(المزاوجة بين الأسطورة والواقع.. أمر يجربه أكثر القصاصين والشعراء وكما أن المتعة الحسية في استلهام الأسطورة وتحديثها لم تعد شيئاً حديثاً، فإنه في سياق هذه القصة قد تبدو الوقائع غريبة.. ولكن الخيال هو الذي لعب دور المحرك والبطل.. وبذلك فإنني أرجو أن لا تأخذ السطور القادمة أكثر من معناها العادي لأنها وجدت للمتعة الحسية فقط مع مراعاة الرابط الحدثي بين الأسطورة والخيال وهو الذي أجاز لي أن أكتب هذه القصة أو هذه الحكاية)..
نظارته العتيقة معلقة بين أرنبة أنفه وأذنه.. طرفها أو ممسحها، ربط بطرف خيط لتثبيتها على أذنه اليسرى، بفعل مرض قديم تلاحم منخره مع شفته العليا الذي تطاير عليها بقية من شعر متناثر يفصلهما ذلك الشق الصغير الذي ميزه بتلك «الخنة» الخاصة..
القرية كلها تعرف الراوي «محيريب بن جازم».. ذلك الساخر الذي ولج مع فريق مع جبل قريب.
القرية الهادئة إلا من فحيح بقايا أثل نخل تتحرك عسبانه اليابسة على بعض سطوح المنازل.. أزقتها الصغيرة تتميز بتلك الخطوط.. أو الجواد التي خوت من تردد أظلاف الغنم وحوافر الحمير بتردادها على قرو «مشعان» تجلب الماء، أو تشرب من البير الوحيدة التي ظلت هي المورد الوحيد لتلك القرية النائمة على أمل السيل.
• • •
تلمس «محيريب» عصاة في تلك السقيفة المظلمة.. ليضفي على ساقيه وجذعه بقية عباءته المهترئة..
- آه.. ليس مهماً أن يعرفوا السر.. ولكن الخطيئة الدائمة تبقى وحشاً لا يموت.. المطاردة باقية.. لم يعد الوهم وباءاً ينتشر بالخيال ليقذف صور العفاريت.. وهمي يتغذى من جوف ذلك الوادي..
الإحساس يطارده.. من هو.. أي أرض قذفت به إلى هذه البقعة.. أي رحم مملوء بالصديد والقيء ذلك الذي تمخض به وأرساه كواحد من شذوذ هذه القرية؟!
السقيفة الصغيرة تطل شقوقها من فوقه.. بقية ضوء القمر يتساقط على الأرض كنقاط بهاق على يد رجل أسود.. لكنها بيته، على كل حال، وبالرغم من بؤسها فهي مأوى جسد وجوده كواحد من أهل القرية..
عينيه تتقاسم مع عينيها تلك الابتسامة الخرساء.. ضآلة النور وضعف بصره لم يحولا دون رؤيتها..
• • •
سحب طرف كمه أحد الجلوس سأله.. ثم ماذا يا «محيريب»؟! - تداوى عند أهل المدينة.. وضعوا له حجاباً من جلد الذيب.. أسقوه مرارة الغراب.. كتبوا له محواً بريشة هدهد على صحن فخار.. لكنه ظل على حاله.. قالت عجوز أنها رأته في حلم تحوم عليه الزنابير، وأمامه منقل مليء بالجمر تتساقط به الزنابير.. وفي وسط (غمة) الزنابير تحركت من شقوق (خرابة) قريبة جيش من الخفاش قذف بنوى النبق عليه أصابته.. صحت على صراخه.. العجوز ذهبت إلى الشيخ ليفسر لها الحلم..
• • •
شفافة بشرتها مغسولة بدموع «كيوبيد».. خلخالها يرن على عتبات الدرج.. الصدر المتوحش تفرقهما جديلتيها الطويلتين.. كأميرة ساحرة يدفن أثر خطاها حرس من العفاريت تدفعهم ريح ساخنة..
• • •
الشيخ رأى أنه لابد من السفر للسند. لأن جنيته الشباب نوع مهاجر إلينا من هناك.. لقد رفض أن يفسر الحلم، لأنه يحتفظ بالمعاهدة التي بينه وبين العراف هناك.. والسر سيلقاه المريض عنده..
أبو «مشؤوم» يرد.. - أيه «سولف» أو على ذكر المرحوم.. «حمامتين.. رقطاوين.. تشق السماء شقين.. وتجيب العلم من نجدين»!!
ضحك الجلوس.. اهتز مسواك (محيريب).. لوى غترته المهترئة على رقبته.. طرف عصاه المحروق يحك به بنصر قدمه.. - العلم عند الله.. ولكن المريض كان شاباً وسيماً.. العجوز تقول أنه أكل من وادي «الشعالين» من شجرة تبول عليها الشياطين كل ليلة سبت.. لقد كان مغامراً مغروراً بوسامته وشجاعته.. القرية كانت تخشى على بناتها من نظراته الحادة.. العقاب كان قاسياً.. طارد غزالة.. ضيعت عليه الطرقات.. تزينت عند الشجرة، وسبحت من غيل ذلك الوادي.. أرادها أن تكون خليلة.. عاشقة يقرأ لها قصائده على ضوء القمر.. غررت به.. جلست أمامه بصورة عاشقة رآها في المرعي.. لكنه وجد بعد أيام مغطى بورق بحجم أذان الفيلة!!
• • •
تجلس الآن.. تحك معصمها.. تغني على رحاها.. يلتصق على جسمها ثوبها الخفيف أبو نجمة.. الريح تقذف «شيلتها» شحرور يشرب من ريقها.. تتساقط أضواء النجوم على حبات الورق التي تغطي حافة جبهتها.. تصاحب مسرى القمر.. يغار منها الليل.. تتوحد مع صمته.. الهواء عاشق لها.
• • •
قال العراف الهندي.. - لقد فتح الوادي بعظمة من ساق «جني» مدفون في بحر الموت.. الغزالة هي التي ورثت المفتاح الغريب.. ابنكم ستتحرك به الحياة.. ولكن الطريق من هنا سيطول.. الشواهد والعلامات تحتاج إلى صبر طويل.. سيقابلكم في رحلة الإياب طابور من الفيلة والجمال ليست لها رؤوس تغطيها غيمة من غبار.. وسطها بومة سوداء.. ستحكي لكم الوصفة.. ستدلكم على الدرب.. حذار من السؤال.. نفذوا ما تريد ولا سؤال عما تقول..
• • •
حبوس طويلة للقمر والنجوم تلك النقوش التي تطرز بالحناء على كفها.. إنني ذلك القنديل المعلق على طرف لسانها.. بكلمة تقتلني فقط..
لو عرفت من أي البشر أنا.. أي الرموز الصغيرة تدلني على الطريق الذي يربطني لذلك الخيط المجهول.. من أي نفق أو مجرى، أو ريح تسلقت إلى هذه القرية؟!
ترى هل أنام في ساحة أحلامها خادماً صغيراً.. حارساً يراها تخطو مرة في اليوم الواحد.. أشرب من خيالها جرعة الاكسير؟!
• • • - في المغارة الطويلة جلسوا.. الريح الشديدة تصفر.. حداء بعيد يصيح لإبله..
- أبي إنني أريد شربة ماء أو حليب..
- ليس لدينا إناء.. العراف قال لا تحملوا شيئاً..
- ريما الراعي يحمل إناء.. قربة.. تدبر.. إنني أموت عطشاً.
وقعت عين الأب على جمجمة.. غسلها من قرية الراعي.. - احلب من الناقة التي تبكرت قبل شهر ببكرة صغير «ملحاء»..
- وهل كان مريضا منذ زمن؟!
- قارب الأربع سنوات..
- اقرأوا له بالمسجد.. أو اكووه..
- «ضاع الطب، والمداوي»!!
• • •
مولاتي أبحرت مع أنفاسك.. لا زال الزمن يتواطأ معي.. إنني أحيا وهذا أمر غريب؟! قبيح.. بليد.. راوية يريد أن يطيل الأحداث، ينسقها.. لكنه يتمزق. لم يعد أمر الأصل والمنشأ.. وحتى الحياة لم تصبح ذات قيمة..
أطلي من شرفة عرشك الفضي.. خذيني إلى مساحة رؤياك.. قط.. قرد.. مسخ مشوه تتطارد القمل على ظهره..
نعس الأب.. حية «كوبرا» ترتكز على الإناء.. تقذف سمها.. تدور عليه مرتين.. تعود أدراجها.. - «هونت آكل لحم حمار» وحلمت حتى تحكي لنا.
- لا.. (متورس) بدم (ضاطور)!
تجشأ «مشؤوم».. - أعتقد أنه من مواليد الخسوف.. وجماعته صاحوا في الحارة: «يا حوته هاتي قمرنا» وهو قمر النصف!!
• • •
يا من ينادمني على الغليون والدلة الصفراء مراكبها تتحرك خطواتها.. تتمايل الرؤوس.. جدائلها المقضوضة تلوح بالهواء.. على رنة خلخالها، وإيقاع خطواتها تردد الأصوات الناعمة:
بالحنا والمداس يا حلو مشية خلي
بالحنا والمداس
• • •
زحف الشاب على الجمجمة كرع الحليب إلى النهاية - الموت هو الحل.. عذراً أبي إنني أدفع بآخر قسط في حياتي.. يكفي أنك قضيت معي نفس العذاب.. الرحلة طويلة – كما قال العراف – وداعاً.. وداعاً.. السم هو الشفاء النهائي من المرض الدائم.. رحماك يا رب!!
- وهل عرف أبوه في موته في حينه؟!
• • •
ستكون آخر ليالي مع صورتها.. إنها تسكن الآن خيمة الضوء.. السور الطويل لم تعد تزينه النخيل.. الشمس التي تتعانق كل صبح مع شرفتها ستغيب.. القرية ستسكنها العفاريت.. الأرض ستجدب.. سيسقط القنديل الذي تعلقت به روحي.. الراحة هي النهاية..
سيخطفها الغريب.. بثوبها الأبيض.. جدائلها.. «محيريب بن جازم» سيمشي بجنازتها.. لتسقط عليه مراجم السماء.. ويخرج إليه الموتى، والجرذان والحشرات وتملأ وجهه وذراعيه نقوش الجدري.. و.
• • •
تنحنح «محيريب» سقطت دمعة كبيرة من عينه العمشاء.. مسح بطرف غترته وجهه.. دفع من رئتيه سموم هذه الليلة. - لم يمت!!
دهش الحضور.. صمت قصير خيم على حلقة الشيوخ.. الموقف شل ألسنتهم.. - «مهبول ومطقوق بعصا»!!
- حدث العاقل بما لا يليق!!
قال ثالثهم..
لندعه يكمل الرواية.. ربما نكشف الجديد..
• • •
لقد سافرت بعيون عالمها الناعم.. ستعوي الذئاب في عالمي.. جبارة هي الأيام.. غسلوها من ذلك الطهر العظيم.. سقفوا ذلك الضياء الذي أكل من شرفتها..
لقد أعلنت على نفسي والأيام الحرب.. وهذا هو يوم القصاص الأكبر..
• • •
قلت إنه شفي.. وبعد أيام فكوا حجاباً من العراف
كتب عليه.. - إن شفاءه لن يتم إلا أن يشرب بجمجمة شاب بكر من حليب بكر، وبسم حية بكر أيضاً!!
الصحفي و(الكنيش)
لم يكن يهوى الحيوانات، وحتى الوديع منها.. حصة من الحمام والقطط والعصافير لا يذكر حتى في طفولته..
كغيره ممن تجرهم هواية السفر.. ذهب إلى القاهرة.. الصورة التي تخيلها عن عالمها الصاخب.. آثارها.. حياة ليلها.. كل ذلك رسم صورة متداخلة عنها.
صديقه الذي رافقه كان سباقاً لزيارتها.. التقاليد التي عاشها في وسط معين كان يصدر إليه نصائح فوائد الحيوانات.. وخاصة منها صديق الانسان القديم الحديث الكلب..
حدثه عن قرية في إيطاليا أنقذها كلب من نمر هارب من حديقة الحيوان.. القرية وضعت له مقبرة خاصة بعد أن قدم حياته دفاعاً عن القرية..
حكي له عن فصائل «الوولف والكنيش» وكلاب الصيد والحراسة، والبوليسية..
المهم أن هذا المرافق يقنعه بأنه عازم على شراء كلب من فصيلة «الكنيش».. لكنه لم يجد الكلب الذي بالمواصفات..
أوصي صديقه الصحفي أنه طالما سيتأخر فانه بالإمكان أن يخدمه في الحصول على الكلب..
الصديق فعلاً خدم صديقه.. اشترى كلباً أبيض، وجهزه بشهادة طبية. وكشف خاص.. وتغذية خاصة..
في مطار الرياض حمل الصحفي الرسالة الطبية.. المفاجئة أنه بوسط حشد كبير من الركاب والمستقبلين «نبح» الكلب.. ووسط دهشتهم وخجل الصحفي الذي أسقط بيده.. تساءل: - ترى هل مقلب ساخن من الصديق المرافق؟!
وفي حيرته.. أنقذ الموقف صديق..
خطف القفص.. ودفعه إلى شنطة سيارته.. - وأمام ابتسامة صديقه اللاذع النكتة.. قال:
مبروك بانضمامك إلى جماعة الرفق بالحيوان.. وشكراً فقد أكلت المقلب ببراءة!!
التاريخ / 22 – 9 – 1399 هـ
0 تعليق