في العيد يتم تضييع الوقت في البحث عن ملء هذه الأيام والساعات بأي جديد.. لكن الجديد مفقود في المدن الكبيرة، وخاصة كالرياض تهاجر منها كل الوجوه في البحث عن بديل حتى في القرية الساكنة والعادية، والتي لاتزال تحتفل في العيد دونما تزييف في العلاقات أو تطويق الحياة بتلك الخلال الطارئة..
ولأن العيد قد فقد الكثير من مظاهره الرائعة والساذجة، وخاصة تلك التي تجد الزينة والتجديد في كل شيء من المصالحات بين الخصوم والمشاركة في مائدة واحدة وبزمن واحد.. إلى آخر المسلسل في الحفلات الكبيرة والصغيرة..
لكن في المدينة الكبيرة قد لا تجد ما يغريك بالخروج أو حتى الاندماج بالحياة اليومية، لأن الوقت يبقى بدون رابط وبدون طعم ويفقد رتابته العادية بين العمل والأكل والنوم..
وكواحد ممن شعر بهذه المظاهر في قسوة حياة المدينة في عطلة طويلة، كان الإدمان على مشاهدة (التلفزيون) هي الحالة الوحيدة في كسر هذا الوقت الزائد.. وهنا كان الانطباع الذي سجلته عن برامج العيد واحداً من الأمور التي وجدت أنها ربما تصلح كوجهة نظر لمشاهد لا يرغب أن يكون ناقداً، ولكن من زاوية من وجد تجديداً، وجذب المشاهد إلى هذه الوسيلة المعشوقة المكروهة..
• • في السهرة الطويلة التي اشترك فيها رواد وشباب الأغنية في المنطقة الغربية.. وجدت أن الفنان (السندي) هو محور الحركة في تلك السهرة.. وإن كان بعض الشيوخ من معاصريه مثل (الحلواني) وضابط الإيقاع (وفوزي محسون) إلى آخر تلك القائمة الطويلة وجدت أنها تختزن كما هائلاً من التراث الشعبي الذي ظل متناثراً بين تلك الأغاني الهجينة التي حاولت تحديث ذلك التراث..
وإذا كانت الأغنية من أهم المؤثرات والانتشار في التراث (الفلكلوري) أي أنها حركة وصوت، وايقاع، وربط بين قصيدة مجهولة أو معلومة النسب بتلك الموشحات أو المقامات ذات التاريخ المتواتر..
أقول إن الجهد الذي بذل في تلك السهرة يجبرنا عن البحث عن الاساسيات التاريخية وتسجيلها بالصوت والصورة، لأن تراثنا أصبح نهباً بين مختلف المدارس المدعية والصادقة..
وإذا كان الفن الشعبي يحمل هوية عالمية، فانه لابد أن يحمل تقاليد معينة ترتبط أساساً بحياة تلك الشعوب التي أنجبت هذا التراث.. ولذلك بقيت على علاقة مقيدة طول تلك السهرة، لأنها تخاطب – بدون إملال – مصدراً تاريخياً رائعاً.. وأعجبني أكثر أن تشترك المدرسة القديمة والحديثة في محور واحد بالاعتراف بأفضلية أولئك الرواد، وبأن القيد الزمني ليس هو الذي يشكل الفارق بين من يحاول أن يطور هذا التراث، أو من يحمله بصورته الأساسية.. والفنان الرائد هو الذي يتواضع مع فنه لأن الخالدين هم فقط الذين عاشوا بإخلاص لذلك الفن..
• • من جانب آخر كنت لا أجد في أي مسلسل محلى أو مسرحية إلا تلك الجوانب المملة التي تناقش العقار، وزوجة الأب الظالمة التي تقسو على أبناء زوجها، والتي غالباً ما تنطبع بذلك التطويل الزائد والممل لدرجة أننا أصبحنا نعرف النهاية من خلال أول حلقة، وصرنا نترحم على صبر المشاهد مع هذا الاغتصاب للوقت وتدمير الأعصاب..
لكن (أبو مسامح) في مسلسله الشعبي ذلك الذي يعكس نمطاً معاشاً من الماضي جعلني آمل بشيء جديد..
ورغم سذاجة المضمون، إلا أن أداء الممثلين الوطنيين مع إخوتهم من الكويت جعلني أدرك مدى الرابط الكبير بين العادات والتقاليد.. ولقد بهرني بحق كسر حاجز اللهجة بين المنطقة الوسطى والشرقية، أو اللهجة الخليجية، وهو الأمر الثاني بالأهمية من حيث الأداء الجيد.
إن صورة كفاح المرأة والرجل حتى في البحث عن (عزيمة) لمداواة ارتفاع درجة الحرارة، أو الحمى الروماتيزمية. كل هذا يعطينا مشهداً ذاب في تاريخنا الحديث، وأصبحت الأجيال الحديثة في حالة انفصام كبير بين ماضيها القريب، وحاضرها المشوه الذي هو بدون هوية..
إن المظاهر الشعبية وقسوة تلك الحياة هي القاسم المشترك بين ما نعنيه بحركة السكون الطويلة، وراء التعلم بطريقة (الكتاتيب) والاكتفاء الذاتي من المحصول الشحيح.. وبين ما هو موجود في الوقت الحاضر إلى حد الإسراف في العواطف والماديات، والخروج عن كل القواعد الإيجابية في حياتنا..
ورغم أنني لازلت أجد أن اللهجات الشعبية من منطقة لأخرى يصعب التفاهم حولها، فإن البحث عن صيغة مشتركة لتلك اللهجات، أو ما سمي بلغة الشارع شبه الثقافية.. أقول إنها ربما تكون مخرجاً جيداً، في تسجيل حياتنا وإعطائها البعد الاجتماعي والنفسي الرائد..
لقد تداوينا بالعزائم، والكي والقراءات في المساجد، وعرفنا الزينة (بالحنا) والورد اليابس، وعشنا على (هريس) (المنحاز أو المهباش) وعرفنا (الطحين) على الرحى الحجرية، وصادقنا بالرعاية والحنان النحلة والعنز، والحمار والجمل.. ومع هذا لم نفقد شيئاً من أصالة ذلك التاريخ.. ومن يعتقد أنه عقوبة زالت وتسببت في الفقر، والإفقار التعليمي والعقلي لا أجدهم متسامحين مع تاريخنا.. والماضي هو جسد للحاضر ومرحباً بأي وقفة منصفة لتلك الرحلة الشاقة والمرحة..
• • بالنسبة للإنتاج الخليجي، وعلى الأخص الكويتي والذي عودنا على الجودة، أجد أن تلك المعروضات أقل من أي إنتاج شاهدته..
فالأخوة الثلاثة عبارة عن سقوط كامل، وإن اشتهر (النفيسي والمفيدي، وأم عليوي) كوجوه رائدة في الحركة المسرحية والتلفزيونية..
أنا لا أدرى ما قيمة ذلك الحشو الطويل في المشاهد والثرثرة الزائدة في موقف لا يحتمل إلا دقائق عادية..
هل مرحلة البحث عن (الشباك) أو الدخول إلى سوق (الحراج) في التلفزيون الخليجي أصبح مطمحاً مادياً؟
النص كله تهزئ بالشخصية الخليجية، أو الكويتية على الأصح، وإخراجها من أبسط مبادئ الوعي البسيط.. ولا أدري لماذا تصبح عقدة البحث عن المرأة الأجنبية هي الحالة شبه المغرية في الخروج من القواعد البسيطة لحياة مجتمع محافظ.. وأقول محافظ لا بمعناها التقليدي، ولكن بأن الوجه الصادق لهذا المجتمع ينفلت عن أبسط قواعده، ويكون مخادعاً، وكذوباً كما هو الحال مع (مبيريك) وزوجته الممرضة.. أو مع (قحطة) والأجنبية من جهة، وابن (قحطة) وبين نفس المرأة من جهة أخرى وذلك الابتذال والتسطح بإغراق المشاهد بالحركات التشنجية، ومحاولة تجسيد الغباء وأن هذا الخليجي (جيب) كبير يحمل الذهب، ولكن لابد من الحجر عليه لأنه لا يعرف التصرف بهذه الثروة الهابطة من السماء..
وكما قلت إن (الأخوة الثلاثة) هي تدن في المضمون والأسلوب.. وقد فقدت أبسط عناصر التمثيل الناجح، وهو عنصر التشويق..
• • من جهة ثانية أجد أن (اسكتش) بساط الفقر رغم ما صاحبه من دعاية كبيرة، إلا أنه خروج عن الأداء الجيد (لحسين عبدالرضا وسعاد عبد الله)..
إن مسألة تقليد اللهجات فشل فيه (دريد لحام) حين محاولته تقليد اللهجة المصرية.. وبنفس الطريقة فان (بساط الفقر) رحلة غير موفقة كإنتاج جيد.. ولا أدرى هل هذا النمط من الفن سهل التجويد بمجرد نجاح (شهر العسل) مثلاً، ليأخذ باقي الإنتاج نفس الحب والتشجيع عند المشاهد؟
أنا شخصياً لم أجد إلا محاولة لتطويع المشاهد، أو إجباره في القبول على عمل ساذج – وليسمح لي المنتج والمنفذ – لأنه كما قلت، عملية تقليد اللهجات بقدر ما هو صعب، فإنه لا يحمل نبرات الصوت، أو التقاليد المتعارف عليها داخل بيئة محلية عادية..
ثم إن محاولة مجاملة المشاهد بإضفاء نوع من النفاق في تزيين لهجته، يفرض كسبه كمشاهد ممنون، أمر مرفوض.. فنحن شاهدنا حسين، وسعاد في إنتاج مشترك، وبلهجة كويتية صميمة، فكان المشاهد أكثر التصاقاً وإدراكاً لذلك العمل الناجح..
ثم إن فن الحوار «الكوميدي» المغني ليس من السهولة ضبطه وترجمته.. فإثارة الضحك أو كسب ابتسامة ما ليس معناه المبالغة بالحركة، أو اللبس أو طرق كلمات عادية، كما هو الحال في موقف عنترة وعبلة..
فإذا كان المرحوم «اسماعيل ياسين» يعتمد أصلاً على حركة شفتيه فان (دريد لحام، وعادل إمام) كسبا الموقف الطبيعي وغير المتكلف أثناء الأداء.. ولا يخرج عن نفس الدائرة (حسين عبد الرضا) في (درب الزلق) مثلاً.
ما أريد أن أقوله أن العمل التجاري سيكون بضاعة كاسدة وضعيفة التأثير.. وهو ما أرجو أن ينتبه إليه كل من يهتم بالمحافظة على العلاقة الجيدة بين الفنان والمشاهد..
• • (فؤاد المهندس، وشويكار) ربما أنهما ثنائي ناجح يربط الكوميديا، بالتراجيديا.. وعملهما الذي عرض أثناء العيد، يؤكد هذا الترابط بينهما، إلا أن حرارة الشد، بين العشق والطفولة الذي تجسد في الأم «شويكار» والطفلة الناجحة التي كانت هي محور الحركة الدرامية في العلاقة بين فؤاد وشويكار من جهة وبين الخطيب الزائف الذي يزحف كقوة محتالة وشريرة ترتبط الغاية الوحيدة في السيطرة العاطفية بغاية أقصى حدود المنفعة المادية..
العمل عموماً مترابط موضوعاً وإخراجاً وتمثيلاً، لكن الحلقة ما قبل الأخيرة عطلت تتابع تلك المفاجآت اللطيفة دونما أصبح «طابوزادا» شخصية متكلفة ومعطلة بتلك الحركات الخرفاء.. فقد كان بالإمكان كشف كل خيوط الموقف المتشابكة بمجرد ظهور مدير الشركة بتلك الشخصية المزدوجة، وانتصار الفضيلة التي تجسدت ببراءة تلك البنت الصغيرة..
ولقد أعجبتني تلك النهاية البسيطة، والتي لم تتم بالعادة التقليدية كالزواج مثلاً لتتويج هذا الانتصار الإنساني العاطفي.. وعموماً فإن المهندس وشويكار أعطيا في ذلك المسلسل أحسن أعمالهما التي سبق مشاهدتها..
• • على الطرف الآخر تظل «فاتن حمامة» الممثلة الوحيدة التي لم تسقط في أدوارها.. فهي نمط فريد بين كل الممثلات العربيات تبحث عن هذا التوازن بين شخصيتها كإنسانة وفنانة، وصاحبة شخصية بارزة في الاستئثار الفعلي في الدور الجاد، والسيطرة على المشاهد.
إن الذي يبدو من فاتن أنها شخصية واعية، ولذلك ليست كل الأدوار تصلح لها، ولذلك تكون عملية الانتقاء عملية حذقة.. وهو ما جعلها تحافظ على أصالتها في أقصى حدود الممثل الناجح.
(ولسن.. والقفص الزجاجي)..
«كولن ولسن» من الكتاب القليلين ممن يتركون هذا الأثر المتراكم في محاولة الخروج بصيغة طبيعية للمسلك الإنساني.
فمن بداية الرحلة معه في كتبه الفلسفية «اللا منتمي، وسقوط الحضارة، وما بعد اللامنتمي» إلى رواياته التي يسيطر عليها العنف، والقلق والتمزق العاطفي..
في روايته «طقوس في الظلام» تسيطر روح السادوماسوكية على البطل «نن».. لكنه في (القفص الزجاجي) يبدأ بمرحلة أكثر نمواً وتوتراً.
القاتل ساندهايم، شخصية إجرامية يقتل لأنه يشعر أن قوته الجسمية الزائدة عن الحد الطبيعي لا تجد لها موقعاً مناسبة في هذا الوجود المتنافر والمحطم..
إنه يقتل ضحاياه لأنه المتنفس الوحيد لإعلان الاحتجاج على العالم الذي لا يسيطر عليه أي علاقة حميمة بين حقائق وجوده الطبيعي أو الروحي، وتمايزه الصحيح.
إن البناء الروحي للإنسان لا يتم بخلق مبرر إعادة ربط العالم بنفق جديد هو العبور بواسطة فعل يبرره حقيقة عدم تلاؤم الإنسان والحقائق الطبيعية.
إنه يقتل ضحاياه، ويترك قرب جثثهم مقاطع من شعر «بليك».. وهذا ما يستثير شخصاً متخصصاً في عالم «بليك» الروحي..
فهو لا يجد توافقاً بين المنطق الروحي والجريمة، إلا إذا كان هناك خلل في الطبيعة الإنسانية ذاتها..
وهنا يبدأ «دامون ريد» في البحث عن هذه الشخصية الأسطورية المنقسمة ذاتياً.. وتكوين رحلة طويلة وشاقة في أزقة لندن، ومتعرجاتها.. وداخل نفسية تلك الشخصية العجيبة يجيب ولسن على حقائق القلق الحضاري الحديث.
إن خلق التوازن الروحي في شخصيته تبرر الجريمة بأنها واحدة من حقائق الوجود هو المدخل الطبيعي للإنسان الأوربي الذي يمزقه تقنين الإنسان وعقله داخل حركة الغابة المادية الكبيرة.
إن المخرج لم يكن يبرر أفعاله الإجرامية من خلال تمزقه العائلي واكتشاف حقيقة أنه ابن غير شرعي لأب مجنون، وأم شبقة وعاهرة.. ولكن الحقيقة التي تمزقه أنه لا يجد وظيفة تلائمه إلا تحطيم العالم وتمزيقه.
تلك هي أزمة الإنسان الذي فقد الرغبة في العيش لانفصالها عن أبسط أسباب معاشها، وهو الأمن الروحي.
إن ولسن يطلق هذه الحقائق، ليقول إن الجنس، والتفسخ العاطفي أمران يدفعان حتى المثقف على تحطيم هذا العالم الزائف.
لكعب بن زهير:
فما تدوم على حال تكون بها كما تلوّنُ في أثوابها الغول
وما تمسك بالوصل الذي زعمت إلا كما تمسك الماء الغرابيل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا وما مواعيدها إلا الأباطيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام وتضليل
التاريخ / 7 – 10 – 1399هـ
0 تعليق