سلطنة الأحلام!

آفاق | 0 تعليقات

لو حشوت راسك في عشرات الآلاف من الكتب في الفن والفلسفة والاجتماع والتاريخ..
وجمعت في ذاكرتك كل الأرقام الفلكية، وكل أصوات الآلات الموسيقية وتغريد الطيور، وأصوات كل الحيوانات الأخرى..
ورضيت بأن المساحة التي تجلس عليها هي ذاتها الأساس المكاني الذي تنطلق منه إلى كل العوالم القائمة أو غير المرئية بعقلك، أو بخيالك وبكل الممكنات التي تسيطر عليها، هنا نقول:
هل ينسلخ هذا المحيط الذي نعيش فيه بكل صواعقه ومؤثراته وحيالاته وطقوسه عند لقاء غير متعادل بين الإنسان والطبيعة!؟!
الحشرات – كما يقول العلم – تعيش بعدة قلوب، كل منها يعمل بشكل نظامي في محيطه وتربط في النهاية بحبل واحد، وأنها تتنفس ما يعادل ۲۱ بالمائة من الأوكسجين بينما الإنسان لا يتنفس إلا 5 بالمائة!!
القضية ليست خلق توازن في وظائف الأعضاء بين الإنسان والحشرة.. ولكن الانفصام الطبيعي بينهما لم يقع مصادمة وإنما هي معادلة حفظ النوم في كيان أرضي واحد..
الصرصار كاد أن يقذف ببنت السنتين الطفلة الصغيرة من علو الدور الثاني.. لأنها لم تجد تفسيراً لهذا الزاحف الطائر يحرك قرنيه بغباء متناه..
الطفلة بحد ذاتها شعرت بالخطر لأن ميزان الرعب والمفاجأة بوجود هذا الكائن العجيب جعلت الحركة اللاإرادية بالقبول بالهرب حتى ولو أدى للموت هو الحالة الوحيدة التي تداركت بها وسيلة التصرف.. لأن حجم عقلها لم يصل إلى تأكيد أن الخطر لم يكن مميتاً لهذه الدرجة ولأن غريزة الخوف هي المتصرف الوحيد في توجيه الحركة والنفور..
الصينيون بخرافاتهم ومعتقداتهم القديمة أعطوا للأخطبوط صوره إله الشر، أو المجزوء من عالم محاط بقوة خارقة، لذلك تجده في أساسيات بناء الرسم وعلى المعابد وحتى في ديكور المطاعم والمتاحف وغيرها إلى جانب «التنين» كشعار خالد، رسمت حوله الأساطير والمعتقدات.. لكن العلم نفض ذلك الخيال الكبير بأن عرف هذا الحيوان أنه بسيط وغير عدائي، وأنه من عائلة الحيوانات شبه الهلامية، وأن أنثاه تموت في لحظات وضع البيض..
تماماً مثل القمر الذي زين ليالي الحب، واستطال على الكلمة الناعمة، وعاصر السمار والأبطال وأضاء خيال الجنس البشري الحالم..
ولكن الحلم إذا كان معاصراً حتى الآن للحظات الإبداع والألم فإن المقابل الخوف حتى من معطيات الخيال الرائد..
والخوف هو الجسر الذي يعبر عليه المعطلون، والمنتحرون والعقلاء والمجانين لأنه الواقع الذي لم يقهره أحد حتى الآن، لا بالمشارط الطبية، ولا بوسائل التفريح والتسلية..
ولأنه حالة عامة وأزلية، فإنه لم يكن سلطة على الجنس العاقل وحده بل على جميع الكائنات الحية..
والخوف ليس مصدره قلق فردي أو اجتماعي، وإنما هو محاولة لترويض الإنسان على مجريات هي أساساً لغة عمدية أعطت البعد الإنساني هذا الواقع..
ليست جنيات الليل و «السعالو» هي وحدها التي أسست هذا الموقف وترابط مع حياة الإنسان من الصغر ولكن الخوف بدأ هكذا تلقائياً ولكنه تجذر ووصل إلى تقنية خاصة وقادرة على تصوير الأشياء وتغذيتها، وأصبحت وسيلة للحرب الباردة والحارة، وصارت نوعاً من الهيمنة على قرع أبواب النفوس.
في الغرب الكبير والمتقدم التزم نوعاً من النزول إلى الناس بسلب قدسية الإنسان نزع منه وحدة التلاحم بين طموحه ومعتقداته، وكانت عملية إفراغ إنسان العالم الثالث من أي نصيب يتمتع به، وسحق كل منجزاته، واستغلاله إما بالاستعمار والحرب المباشرة، أو بعزله عن أي مؤثرات تؤدي إلى تحرره العقلي والنفسي ووراء هذه الأطماع خلقت الحربان بظروفهما ما عرف بتقاسم العالم.. وانتهت المجزرة الكبيرة إلى خلق جيل ما بعد الحرب. أي الجيل الذي نزع من مخيلته أحلام «روسو» وملهاة «موليير» وحتى أشعار «بيردن وهوجو» وبدأت مدرسة التلاحم مع المأساة والقلق، بالوجودية، والماركسية والرأسمالية، ونفد من الوجود ذلك الحلم العذب بالأمن الاجتماعي.. واستبطنت الثقافة هذا التحقيق الكبير مع النفس والوجود بكل مركباته وصار الإنسان محور القيد والإطلاق.
القيد تحت الحرب النفسية الطويلة مع الزمن والعيش في أقبية الليل المملوءة بالجنس والمخدرات، وخرجت عشرات المذاهب الرافضة جنباً إلى جنب مع ثورة العصر الحديثة التقنية..
وفي هذا التلازم ضاعت كل الأصوات والأحلام.. الرقص والموسيقى تعبير ساخط ومؤثر، وراعف من أقصى أغوار النفس. وبقي التحكم في تسيير هذا الإنسان، أو تسيسه عملا يقرر في المعامل، وبين جداول علماء الاجتماع والنفس، وفقدت كل الفلسفات المعنى الحقيقي لإنقاذ الإنسان وإدخاله دائرة الأمان الحقيقية.
أما بالعالم الثالث فالطبيعة والحياة أكثر قسوة ومرارة، وطليعة هذه الشعوب هم المفكرون أو المثقفون بتحديد أكثر. وهؤلاء دخلوا الحلبة بتنازع الأضداد أي أن الهوية الاجتماعية لم تقف تحت سماء مكشوفة. وصار التمذهب والانقسام بين اليمين واليسار واحداً من أخطر الانشقاقات الاجتماعية..
والعلة ليست هي في البناء الاجتماعي التقليدي وإزالته بأي تشكيل.. وإنما العلة أن التربية الفكرية ذاتها جاءت من أوردة مختلفة.. وكان المفكر ضحية دائمة للمزاج الخاضع للقوة السياسية الحاكمة.
وبذلك صار اللجوء إلى الاحتجاج غير المباشر واحداً من المنتجات اللائذة بالحيلة في كل مفكري العالم الثالث..
فالتظاهر بالنقد المباشر لم يعد محتملاً لأنه بشروط تتنافى ورقابة الصحافة والمطبوعات، ودور النشر التي تسيطر عليها حكومات هذه الدول.
وصار الهروب إلى استحداث شخصية تاريخية أو أسطورية في المسرح هي الفلسفة التي يمكن الهروب بها من عصا الرقابة..
وبقيب القصة والقصيدة أكثر إيحاءاً وفراراً من الاختناق تحت الأقبية المعتمة وبهذه الحالة أصبح العطاء ألا يأخذ الوجه الحقيقي التشخيصي للعلة الاجتماعية، القائمة، واستقراء حدود المستقبل..
وعاش هذا المفكر غربة قسرية، وغير معطية عطاء يتمتع بأبسط أبجديات حرية الإنسان.. وجعل الخوف واحداً من النمور الراصدة لكل حركاته.. أو هو رجل البوليس الذي يشغل كل الفراغات ويسد كل المنافذ.
وأزمته مع العيش، والجنس، والحرية، أخذت مساراً منحرفاً ومشابهاً لسقوط الجيل الأوروبي التائه. صارت كل أدوات التدمير هي محطة اللجوء إلى المخدرات وإدمان الخمور والتشرد، وبيع هذا السقوط الذاتي لأي مؤسسة راغبة في الحصول على فن جديد.
وهنا صار المحشوون بالفكر والفن لا أرضية لهم آمنة ولا حتى نادياً أو جمعية والفلك الذي ينطلقون منه هو الحلم الدائم. وكل الحالمين على قيد الحياة يعيشون طالما أن هذه المنطقة هي التي لم تطأها قدم أخرى..

عرس الشيطان!

مسكينة لبنان. صارت بوابة البارود، والضياع انتهى زمن القمر وفيروز، «والكبة» الساخنة والمشوية.
تحولت الى معمل ينتج الجريمة، والموت، وكل الأيدي تحاول أن تصل إلى ذلك العنق البريء، لتغرز أظافرها وأنيابها لخنق آخر أنفاسه..
تطوع الشيطان أن يكون المزمار والراقص، وصاحب الدير الأحمر، وعلى الطريقة في الحرب الروسية الألمانية في الحرب العالمية الثانية يمارس رياضة الأرض المحروقة، والمجال الحيوي كما كان يطرح «هتلر»..
في لبنان كانت الزهرة تعانق الكتاب، والوادي يشبع المشردين والتائهين، ويلهم الجبل روائع الرسم والشعر.
لبنان لم يكن ذا صلة عالمية وعربية حتى يحتل تلك الأقدمية في المرور إلى عاطفة وعقل أي إنسان يزوره لكنه كان عناقاً شرق غرب ومحور ارتكاز للحب الصوفي أو الأغنية دائمة الترتيل.
لبنان شنق بأيد احترفت الجريمة، والتراحم مع الشيطان.. لكن لازال الضوء ينير تلك المسافة التي قطعها اللبناني، وهو يشاهد عرس إبليس، وأصحابه في شرب الأنخاب على قطع ثدي أم أو شفتي طفل أو سحق عجوز يتكئ على شجرة أرز..
أما العرب. وأعني من يديرون اللعبة ويمارسون سادية السلخ اليومي، فهم يستقبلون الأحداث بعري عقلي وعاطفي.. وهؤلاء يغنمون إغلاق ذلك الباب الوسيع الذي كان يدخله كل المظلومين والمضطهدين..
وعفواً يا لبنان فقد صرنا «غرما» ونسينا حتى أبسط دوافع النخوة والشرف.. فنحن لا نزال نعلق أمعاءنا في سوق الجزارة الدولية.. ونمارس الغيبوبة الطويلة لكن الجراح لابد أن تغلق ذلك التشوه الطويل في العقل العربي..
وسلاماً لكم في الحرب والسلم..

الغرق في الوحل!

عفواً حبيبتي فإنني لم آت إليك بقرار، أو أمر ما ولكن عدت بدون جهاز تناسلي، أو أنف يشم رائحة الشارع والحديقة!!
قد تقولين أنني رئة مزيفة معمرة بداء الفحم العائم في المناجم.. ولكن أقول لك أنني مستعمرة كبيرة من المناقشة السلبية للخروج، والعقود غير المنطقية.
شخصياً أدور كالثور في حريق هائل ودائم.. القمر عمر صغير في ميزانية أي بلدية كبيرة ومثرية
والشمس عطلة أسبوعية في قطع الكهرباء والماء والتلفون.. لأنها الواقع الدائم في الصحراء، وفي المنفى الواقعي..
الشيء الصغير الذي أستجديه هو البحث عن فتح قادم وحافل بالعظمة؟! الارتزاق أمر ضروري في
عالم الإشباع، ولكنه واقع ماض في علم التاريخ والأسطورة..
الكل متفق على أننا عنوان غير محلى أو عادي.. الصورة هي أننا مشكلة.. والمشكلة هي العنوان الطافح في الأسياب والممرات والشوارع، وأفقيات «الحواري»..
لقد انتظرت من ينتصر للعدوى عند عجوز مريضه؟ أو طفل رضيع يريد كسب حلمة ظامئة في ليل شتائي!
الأمر هو النافذ في الحياة، ولذلك صار الخادم هو المعمار التاريخي لكل أدوات الانتصار الخيالي أو هو البضاعة المستهلكة في التواجد الأمري للأيدولوجيات الضائعة.
الشك في المرحلة.. أي مرحلة من العمر والانتقال القضائي للأجيال مسألة يطول فيها الجدل والخصام، والنفاذ إلى اللا داخل!
وهنا الطواف في قضية العالم المرمي في زوايا التيه والشبع، والغفل الإنساني!!
الرضيع يركع للثدي، ولكنه لا يبسط يده للموت القادم، لأنه تورم في القدوم، والحضور.. وهنا التقاسم غير الطبيعي، بين الأمر، واللا أمر، بين الارتجال، وعفوية العقل!!۰
التصور هو أهم التوافق بين واسطات العبر غير القادمة.. إنه النفي الحضاري، ولذلك يبقى الحالم القانع أو اللامنتمي للأشياء..
الصفحة الأخيرة في الفرق هي الطلب إلى أي شرطة أخلاقية أن تحمي عنوانه، وبيته والشارع الذي يسكن فيه.
والمطيعون هم أولاً الحرف الدائم الطيب في الاستهلال التاريخي في البقاء!
• • •
للشاعر: فايز خضور
من يحمل بستاناً للجرح،
وأكفاناً من حزن الريح،
وتابوتاً صيفياً
من أفياء السرو
وأعناباً تتدلى لهفي
من دالية تسهر توقاً
لفم مر
ويد كانت لغزاً،
بعد غياب
غامر عمر الدهر الفارق
في قاع الآبار..


التاريخ / 21 – 10 – 1399هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *