السادسة مساء في سيئول
لم تضع الحدود السياسية أو العسكرية على عاصمة كوريا الجنوبية (سیئول) تلك المسحة التي ترتسم على أي عاصمة تنتظر الحرب، والقلاقل..
المدينة صاخبة وضخمة، وعالية النظافة.. العمارة ليس بها ما يعيدك إلى تاريخ ذلك الإقليم من بناء تقليدي مطور.. التحديث، وعلى النمط الغربي، أو الأمريكي هو السائد. وإلا ما ندر في بعض المعابد، أو القصور القديمة للأسرة المالكة التي كافحت الاستعمار الياباني.
أمريكا تشاهدها على السطح في حراسة الفنادق، وفي الجيش، وحين مرور قائد القوات الأمريكية بالشوارع العامة نشاهد موكباً محاطاً بالدراجات النارية وسيارات الحراسة الخاصة.. أي كأي موكب تشاهده لضيف في وطنك..
قلت للمستر (كيم)، وهو الذي عمل فترة جيدة في المملكة، والذي يجيد بعض الألفاظ العربية..
- إن تواجد أمريكا بهذا الشكل المباشر، يعطى لأي قادم لبلدكم بأنكم مستعمرة مسلوبة الإرادة.. بل يقلل من قدرة شعبكم على حماية نفسه؟
وبعينية الصغيرتين النافذتين، ومن خلال هموم تاريخ وطنه، أطلت ابتسامته الطيبة.. قال: - ليس الأمر كما تتصور.. اليابان عاشت على أرضنا قروناً طويلة، وحاولت أن تجعل منا هنوداً حمر حتى في وطننا، ولكن العائلة المالكة، وقطاعات الشعب الكبيرة كافحت هذا الاستعمار فترة طويلة، وكما شاهدت أن تلك العائلة تخلت عن قصورها لتضعها متحفاً شعبياً يحكي جزءاً من تاريخ بلدنا.. وكما تعلم، أنه بعد تقسيم كوريا إلى شمال وجنوب، وبنظامين مختلفين، وبعد الحرب الشهيرة، وقفت أمريكا إلى جانبنا.. وأقولها صريحة، أننا بالقدر الذي نحاول فيه تنمية بلدنا وتحديثه وخلق صورة مغايرة لنظام القطاع الشمالي، خاصة في خلق صناعات متطورة، فإنهم في الشمال يركزون على الناحية العسكرية أولاً، ولقد استفادوا من تجارب الصين وفيتنام في جعل الحرب القادمة حرب عصابات طويلة، وهو الشيء الذي يقلقنا لأننا لن نستطيع أن نصرف كل قدراتنا ونصب كل مواردنا في الصناعات العسكرية، والاستعدادات الحربية، وبالتالي فإن أمريكا وفرت علينا جزءاً كبيراً من مواردنا، لنستفيد من نفس التجربة التي مرت بها اليابان حين صنعت ذاتها وصارت قوة اقتصادية كبرى..
قلت.. - هذا أمر مقبول في مثل حالتكم، إلا أن الجانب الآخر لأمريكا هو الذي لم يظهر ولكنه يتضح من خلال ما يسمى بالاستعمار الاقتصادي.. أنا أتفق معك أن نفقات الجيش ضخمة وتستنزف أكبر العوائد، لكن أمريكا بطريق آخر هي التي تتوسع على حساب اقتصادكم القومي؟
رد.. - ندرك هذا جيداً، وكما تعلم أنه واحد من العاملين بإحدى الشركات الكبرى هنا، وأعرف مقدماً النتائج التي حصلنا عليها..
فنحن نبني من جديد سواء المدرسة أو أجهزة (الكمبيوتر) وهذا البناء يتطلب المصالحة مع الزمن والظروف، ولهذا نحن لا نستعمل النتائج المباشرة وليست لنا عواطفكم الفوارة بمحاولة قراءة الحاضر من العموميات الظاهرة، وأننا ندرك مدى خطورة أمريكا على حاضرنا ومستقبلنا، ولكنها الأيسر والأخف من عدونا في الشمال وأنا أقول إن العبرة بالنتائج، ولا تطالبني بأكثر من ذلك.
المدينة الكبيرة الصاخبة تنفع كل صباح بعدة ملايين ينتشرون بين شوارعها الكبيرة وأزقتها.. عالم يبنى فعلاً، وبأقصى درجات الوعي مستفيداً من حركة الزمن، ليست هناك عواطف فبقدر ما تعمل تحصل على عيشك..
النظافة أحد الأركان الكبرى في صيانة العاصمة.. وإذا كانت البيئة قد تساعد على خلق هذه النظافة إلى جانب المناخ، إلا أن نظام المدينة الصارم، واستجابة الشعب لهذا النظام ساعد على خلق تلك الصورة الرائعة
الشوارع العامة لا تشاهد فيها الكثافة السكانية التي تراها في أغلب العواصم الكبرى، لأن معظم الأسواق التجارية تحت الأرض، وبأدق نظام تشاهده.. ليس هذا وحده الباعث على الغرابة.. المدينة حديثة ومنسقة لكن مثل ما نشاهد تعدد البقالات في أي شارع من شوارع مدن المملكة، تشاهد هناك العكس..
هناك نبات يشبه إلى حد كبير الفجل الأبيض هو واحد من مصادر كوريا الجنوبية التجارية.. وهذا النبات هو (جنزن) وعلى كثرة انتشاره كنت أعتقد أنه يتصل بخرافة معينة، أو معتقد بدائي.. هذا النبات يدخل في معظم وجبات الطعام، والشراب، ولعل الأغراض التي تراها تستعمل فيه تجعلك مجبراً أن تبحث عن الأصل لهذا النبات الغريب..
الصينيون هم أول من اكتشف (الجنزن) قبل آلاف السنين في أحد الجبال، وهناك بداية تعاطيه كباعث مهم للنشاط، ومن الصين انتقل إلى كوريا ليستزرع وليصدر لجميع أنحاء العالم بما فيها المملكة..
صورة هذا النبات تبعث على الغرابة، فالجذر يشبه تماماً جسم إنسان بيدين وقدمين، أو كحورية البحر أحياناً.. ولقد اهتم بهذا النبات أكثر دول العالم خاصة اليابان وأمريكا، واستطاعوا أن يزرعوه لكنه ليس بالقدرة على المحاصيل الوافرة في كوريا، ولا بنفس الجودة..
الأبحاث العالمية، وبالأخص في كوريا تقول.. أنه عند تغذية (الدجاج) في هذا النبات يزداد وزنه وتقل نسبة الوفيات، وأن الدجاج البياض فإنه يعطي انتاجاً جيداً حتى في موسم الشتاء أو الصيف التي تقل فيه نسبة الإنتاج عن الحالة العادية..
وبالنسبة للإنسان فإنه يساعد على إزالة الإجهاد، ومقاومة أمراض التسمم خاصة ما يحدث منها نتيجة المواد الكيماوية، أو الإشعاعات المختلفة..
وقد استخلص البحاثون أنه يحتوي على مجموعة من الفيتامينات، ويعالج بعض حالات ضغط الدم أو الإجهاد النفسي..
أشياء كثيرة تقال عن (الجنزن) وبدءاً من تناوله كالشاي إلى صابون الجسم والشعر مروراً بأكثر الاستعمالات الغربية..
إنك تراه شعاراً للقوة، وأن تعاطيه واحد من الأسباب التي تجعل الفرد يضاعف نشاطه.. ومهما يكن نصيب الصحة من هذا كله إلا أنهم يربطون نتائجه بمختلف النشاطات الحيوية، على أنهم، ومن خلال الفترة الطويلة لاستعماله، لم تحصل أي نتائج سلبية قد تسبب في حظره..
• • •
وكما هو الشرق الأصفر عجيب، وغريب فإن مرجح كل الغرائب والعجائب إلى تلك الشعوب العظيمة..
فهي تغرف من منهل حضاري عظيم، ولذلك لم تكن الشعارات السلبية التي تطرح كل يوم في وطننا العربي هي الشاغل الأكبر لهم..
فالصراع ليس مع الشعارات، ولكن مع جدلية الحياة بكاملها.. أي أن المحور الذي تدور عليه الأفكار والاجتهادات هو السؤال الثابت «من نحن»؟!
ومن خلال هذا السؤال تطرح الكوادر للعمل الجاد، ومن خلال معطيات البيئة والانسان..
ذلك (المليونير) اللطيف والهادئ.. كان يقول:
«انتظرونا بعد خمس سنوات من الآن.. إننا لا نقول هذا حتى نسبق القوى الصناعية الكبرى ولكننا سنجد مكاناً في زحمة الأسواق العالمية.. وهذا الكلام ليس فيه أي مغالاة، فقد زرنا هذا الموظف الكبير التاجر في مكتبه.. وكم كانت دهشتنا كبيرة حين شاهدناه يلبس بدلة العمال (الأفرهول) ويتقاسم مع مهندسين آخرين مكتباً صغيراً ومتواضعاً، وداخل غرفة عادية جدا، على عكس ما تشاهده عند أصغر موظف مسئول عندنا مكاتب فخمة وستائر، وتليفونات وخدم.. إلخ..
إن مثل هذا الإنسان لم يبايع الشهرة في المظاهر العادية لأنه يعرف أن الصرف على هذه المظاهر نوع من العجز والمفاخرة الكاذبة.. لقد استقبلنا بابتسامته الهادئة ليشرح لنا واحداً من المشاريع الضخمة التي تساهم شركته في تنفيذه.. وكم كان صادقاً ذلك الزميل الذي قال من هنا يبدأ العمل الجاد!!
ورغم الصراع مع الحضارة، فإن الماضي واحد من الأعمدة التي يتكئ عليها تطور الحاضر..
التاريخ لا يكفي أن يكون ضمن مناهج المدرسة والجامعة، إنه يجب أن يكون معايشة، وبأقل مظاهر التزييف أو التزييف..
لقد اقتطع أحد المواطنين هناك جزءاً من غابة ضخمة ليبني عليها تاريخ كوريا قبل أربعمائة عام، وعلى الطبيعة..
المكان شبه قرية صغيرة تشاهد فيها إنسان تلك الفترة كيف كان يبني بيته، وسائل العمارة، طرق المعاش، الصناعات التي زاولها، اللباس الوطني، وجبات الطعام وطرق إعدادها، قصة الانسان مع التطور، والألم.. إلخ..
إنها تكفي أي سائح قراءة مجلدات كبيرة في تاريخ ذلك البلد، وهم لا يخجلون من ماضيهم أنه قطعة ثابتة في الأرض وفي النفس.. إنهم بتواضع يقولون تناول طعامنا، اجلس على نفس الأريكة التي كان أجدادنا يحكون عليها أسطورة هذا الوطن، شاهد الأم والأبناء والجدة الكبيرة كيف تسامر الليل على الشموع، وانظر إلى الفلاح كيف يجاهد جواميسه وأشجار الفاكهة والأرز وباقي المحاصيل.
ولم نستغرب حين قالت إحدى العاملات في مقهى الفندق أن شراب البرتقال الذي طلبتموه غال جداً.. إلا حين جاءت (الفاتورة) بما يعادل (58) ريالاً لكأسين فقط من شراب البرتقال الطازج..
كانت تبتسم عند المحاسب، وهي تقول إن هذا جزء من حماية الانتاج الوطني..
فنحن نستورد البرتقال من حوض البحر الأبيض المتوسط أو بعض البلدان القريبة منا، ولهذا فهي فاكهة المترفين، أو الزوار فقط..
• • •
الشوارع السفلية تمتد كخنادق المحاربين.. والإضاءة وترتيب المعارض، ولوحات الإرشاد كلها تعطيك تلك الصورة لعالم قادم يريد أن يجد مكانه..
كل شيء يسير بنظام دقيق، والأجساد الكثيرة تتزاحم داخل هذه الأنفاق الفسيحة..
فجأة، وكانت الساعة تشير إلى السادسة مساء، توقفت الطوابير والمشاة والباعة، وبصمت الموتى الكل لا يتحرك.. لا يتكلم..
الزملاء وأنا أخذتنا الحيرة.. هل من نبأ هجوم مباغت من كوريا الشمالية.. أم وقع زلزال؟ كيف اتفقت كل هذه الجموع على وقفة واحدة؟
الأطفال يحملون مع أمهاتهم بعض الأغراض، والكبار بسلالهم أو ما يحملون وقوفاً على نفس الهيئة والصورة. وخلال تلك الدقيقة الواحدة خلنا كل شيء.. ودقيقة بحجم ذلك الموقف تشعرك بكسل الوقت أو موته على الحدث.
لا أبواق سيارات، لا شفاه تتكلم.. هل هي وقفة حداد على شيء ما؟؟ وكان الجواب ضاحكاً من صاحبة المخزن القريب.. - هل هذه أول مرة تزورون فيها سيئول؟؟
قال أحدنا.. - إنها المرة الثانية ولكنني لم أصادف هذا الموقف برحلتي الأولى ابتسمت وهي تغطي تعابيرها بتلك المسحة الإنسانية التي تشاهدها على معظم وجوه تلك الشعوب.
- قالت إنها دقيقة رفع العلم.. فكل مساء، وبجميع مدن وقرى إقليمنا يقفون هذه الدقيقة احتراماً لرفع العلم، وهو تقليد اعتدناه مع كل مساء كل يوم.
وطيلة ذلك الأسبوع في سيئول كنا نقف لنشاهد هذه الدقيقة الغريبة العجيبة، ليس لأنها شيء غريب، ولكن لأن تلك الشعوب تحترم النظام، وبالتالي فهي تحترم حتى لحظات المساء..
رجل بحجم زمنه..
نقرأ في صحافتنا أحياناً خبر زواج بنت فلان على فلان وبمبلغ رمزي، وأن المدينة الفلانية سنت قاعدة على أن يكون الزواج بمبلغ عادي.. إلخ..
وإذا كان هناك من نباتات اجتماعية رائعة وسط جشع الغالبية الكبرى، ولا أستثني منهم حتى بعض الفئات الواعية، والتي تخضع لمجموعة مبررات سطحية وغير إيجابية..
ولعل الوضع بشكل عام لن يقاوم بنظام فرضي، بل بقناعة واعية تضع الطرفين المتزوجين على درجة من الوعي بالمستقبل والمصير القادم، إلى جانب أن يختار الأب قيمة العلاقة بين بنته وزوجها..
ثم إن طرح الموضوع بشكل دعائي وتقريري ليس إلا نكتة صغيرة، لأننا لم نجد تلك المدينة المثالية التي أتمت نظام الزواج بأقل التكاليف وسط مظاهر عادية، وتلك الأنماط المثالية تسبق وعى تلك الفئات الأخرى، ولذلك بحكم الكم الاجتماعي هي رموز لأصالة رائعة..
ونحن بتلك الأخبار نضحك على أنفسنا بأعلى الأصوات لأن البنت – وإن كان الخيار لها تعسفياً – فإنها بتلك الصيغة من الزيجات المبالغ فيها تدخل سوق الرق الحديث، وهو الجانب الذي سعت إحدى المؤلفات بالغرب أن ترفض حتى زينة المرأة لأنها لم تعد لعبة الرجل التي يرغب وضعها في إناء شهواته..
ومهما تكن تلك الآراء المتطرفة التي قد لا تزعجنا، فإنها بصورة أخرى أشد توتراً عند الفتاة الواعية.. وبنفس التعاكس أيضاً الصيحة الأخيرة التي صورت الفتاة الأمريكية بأنها بزهدها بمظهرها تسعى إلى أن (تسترجل) لأنها تمارس ذات الأدوات الخشنة التي يستعملها الرجل..
ليس هذا إلا استعراض استثنائي لأن الأزمة اختيارية من قبل فئات المجتمع، أي أن مسبباتها أقل من عادية، ولكنها مقلقة وتهدد سقوط جيل كامل تحت قسوة ظروف تلك المبالغات في التكاليف..
ومثل ما قلت إن تلك النوعيات المثالية قليلة، وإن لم تعد نادرة، فإنها تشكل نسمة هادئة وسط عواصف رملية حارة..
زميل تعدي سن الشباب بمراحل، أو على أبواب التقاعد هو من نفس العينة.. أتم الزواج بشكل مثالي وعاقل..
فهو لم يقبل أن (تسور) واجهة أحد فنادق الدرجة الأولى بإطارات الأنوار الملونة، وتنحر من أجلها الخراف، وتطبع (الكروت) المزخرفة مدوناً بالهجاء السخيف (وبحضوركم يتم سرورنا) ومن ثم تفتح كل الجيوب والمحافظ لتشتري فساتين هذه المناسبة التي صممت على أحدث (الموديلات) وربما تزين المعاصم والرقاب بأحدث الموضات العظيمة خاصة التي لم تشتهر بين الحاضرات..
هذا الزميل الشيخ – والذي يرفض بتاتاً إشاعة اسمه لأنه يرى في ذلك (رياء) ودعاية جوفاء بغية كسب اجتماعي – جهز ابنته من جيبه الخاص لزوجها دون أدنى المظاهر، ولم يسفك دم حتى دجاجة.
وعلى الرغم من المعاناة التي قابلها به أكثر المتزمتين أو الشامتين، فإنه سر للذين شدوا على يده مباركين، وهو وسط هؤلاء وأولئك لم يتحيز لأي قرار وحتى الذي كان مضاداً، لأنه بقرارة نفسه لم يحقق أمنية عزيزة فقط بل اختار هذا الخط لأنه الأكثر تلاؤماً مع الطبيعة البشرية العاقلة..
وإذا كنا جميعاً نرى فيه صورة الأب الصالح، وهو القادر على طبع زواج ابنته بأكثر مظاهر المباهاة، فإننا نكسب أباً في صف الواعين الرائعين.. ونقول إن من بين أفراد مجتمعنا أكثر واقعية وحتى من بين الشيوخ. فتحية إكبار لذلك الزميل الذي أكتب هذه الكلمات بدون إرادة أو علم منه..
التاريخ / 30 – 1 – 1400هـ
0 تعليق