جبل الشاي.. ومائدة دم السمكة!!
لم يكن «كبلنج» الشاعر الإنجليزي على خطأ حين قال: (الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا).. وإذا كانت الحواجز لغة وبيئة، وأبعاد جغرافية فإن ذلك انتهى في عصر أجهزة التصوير، والطائرات، ووسائل الاتصال السريع.. بمعنى أن تلك المغامرات التي يصفها الرحالة في تدوين عالم الشرق الذي أخذناه كحلم أسطوري يحضر العفاريت على البخور، ويخنق أقدام العذارى بقوالب حديدية تبعاً لرغبة إمبراطور مجنون يعشق الأقدام بحجم واحد، ويكون السجن للجنس الأضعف تاريخياً..
وإذا كان لقاء الشرق والغرب تم بحروب ومآس، ومحاولة مسخ حضارات قامت منذ آلاف السنين، فإن الشرق العظيم لم يتوقف على محطة التأثيرات السالبة التي حاولت أن تغذى تلك الصورة التي طبعت حتى في المناهج الدراسية بأن الأوروبي هو السيد الكبير على الأرض.
لكن هذا الموقف تغير بمجرد أن وقفت هذه الشعوب لتعرف أن عصر السلائب، والتفوق العرقي لم توقفه حتى قنابل الأمريكان على اليابان، لتقفز إلى السوق العالمية كأكبر قوة صناعية اقتصادية..
• * •
لست أدري إذا كان العالم قد تكون من جديد في قارة آسيا ليعود إلى تلك العلاقات التاريخية التي أعطت الانسانية حكمة عظيم الصين «كونفوشيوس» وأبخرة معابد «بوذا» أو بربرية «جنكيز خان».. أو ترقيص أفعي «الكوبرا».
إنك تدخل أي متحف في «تایبیه» مثلاً، ليعطيك صورة الإنسان في الصين، لا من واقع النظرية الغربية، ولكن من مسلسل الأحداث التي وقعت فعلاً والتي تطل عليك كشواهد حية في متحف الشمع، أو في المدينة السينمائية التي تصدر منها هيئة السينما هناك حركة تاريخ الصين.
صورة «كونفوشيوس» مع صورة جنكيز خان.. إلي بقية كل الودائع من حروب أباطرة اليابان، أو غزوات المغول، إلى جانب أعظم كيمائي ومبتكر في علم الزراعة وطبقات الأرض، وعلاج الإبر الشهيرة التي تجرب في عصر «الليزر»..
• * •
مهما يكن التاريخ (سادياً) أو مغرماً بكتابة تاريخ الأقوياء، وسقوط بقية العالم تحت نظرية القوة، فإنه بفعل الإنسان مادة قابلة للبحث عن الحقيقة، وتفريغ التاريخ من محتواه الخيالي.
فالإنسان هو صانع الأشياء، والمعد والمخرج لسيناريو الحياة، وهو المقياس بعيد المدى لحركة التاريخ الحضاري..
في الصين الوطنية الصورة إياها تدور على محور مختلف، أي أنها ليست رأسية في مرافئ أو مطارات العقوبات الإنسانية.. إنها جزء من تحقيق الأمل.. بمعنى أنه كلما كان هناك اعتراف بما تحققه الذات بمعزل عن التصورات التي تفوق الخيال، كلما كان الإنسان أكثر إنتاجا وواقعية مع طموحه..
• * •
على الطريق الأخضر الطويل، المعرج، السيارة الأمريكية، هي وخط الأسفلت اللون النشاز في المحيط الأخضر..
رذاذ المطر والمدارج الطبيعية، وانكسار الضوء في قمم الجبال الطويلة الخضراء، وصوت الأغنية الشعبية التي تناجي «قوس قزح» وشريط طويل على الخط الجانبي تسرح عليه أجساد القرويات وأطفالهن، يقضين دقائق متحلقات حول صيادي الأسماك في محاجر الوادي الكبير.. والنسمة الخفيفة، وذرات المطر تقع على وجوههن وكأنها «كشة» برد على جسد نافر المسام.. ورغم حماية المظلة الواقية، فإن المطر نوع من العذرية الدائمة، التي لم تفسدها صلافة المواسم الحادة في حوض (الأمازون).. أو رياح الخماسين في أفريقيا.
• * •
في قمة الجبل الكبير، أو جبل الشاي.. كانت القرية مزروعة بوداعة، وبدون أي مظاهر مزيفة للمدنية.
اللباس القبلي، والمصنوعات والمنسوجات التقليدية، واللوحات المجسمة والنافرة، أو الزيتية التي تحكي قصة القبيلة مع الأشباح، والحيوانات المكرسة وصلعة أنجد القابع في كوخ القش، ينتظر قطيع الغنم أو صياد متربص يراقب مع الفجر صعود الوعول إلى حيث الكمين البدائي..
كل شيء يحكي أسطورة وتاريخاً أو تقاليد قديمة.. والجبل الرائع كطائر «الرخ» يتجدد على مختلف مواسم السنة..
• * •
قالت، وهي تفز السمك المتعدد الأنواع في الحوض الزجاجي.. بعصاها وشبكتها الصغيرة..
- إننا نختلف مع كثير من السواح في التسميات، خاصة في الأسماك.. لذا أرجو أن تختاروا على الطبيعة ما يعجبكم.
رد المرافق الصيني - إنهم يتركون لك حرية الاختيار بتذوق أطعمتكم التقليدية، خاصة ما كان وقفاً على هذه القرية..
- إن هذا يحرجني، وأرجو أن تقبلوا ضيافتي بدون هذا الإحساس!!
• * •
صبية صغيرة داخل المطعم رسم على ظهرها قيثارة منكسرة داخل إناء من الزهور وبجوارها قطة سيامية ذات العينين المختلفتين، تداعبها.. وعلى الطرف نبع صغير ركب عليه صورة تنين يقطر من فمه الماء العذب.
• * •
على المائدة قالت أم الطفلة الصغيرة وهي تضع الإناء الصغير.. - هل لك أن تطعم دم السمكة مع ماء الزهور المعقم؟!
كانت المفاجأة التي أدارت حركتنا جميعاً إليها.. وبفم واحد نطقنا.. - دم السمكة
- نعم.. إنه شعار عندنا بالمعاهدة على السلام!!
- ولكن الدم شعار عدواني تعارفت عليه كل الحروب التاريخية؟!
- هذه مبالغات نقرؤها فقط في الكتب الوافدة إلينا من الغرب!۰
- ليس هذا مهماً.. المهم أن عقيدتنا الدينية تحرم الدم والميتة ولحم الخنزير..
ابتسمت بهدوء الصيني ذي الأبعاد الإنسانية العميقة - إنني أحترم أي معتقد، ولذلك أستميحكم عذراً إذا كنت أخطأت في التعرض لقداسة دينية تخصكم..
قلت.. - لم يكن هناك خطأ لأن كلانا تعلم شيئاً جديداً تفاهمنا في النهاية حوله..
ردت بانكسار، وكمن يتلافى إحراجاً، فركت جبهتها واستدارت إلينا بوجهها القروي الساذج.. - ما رأيكم إذن بشراب القبلة الأخيرة؟ إنه مزيج من زهور جبلية، نصطاد تفتحها عند هجرة الشمس إلى المغيب، لأنها لا تبتسم إلا لليل، ولا تدوم إلا الأسبوع الأول من الربيع!!
قلت.. - وما سر هذه التسمية اللطيفة؟!
وكمن يغيب في لحظة عشق صوفي، أو يسرح في عيون (ميدوزا).. قالت.. - إنها أسطورة تقول أن عناقاً تم بين فتى الشمس، وملكة الليل، وأنه على طرف النهر تعانقا بمشاهدة هذه الزهرة التي عاشت غيابهما في القبلة الأخيرة ليذوبا في تيار الماء وفي هذا الشلال الذي أمامكم.. لذلك كان حارس النهر هو الذي مزج هذا الماء بالزهر بخلاصة قرن الغزال، السامر الثالث لتلك الليلة الأخيرة..
- عفواً.. ولكن هذا الشراب يجب أن يعطي لحالة وداع طويل، لا لحظة لقاء؟!
قالت.. - إننا لا نقبل بتفسير يتعدى تقاليد قبيلتنا أو قريتنا، ولذلك، وإن كنا ندرك هذا التناقض، إلا أنه تقليد أصبح لا يقبل أكثر من هذا التقليد..
ضحكت، وكمن يداري واجبات الضيافة تحمست لإدارة النقاش على وجه آخر، وإن كان يتمحور حول نفس المعنى..
قلت.. - إنها رحلتي الثانية «لتايبيه» وأشعر أنني أكتشف كل يوم جديداً، ليس فقط في المطعم الصيني الشهير عالمياً، ولكن بعراقة التقاليد، وإن كان معظمها بالنسبة لي يبعث على الدهشة.
مثلاً في السوق الشعبي للمطعم الصيني، شاهدت أقفاص الثعابين جزءاً من وجبة معروضة، وبتكاليف باهظة.. الثعابين بحد ذاتها رعب في الحلم فما بالك في الواقع؟!
قالت.. - وما دمنا بالدم والثعابين، فإن هناك استعمالاً حقيقياً قائماً حتى الآن بين كل المواطنين في الصين..
دم انثى (الكوبرا) العذراء أحسن طب للعين ضد الصديد أو العدوى.. وكما كان ملوك الصين القدماء يتناولون سموم الأفاعي منذ الطفولة الأولى وحتى سن الرشد عملاً بالأخذ بالمناعة الكاملة ضد الأعداء الذين كانوا يقتلون خصومهم بالسم، فإننا ورثنا هذا العلاج الذي ربما يكون معجزة في الطب الحديث..
قلت.. - إن هذا مشابه لمقولة في قريتنا الصغيرة التي تقول إن من يتكحل بذنب الأفعى يزول حول عينيه!! لكن ما يحيرني هو كيف يكون حساء الثعبان لذيذاً، وأنا أتصوره يفترس الجرذان، والسحالي، أو بيض الثعابين الأخرى..
وباطمئنان أكثر، وهدوء عالجت أسئلتنا بأكثر تسامحاً ورقة.. - إنكم شرقيون تأكلون من كتف الشمس، وتسبحون على ضوء القمر، ولنا معكم صلات تاريخية..
لقد شاهدت السواح الغربيين يسألوننا عن استعمال الأعواد الصينية ولباسنا الجبلي، ورقصة قبيلتنا.. أما أن يثار معي أسئلة غائرة في عاداتنا فهذا ما يدل على أن الشرق – إن سمحت لي – هو الأكثر فضولاً في عشق الإثارة، وخلق التصور.. ولذلك فنحن الأكثر شعراً وأساطيراً!!
قلت.. - ليست هذا وحده المثير في بلدكم الرائع، إن الموسيقى والأغنية، والابتسامة المهنية هي الوحدة الطبيعية التي تجذب أي زائر أو سائح..
فالموسيقي أسمعها بأقل آلات الضجيج والإزعاج تعانق رقصة (التانجو، والتربا) وكأن الراقصين مروحة يابانية في يد بنات «الجيشا» تهف بها على طائري الحب..
ردت بتواضع.. - إنكم تجاملوننا، حتى أن شرقياً وصف (شاينا) الأخضر المر بأنه شهد العسل، أو شهد (الرضاب).
- باعتقادي أن الموضوع ليس مجاملة، أو تنازلاً لمداعبة عواطفكم.. القضية أنكم شعب غير غريب عنا، ولذلك حينما أقرأ قصة صينية، أو أسطورة أجد فيها «يوتوبيا» العالم القادم.. أي عالم الشرق السحري..
ضحكت بخجل.. غارت عيناها الضيقتان، كواديها السحيق، وكمن يحاول أن يوجز في معانيه على الطريقة الدبلوماسية فتحت فمها، وأغلقته.. ثم فلتت تشابك يديها.. - عفواً.. هل زرت صيدلياتنا الشعبية، أو ما تسمونه في بلدكم عطارة؟!
قلت.. - وهل في الأمر ما يثير؟ العطارة سوق عالمية تستورد عطارتها من الهند وباكستان وإيران، والصين.. أي أنها الحلف المتاخي في قارة آسيا.. ولقد كانت الشهرة التاريخية هي تجارة الشرق للغرب، أو ما سمى بتجارة التوابل.
- ليس هذا ما أريده.. العطارة عندنا بترخيص من وزارة الصحة الصينية.. أي لها مسئوليات الصيدليات الأخرى..
التداوي عندنا بالأعشاب والمستحضرات الطبيعية شيء متعارف عليه، وليست المسألة متعلقة بمعتقدات دينية أو أسطورية، إنها تجارب تفاعلت مع حياتنا..
قلت.. - هذا لا يهم، لأنني لا أهتم بالطبيعية الحية، ولذلك فالمستحضرات وعالم الطب لا أخضعه إلا لقاعدة الغذاء.. ومطعمكم فقط قابل للعطار الجيد..
وحتى تقتل هذا الجد والسأم، وتزيد لذة شراب القبلة الأخيرة.. أدارت بعفوية شريط حديث لأغنية ريفية..
• * •
في الصالة الكبيرة، أمام آلات التصوير الحديثة.. كانت رقصة القبيلة تتحدث ببهلوانية عن كيف كانت الحرب. وذبح العجول في الأعياد الخاصة، ومواسم الحصاد..
وعلى حركة الطبل، والمزمار تتشابك الأيدي، كانت الفتيات والشبان مفتولي العضلات يؤدون رقصة القبيلة أمام عشرات المتفرجين من يابانيين وأمريكان، وقلة صغيرة هم نحن من العرب..
• * •
عالم الشرق الأسطوري ليس هو هذا الشحن العجيب من الصور والمتناقضات، إنهم في الصين الوطنية إلى جانب ذلك كله، أدخلوا «الكمبيوتر» حتى في الفنادق «والبنوك» وصنعوا الباخرة والسيارة، وعائلة متعددة من العقول الآلية..
وإذا كنت لست بصدد الدعاية المباشرة لنشر قوائم في الإحصائيات الاقتصادية، عن الإنتاج والتجارة الخارجية وقوة الطاقة العاملة.. ونضال شعب شق طريقه من حالات المجاعة المخيفة إلى تصدير فائض الإنتاج الغذائي.. فإنني لا أجد في الصين ما يدعوني إلى نشر ذلك طالما أن سوقنا المحلية هي واحدة من المستودعات الضخمة لهذه المستوردات..
لكنني أريد أن أقول إن الغور في نفسية شعب دائم البسمة، دائم الأغنية واللحظة الشعورية بالسعادة، وحاضر جاد في ساعات العمل الطويل.. حتى أنك تشاهد مكفوفي البصر، يباشرونك بأصواتهم على الهواتف، أو محلات (المساج).. أي لا مجال للبطالة.
مرة أخرى أقول أن هذا يدخل في المجالات الدعائية المباشرة ولكن وطنهم يفرض عليك العودة لأنهم شعب بقدر ما يرى في تاريخه نافذة عظيمة على العالم، لم يجد عداوة بشرية مع أي شعب.. أي أنهم صدروا ثقافاتهم وتقاليدهم، بدون ظاهرة استعمارية غير أخلاقية..
• * •
وعلى الطريق الطويل من العاصمة إلى المطار، كان هناك حشد من العواطف والألم.. عواطف مع الشعب العامل المغني الضاحك الجاد.. وألم يسحق فيك كيف تفارق عشرة هذه الأيام القصيرة..
وكما هي السنين الضوئية لا تقاس بحساب أرضي، كانت أغنية «هي.. هي.. هها..» تشدو وقوس قزح يظل على مفترق الجبل.. وداعاً «تايبيه» وداعاً لحظة لا تنام، ومستيقظة مع مدار الأيام..
التاريخ/ 9– 1 – 1400هـ
0 تعليق