تأصيل الثقافة لم يعد مزاجاً يركن إلى التركيز على الملهاة، أو الصورة الرومانسية.. الثقافة صارت أساساً حيوياً في التكوين الحضاري..
والأصيل هو البحث في الجذور التاريخية، وإعلانها كحاضر حي أو ما يسمى الآن «بتحديث التراث» ومن الممكن جداً أن يجد أي شعب تعايشه مع القصيدة أو النغم الموسيقي، أو التمثيلية بأي لغة يقرأها، ويترابط معها من خلال موقعه كإنسان يؤمن بأولوية الثقافة..
وهنا الإحساس بأن شخصية أي شعب ليست مادة قابلة للنفاذ، أو التغرب.. لأن وحدة الوعي بالتاريخ هي أصلاً انجذاب للعمل العطائي الكبير..
وإذا كان التراث الشعبي هو واحداً من أهم المقومات الهامة في إبراز هذا التراث كحالة قائمة تخاطب العالم بأسلوب وروعة هذا التراث.. لذلك صار للتراث عموماً مدارس، ومتخصصون، وكتاب.. وهذا ما يميزه بأنه نافذة للعالم..
وفي وسط الجزيرة بالذات حافظ التراث الشعبي على ثقافة وحياة مميزة لأنها منطقة كانت شبه مغلقة عن العالم بحكم ظروف متعددة..
وقضية حماية هذا التراث واجب وطني ضخم مثل ما هو واجب أيضاً على بقية أجزاء المملكة.. وكلمة واجب ليست بمعناها العاطفي، أو الإرشادي، وإنما بقوة أهميتها..
لقد قلت في أكثر من مرة أن هناك استعمالات وتقاليد أخذت معها لغتها، وبالتالي فهي معرضة للنسيان والاندثار، ومسئولية هذا لا تقع على مؤسسة أو جهة واحدة، ولكن أكثر الجهات مسئولية هي الجامعات التي حتى الآن لم تخضع هذا التراث إلى أي جانب من الدراسة أو التخصص، ماعدا المناظرات التي تمت عن الشعر النبطي. وهو ليس غير جزء بسيط من التراث.. وموضوع التركيز على الشعر وحده – مع أنه لا زال حياً وقائما بكل تصوراته وجودته ورداءته.. لكن أشياء أخرى اختفت بفعل ظروف عديدة وهذا الاختفاء يعني طمس معالم كبيرة عايشتها أجيال كبيرة، ومن بقي منهم هم من يستطيعون إضاءة ذلك التراث وتسجيله بالرسم أو الصورة، أو الصوت والصورة إذا توفرت الشخصيات التي تستطيع القيام بهذه الأدوار..
• • في الأغنية مثلاً كانت هناك تقاليد كثيرة ومعبرة مثلاً أغاني جذاء النخيل، وأغاني عمال البناء، والحصاد والعروس، ومحاربة الجراد أو الملدوغ.. إلى جانب سامريات المناسبات والأعياد، وهدهدة الأطفال.. أي أن التعبير عن المأساة والفرح والتعب صور حية، وتؤرخ لأساليب الحياة في ذلك الزمن..
• • وبنفس التأثير الحكاية، أو (السالفة) بعنصرها الخرافي الأسطوري، أو الحكاية كرمز للبطولة.. ولعل عنصر الجان، والبطل الفارس هما أكثر الأشياء سيطرة على المجالس الصغيرة، أو الكبيرة..
ولعل عبقرية أي شعب هي القدرة على إنجاب الخيال الخصب، ولذلك نجد أن هناك حكايات للأطفال عند النوم وتتخصص في هذا العجائز، وهي التي اشتهرت بحكايات الجدات في السطوح المعتمرة بالصيف، وبأصواتهن الحنونة..
وكذلك حكايات مجالس الآباء عن البطل، والفارس الكبير، أو عن العشق البريء في دنيا القرية أو القبيلة، ولعل الحكاية غالباً ما ترتبط إما بالمحيط الاجتماعي أو التقليدي لتلك الفئات، أو بالحكاية المتناقلة التي لها جذور عالمية، أو أساسيات تاريخية كشخصية عنترة، أو أبي نواس كأسطورة شعبية تجمع البطولة مع الحيلة أو الخبث.. أو تأخذ شكل حيوان يتقمص شخصية «جن أو جنية».. إلخ..
ولعل الأساس في رواية الحكاية الشعبية هو إما للتسلية، أو للتشويق بالتراث الوطني أو القبلي، أو الديني..
والتوسع في دراسة هذا النوع من الحكايات أصبح علماً قائماً في التأثير الاجتماعي والنفسي، وسلبيات وإيجابيات آثارها، خاصة في حياة الطفل التي قد تكون واحدة من أهم العقد النفسية، أو الخوف، ولعل أسطورة «سيزيف» أو «أوديب» أصبحتا جزءاً من تراث فلسفي ونفسي..
• • المثل أيضاً يأخذ نفس التقليد، وأهميته أنه يأخذ جانب الحكمة الشعبية الظريفة، وفلسفة المثل أيضا اهتم به التراث العربي الفصيح، ولعل الريادة التي قام بها أستاذنا عبد الكريم الجهيمان أمر يفوق الخيال ولا أريد التعليق على رأي سبق أن كتبته حوله، والذي حتى الآن لا زال يعطي في مجال التراث عموماً، دونما أي اهتمام أو أي إشارة له حتى في صحفنا المحلية.. وكذلك المحاولات الأخرى التي قام بها زملاء له..
ما يعنيني أن المثل يشكل عنصراً رائداً في تعميق الممارسات الدائمة.. والمثل يعيش نفس الحركة والتطور ولكنه غير قابل للديمومة خاصة إذا لم يخضع للتدوين والاستعمال..
• • تبقى (النكتة) أو الطرفة وهي التي تفقد قيمتها عند التسجيل لأنها تعتمد على الرواية الناطقة، أو الحركة التمثيلية أكثر منها للتدوين.. ولكن طالما أنها جزء من تراث يتعامد أصلاً على الحياة القائمة فإنه لابد من تطوير، أو تطويع أسلوبها إلى إشراكها في المسرح، والتمثيلية، لأن لها إيقاعاً وصدى خاصاً..
وطالما أنه لا يوجد حركة مسرحية ما يمكن تجسيد هذه النكتة واعطاؤها البعد الحركي، أو المروي، فإنه لابد من الاستفادة من التجربة العالمية أو العربية..
• • الآلة الوترية، أو غيرها من أدوات الأغنية والرقصة الجماعية أو الفردية غالباً ما كانت نبت الإمكانات البيئية..
فالربابة والسمسمية، والطبل كانت تعطي نفس الرؤي الفنية في ضبطها وتزيينها من قبل صانعها.. وكما هو الإحساس بالمتعة الجمالية، فإن الأغنية أيضاً لها لباستها «كالثوب المرودن» و(الصاية) أو (الزخمة) ثم لعبة السيف أو الحركة الجماعية في نظام السامري وغيرها..
والثوب جزء من مميز خاص، سواء بانتقاء لون معروف، او باختيار التطريز، واكماله بالسيف، أو الحزام..
وقد تكون معظم تلك الألبسة وافدة من الشام أو العراق لكن شيوعها في وسط الجزيرة أعطاها الفن (الفلكلوري) وارتبط بمجمل تلك التقاليد..
• • وهناك أيضاً مجموعات الأدوات التي تستعمل في البناء، أو السقاية أو الأكل.. وكذلك التي ترتبط بالمواصلات أو بمجمل مواسم التقليدية.. وهذه قد تبقي كوحدات قائمة في المتحف الشعبي..
ما أعتقده أن التراث الشعبي من الصعب حصره في موضوع صغير كهذا المقال، ولكنها إشارة صغيرة لذلك المحتوى الضخم الذي لايزال بدون تطوير من جانب متخصصين..
فنحن نشاهد مثلاً أن أقساماً كبرى في جامعات عالمية وعربية الكل متخصص في قطاع من هذا التراث، ونجد الملاحم الشعبية، أخذت دورتها العالمية كما هو الحاصل في ألف ليلة وليلة أو الشاهنامة، أو جلجامث.. وغيرها بدأت لا تنحصر كأداة تراثية فقط. وإنما تدخل في البناء الفني الحديث في الرسم، أو المسرحية، أو الشعر.. وهذا ما جعل أهمية التراث الشعبي أنه ليس نمطاً مطموراً.. بل أن دوره لا يقل عن القوة الكبرى في الأثر الاجتماعي..
إن تمثيلنا في الخارج ببعض بسيط من مفردات تراثنا شيء قليل جداً، وهنا الأهمية في إنشاء معاهد متخصصة، ومجلات تبرز أهمية هذا التراث ولا يكفي أن يعتمد على جهود فردية بالتحديث أو النقل لأنه هو الصورة الطبيعية أو التقليدية التي تستطيع الخروج بها إلى العالم بأثر فعال ومؤثر..
الكاتب.. والانفصام!
الكتابة هل هي عمل همجي يمارسه الكاتب، أو أنه نوع من الشعور باللا أمن، ولعل بناء اللفظة، وموضوعها، وتأثيرها قد لا تكون أكثر من ممارسة الانفكاك من الحصار الذاتي..
وبصرف النظر عن الرحم التي تسكنه الكلمة، أو الموقف التي تثبته أو تنفيه فهي ضحية الصدق أحياناً لأنها لا تنطوي إلا على نزاع ذاتي بين ما تريد وما يريده الآخرون. وهنا المشكلة في سقوط الكاتب في العالم الثالث، أو العالم الموجة، لأن الكاتب جزء من الأدوات المسيطر عليها، ولذلك فهو يشعر بقرارة نفسه أن الخلاف في الأصل ليس خلق توافق بين الكاتب والقارئ، ولكن لأنه القضية التي لم يتم التلاؤم معها.. ولذلك فهي لا تقبل حتى بين من ينادون بعدم الانحياز..
والكاتب في ذلك أقصر الناس عمراً، لأنه كوكب يدور في فلكه الخاص، وإن كان يقال إنه ضمير أمته!
فهو بين حقيقة حياته العادية، وبين الرغبات، أو الانفعالات التي تدور كحجر الطاحونة الكبير في رأسه إلا يزدهر إلا الألم والمعاناة، ولذلك كثيراً ما نشاهده أقرب الناس إلى الانتحار، أو التقوقع، أو الهجرة الطويلة إلى اللا شيء..
حتى العظماء منهم مصابون بالصرع، والعمى، والجنون النصفي.
وهذه الحالات هي اللقاء مع العدم، لأنه في أعظم الإبداعات الكبرى لم يعش عرسها أي مبدع من هؤلاء
أبي العلاء بقي نشاطه الذهني فقط هو الذي يعطى بعد أن أغلق ذلك الباب الذي يحيطه بالناس..
ونفس التكوين والعذاب لاقاه أكثر مبدعي العالم، لا في الفكر وحده ولكن حتى في المنجزات العلمية..
لذلك فالحرب لن تنتهي بين الكاتب وعالمه، وبين من يقرؤونه بحسرة وألم في الغرف المخملية، أو في السجون.. فهو نوع من المحرمات غير المعلنة وكم سيكون هذا الواقع ممتداً وقائماً.. وكم سيسقط من مفكر في سجن المعاناة والتشرد، أو الطيران إلى سماواته بين أجنحة، إلا هاجسه وخياله.
وراء ضلع الرجل!
(سارة العبيدي) قصاصة من حب وعنفوان، ولذلك تتراءى لك أنها ليست صفراً في أرقام الرجال.. وإن كانت لحظتها مختصرة وعنيفة بموقف شبه اتكائي!!
وأعني أنها تمتد شخصيتها إلى ذلك السلوك الذي يريد حرق الأشياء بالدموع.. أو بالبكاء المختصر لحيثيات الانتصار..
شخصياً لا أعرفها إلا من خلال ما تكتب. لكنها تتوحد مع ريشة الفنان، وغموض الفيلسوف.. ورشاقة الشاعر. أي أنها احتفال لزمن ما سيكون..
قليلات جداً من الكاتبات من ترتب رحلها مع الحياة بدون أنيس ظافر..
(غادة السمان) في (أعلنت عليك الحب) تختار بنزعتها الطفولية والتربوية صورة العملاق المحب الذي يزاوج بين البراءة والعنف ووأد المرأة!!
(كوليت خوري) هي الأخرى تعشق الانفصال عن الأرض داخل سماء الرجل..
وأخريات يذهبن إلى الصوفية أو المجاهرة بالمعنى الأسطوري للمرأة (الصغرى) لأنه يستهويهن ضلع آدم الكبير..
نحن المرأة بالحدود القصوى للتمرد، تدخل المعركة بقلب مخالف لطبيعتها.. أي أنها تتسلق جدار التحدي بسلاح العطف، والنفي القانوني لبراءتها في جميع الدساتير..
لكنها تبقى صورة مدونة ومدورة التكوين لانصهار الزمن تتوق إلى ذلك الاندماج الوراثي وراء الرجل.
والمرأة الشرقية أكثر النساء في العالم إحساساً بالغبن، وفقدان التوازن.. إنها تحتمي بالظل.. وهذا هو الأساس في طعن وجودها..
وخلافاً لذلك تبقى سارة واحدة ممن يطهرن العقل بالنار، والثلج.. وهجرتها في عالم الاختفاء والطفولة والشاعرية ترجيع طويل لرحلة الفنانة الإنسانة!! تطأ الشوك بقدمين حافيتين.. وترسم بلعابها المسترسل على الورق والجدران.. وتبقى طويلة – قصيرة ضائعة وهائمة في الحمى الدائرية الشكل..
الفؤاد كحل:
ينمو ضوؤك في الأعماق،
أدون:
1- كيف تظل غروباً في وطني؟
2- … أيغادر من شريان العمر ضيائي؟
۳- أتعود إلى ميناء شفاهي الأحزان؟
وأدون:
1- كيف سيزهر موتك في وطن الفقراء؟
(بين الرحم وبين القبر زمان أسود)
2 – ماذا تعني،
ما دمت تموت بدون وجود
وأموت
وتبقى الصحراء؟
وأدون:
1 – كيف سنبني وطناً يدفئنا؟
۲- … ووجوها نعشقها
٣- ورغيفاً نأكله…؟
4 + 5 – ومنازل نسكنها وسماء؟
أتساءل عن ريح تزعق حول البيت المهجور،
أقول: إلام تجيء محملة بعذاب البؤساء؟
وإلام تجيء الأيام مروضه
ويساق الأطفال إلى موقدنا
وإلام – إذا ما سرت إليك –
تهرب كل الأمواه
فينشق البحر،
(البحر يصير فراغاً،
تخرج منه الحيتان)
……………..
………………
ونظل بدون لقاء؟
التاريخ / 14 – 10 – 1399هـ
0 تعليق