وبينكم بحجة الكبرياء الزائفة.
لقد ظل المتنبي عظيم العصور، ولا زالت حكمة الصين وملاحم اليونان، وأهرامات الجيزة كلها محل بقاء وديمومة في الجامعات والمحافل الدولية وغيرها.. ولكن السر في بقائها هو أن الاجيال المتنامية لم تنعزل بفردية خاصة عن تلك الإنجازات الكبيرة.. وهذا سر الخلاف بين الوقوف على الماضي وانتزاع فكر الحاضر..
• • •
كزهير بن أبي سلمى في صبره على صياغة حولياته الشهيرة، أو كغابة من النخيل شقت الفصول وأعطت ثمراتها في وسط صحراء تعيش على أعاصير الأطلسي.. عدل من جلسته. رفع رأسه كأنما يطل على فاصل الحياة، وجسر الموت.. كغيمة تريد أن تغرق السفوح لتعطى الأرض ثورتها على السكون والتعبير..
لم يجزع، ولم يبرأ من خطأ، أو زعم.. وأراد أن يدخل للحديث من عمق خاص.. من اللافوارق.. وعلى جرس صوته الهادئ والعميق
قال..
- الخطأ لديكم هو وضع (المزامنة) كدليل على انحسار، أو مد بين الأجيال.. فإذا كنا لا نريد شهادة تقدير، أو بطاقة دخول لأسرار تفكيركم فإننا بالدرجة الثانية نشترك في إنشاء عصر.. وهنا لا تكون المشاركة – كما قلت – وجدانية وإنما هي حتمية.. وأظن أنه لا خلاف على ذلك.
يبقى الأمر الجوهري في الموضوع وهو أن الطموح لديكم ليس بنسبة الإمكانات المتاحة.. ثم إن جسور العالم أمامكم ميسرة ومفتوحة، وفرص التعامل مع العقل ومع الخط المستقيم فرضية أساسية في عصركم.. وهذا ما يجعل سبب الأصوات ذات الموجات الطويلة، وهز العصا أو العصيان هي الغاية الثابتة في المخاطبة.
لنترك الهزات العاطفية ولنباشر الحقيقة كما هي دونما تغطية طويلة لبعض السلبيات أو الملاسنة التي تضيع معها الحقائق..
قلت إن جسور العالم أمامكم مفتوحة.. وهذا ما يجعلني لا أرى لهذا التفاعل أي أثر عليكم، إلا من نواحيه السلبية.. أي أن التحولات بحياتكم هي الاستجابة لما ينتج من وسائل الترف وحدها.
ومثل هذه الفئات يطلق عليها المجتمعات الطفيلية.. أي أنها تستحدث حياتها برصف أكبر قدر ممكن من الأدوات التقنية الاستهلاكية، وهذه بالمفاهيم البسيطة للاقتصاد عملية تبديد لثروة جاءت صدفة زمنية وكان بالمستطاع أن تطرح بوسائل تنموية أفضل.. وإن كنت لا أريد الدخول ما بين المسافات الحضارية لكل الشعوب والاحتكارات التقنية إلخ.. ولكن لنعد لكن بنفس الكيفية التي تحاولون بها طبع هذا العصر..
خذ الهجرة العقلية، ولا أعني «هجرة العقول» وأعني بها الممارسات العجيبة لكل مسالك الحياة بعقلية نافرة عن قواعدها الاجتماعية الخالصة..
الرياضة صارت لها انتماءات أخلاقية وعصبية وخلافات وصراعات، طفولة متناهية في بيع الشعارات.. بينما الرياضة في الخطط التنموية جزء من سلوك حضاري وتربية بدنية وأخلاقية تتجاوز هذه الأحزمة الساخنة والساذجة..
وشيء آخر «الفن» كحال الرياضة.. زعيق ومداخلات في الأصوات والآلات، وكلمات سخيفة يعوزها التركيب اللغوي السليم والجرس الموسيقي، والبعد العاطفي الإنساني، وأنا أعني بكلمة «فن» الأغنية لديكم.. بينما الفن في إطار الثقافة العظيمة هو ما يتصل بالوعي المتكامل للإنسان والوجود..
تاج محل، وقصر الحمراء، ومساجد تركيا ومصر وسوريا هي شواهد في غاية الروعة على حضارتنا القديمة وظلت في نفس الديمومة لماذا؟! لأنها تحمل طابعاً مغايراً وفناً أصيلاً مميزاً له شخصيته.. لكن تعال ادخل أي مدينة حديثة لدينا ستجد المدرسة الفرنسية الإيطالية الأمريكية إلخ في الشكل المعماري، وبتغاير الألوان..
المساجد مثلاً هي التي يجب أن لا يتحكم فيها ذوق الفرد العادي تجدها لا تحمل أي سمات تاريخية، أو تاريخية محضرة – بتشديد الضاد -..
الأحذية النجدية والعباءات، وهي الباقي من أعمال قديمة، دخلت المزايدات الجهنمية في الأسعار والمبالغات، وأصبحت شكلاً حضارياً يدخل في المستوردات الغالية، وذات الاستهلاك الخصوصي..
«النخلة» التي تربعت على عرش هذه الصحراء أصبح من يعالجها، ويلقحها رجل من سكان المناطق الثلجية.. هذا إذا لم تغتالها المحركات الثقيلة لتزحف عليها المدن والقرى النامية..
هل تريد أكثر؟! إذن ليس الخلاف زمنياً، ولكن الخلاف حضاري واستجابة تاريخية لصنع الإنسان..
• • •
وكمن يحاول الخروج من تابوت الماضي إلى عصرية هذا الشيخ الوقور.. قلت.. - ولكن تدرك أن عشرات الجامعيين المؤهلين تأهيلاً عالياً يقفون على رأس الإدارة الحديثة يخططون، ويبرمجون، ويحاولون استحداث الأشياء من بيئتنا بدون الأضرار على العلوم والمستجدات الجديدة..
الإدارة أخذت قواعدها.. المدرسة.. الجامعة.. هيكل الأسرة، الأشكال الطبيعية للإنسان، وقف كثير من الأمراض.. كل هذا لا يمكن إهماله أو نسيانه.. ثم إنه في النظرة العامة للأشياء يجب أن نأخذها كوحدة، دون حصرها في السلبيات البسيطة فقط..
ومثل حكيم الصين الكبير سحب يده اليسرى ليضم كفيه الكبيرتين.. وعلى خلاف ما كنت أتصور أن تهزه هذه المبادرة.. قال.. - شيء جميل أن يكون هذا، أو هو وبالضرورة حصوله أمر حتمي وجزء من المحافظة على الإنسان كمحرك أصلي لكل قيم الحضارة القادمة.. ولكن دعني أقول أن عشرات من تصفهم بالتأهيل الجامعي العالي هم من يعيشون (المهاجرة العقلية)..
تصور أن اللغة الأداة الحضارية الأولى أصبح أمرها كساكن الدار وهو الغريب عنها..
المجتمعات الصغيرة «ترطن» بالأعجمية الحديثة.. المواصفات والعقود، والمكاتبات حتى في الداخل بين الشركات هو باللغة الانجليزية.. هل هذا ثناء حضاري نسبغه على هذه الوجوه الرائدة في التجديد.. وهل الحفاظ على اللغة العربية – رغم اعتراف الأمم المتحدة ومنظماتها بأنها لغة دولية – يعتبر غرابة ورجعية، وسلوكاً متخلفاً..
الغربية عن اللغة هي غربة عن الوطن.. ونحن لسنا بحاجة إلى المتخصص المتعلم، الذي لا يفرق بين نظام التقاعد ونظام الأحوال الشخصية.
الشعب النامي يحتاج إلى المتعلم المثقف، لا المتعلم الغريب، لأن الكفاءة الشخصية في هذه الدول تحتاج إلى إدراك السياسة والاقتصاد والفن، والأدب، لأنها جزء ضروري من التركيب الاجتماعي والضرورة لها حكم باتر لا يقبل المزايدة..
قلت.. - إنك تعود بنا إلى الصراع من خلال (المزامنة) بهدف أن تستمر الحياة بصيغ قهرية مقننة.. وهذا الوصف ينطبق على ما كنت تقوله تواً؟!
قال.. - حركة التاريخ لا تقبل مثل هذا التمايز.. دلني على بلد يحكمه المراهقون، ويخطط له الصبية؟!
قلت.. - وهذا مأخذ على التاريخ الحديث، وهو الذي قاد إلى تمرد أجيال في أوروبا والصين؟
رد.. - بارك الله عليكم زمنكم أجيالكم.. أما نحن فلا زلنا نختزن رؤيتنا ومفهومنا.. ولا خلاف على شيء ظاهر، إذا كان الأمر يقتضي صناعة عصر تزول فيه فوارق وحوائط وهمية.. ولكن دعني أقول إلى اللقاء
دور المدرسة هل انتهى؟
النظام الدراسي الماضي هل كان سلبياً في مناهجه، في نظام امتحاناته.. وحتى في التوقيت له؟
الشيء الظاهر أن الأهمية التي تأخذها المدرسة من هيبة وخشية. والطموح الذي يراه الطالب في زميله، ومعلمه انتهت، أو لنقل بحسن نية، أنها لم تعد بنفس الاحترام والهيبة..
الطالب عنصر مكون للمدرسة، ولكنه إذا ما أصبح سلطة على المدرسة يزرع فيها الفوضى، وعدم المبالاة، وجعل الدراسة جزء من «روتين» يؤديه في سن معينة، ويصل أو لا يصل إلى غايته بأي طريق ولو كان الفشل.
هذا الموقف وغيره يحتاج إلى معاينة بغاية الخطورة ولأن الترابط بين أعضاء المدرسة الواحدة من المدير والمشرف وهيئة التدريس إلى الطالب يكون الرباط بينهم نمطاً خاصاً ومنفصلاً عن الحياة العادية..
فإذا كانت الشكوى تنصب بالدرجة الأولى على نوعية المدرس الوطني المؤهل، فإنها أيضاً تنصب وبنفس المجري على نوعية النظام التي تدار به المدرسة..
نظام الامتحانات – مثلاً – من خلال النظرة العميقة إليه نظام مثالي ورائد، ولكن المسألة ليست بمثالية النظام، أو تعسفه، وإنما في الوسائل التي ستؤديه، أو المردود الذي سيعطيه..
وهذا النظام بالقدر الذي ترك للطالب والمدرس فسحة أكثر في اختيار أنسب الوسائل في تهيئة الطالب وطرد شبح الامتحانات فإنه في الواقع أصبح كمن يريد أن يطبق الدستور السويسري على إقليم «كنشاسا»..
أعرف أستاذاً بإحدى جامعاتنا الكبيرة، يقول أننا أصبحنا نقبل طلبة في المرحلة الإعدادية لا الثانوية، وهذا بدوره انعكس على نتائج الجامعة..
تصور أننا نطرح الآن مشروع مرحلة إعدادية لما قبل الجامعة.. والسبب ضعف الطالب المتخرج من الثانوية سواء في الدراسات النظرية أو العلمية.
إذن المطلوب هو طرح المناهج والأنظمة، أو الهياكل الإدارية والتنظيمية بحوار جاد بين المدرسين ومدراء المدارس من جهة، ومدراء المدارس وإدارات التعليم من جهة أخرى، واختيار الوسيلة الأفضل..
وإلا ما رأيكم بطفل بالسنة الثالثة الابتدائية لا يحسن القراءة والكتابة؟!۰
• • •
للشاعر.. أمل دنقل..
«قالت»
قالت: تعال إلى
واصعد ذلك الدرج الصغير
قلت: القيود تشدني
والخطو مضن لا يسير
مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت
وقد أخور
درج صغير
غير أن طريقة.. بلا مصير
فدعي مكاني للأسى
وامضي إلى غدك الأمير
فالعمر أقصر من طموحي
والأمس قتل الغدا
• • •
قالت: سأنزل
قلت: خطوك منته في المستحيل
ما نحن ملتقيان
رغم توحد الأمل النبيل
• • •
نزلت تدق على السكون
رنين ناقوس تقبل
وعيوننا متشابكات في أسي الماضي الطويل
وخطوها ما ضل يوماً عن سبيل
وبكى العناق
ولم أجد إلا الصدى
إلا الصدى..
التاريخ / 1- 9- 1399هـ
0 تعليق