الموقف الاجتماعي للفنان

آفاق | 0 تعليقات

كل ما يهم الفنان هو أن يعيش داخل همومه، وآلام الآخرين.. أي أنه حالة من التوتر والانقباض يستحدث رموزه وأشخاصه من محيط المأساة التي تتواتر على أرض واقعه..
وكما أن كلمة (فنان) تستطيل وتتسع وتتعمق بالقدرة التي يعطيها هذا الاسم من نشاط إنساني، فإن (الفن) أيضاً لم يتمحور بتعريف محدد رغم اجتهادات كل فلاسفة الفن أو شراحه.. فعالم (الجماليات) يتطور وفق منظور حركة الإنسان في الوجود وتأثيره، أي أن عالمه هو ما فوق الرؤية الظاهرة، وإن كانت الأدوات التي يستعملها مواد جامدة إلا في حركة الكون الأكبر..
فالشاعر يظاهر الوجود، أو يبنيه بعالم سحر الكلمة.. وإذا كانت هي أداته الكبرى، فإن التواصل بينه وبين شعوره، أو لا شعوره هي هذه الكثافة التي يقع تأثيرها على المتلقي..
والشاعر فنان لأنه (يرسم بالكلمات) يحاط بالفرح والمأساة، وتحت أي ظروف يختار من تجاويف نفسه عالمه الباطني، لكن الرعشة والألم نداء خفي وهما اللذان يحددان الموقف والرؤية التي يبصر بها الشاعر ذاته في العالم الخارجي والباطني.. فهو يكتشف من خلال الحلم تلك البؤرة التي تروعه، وتسوقه إلى التواصل أو الانقطاع مع العالم، لذلك فهو بدون أرضية تحددها جغرافية ما، أو تمذهب خاص، فهو بالتعريف السياسي غير ملتزم لأنه غير خاضع للإشارات أو التعريفات التي تريد إدخاله في المعادلات الرياضية المحجمة وتصنيفه مع الوجود المسير، في القطاعات التي تنتمي لأرضية لزجة..
مثله في ذلك القاص، والمسرحي، فهما ينتميان للكلمة ولكنهما من خلال معيار سيكولوجية الإنسان أو الحدث الاجتماعي التاريخي واعطاؤه سمة الوجود الحاضر.
فالرؤية تشع حتى في الجانب المظلم من نفسية المجتمع، ولذلك فهما الأكثر تأثيراً على السطح الظاهر.. وإن كانت الرموز والبيئة التي يختارها أي منهما حاضرة في المسار التاريخي، أو الحدث اليومي.. وهنا كانت المساحة التي يطلان منها أكثر تطويقاً وترسيخاً لاستمرار الحدث واغنائه بالحركة والديمومة ليكون تأثيره بنفس المساحة الطويلة.
لكن شيئاً خارج هذا الامتياز الظاهر يواجه أزمة الخصوصية في الفن.
فالمرور من خلال التأثير الاجتماعي الوسيع مطلب يومي، ويعطي للقاص والشاعر والكاتب المسرحي هذا الانتظام في الدائرة العريضة، لأنه الأكثر واقعية مع كل الفئات المتلقية، والأكثر شعبية، لأن كلا منهم يخاطب بنفس الأداة (الكلمة) وتبقى المثل العليا في العمل المطلوب تحقيقه.
ظاهرة أن اللغة تستحدث رموزها، وتنمو من الفعل الإنساني، حقيقة لا جدال فيها.. فهي على النطاق العلمي لا تحتمل هذه الحواشي، أو الصور لأنها الأكثر دقة في التعريف، والأكثر جفافاً على الأذن والذاكرة.. لكنها عند الكاتب راقصة وعميقة لأنها تخاطب الوجود العاطفي والنفسي عند الإنسان، لذلك يكون أي منهما
الأقل في السيطرة على المعنى (الفني) لأن الكلمة، مهما كان حضورها ايجابياً، ورائعاً، فإنها أداة مستهلكة إلا في هذا التوتر التي تخلق فيه الحالة العصابية أو المرضية عند الكاتب.
وعلى نفس المساحة الموسيقى، فهي في سلم الأولويات تأتي في المرتبة الثانية من حيث الموضوعية عند السامع لأنها ترافق نفس الفرح والعذاب، وإن كانت ترقى بحسها الفني أكثر مما هي عند الكاتب أو الشاعر..
فالقصر على الأذن وحدها من الحواس هي التي تحدث هذا التأثير السحري لأنها لا تقبل أي موجة أخرى من الأصوات، وإلا أفسدت الدور الفعلي لهذا الانسجام المحمول بكل الشروط المهذبة..
ودور الموسيقى في الشيوع نفس ما يؤثره الشاعر والكاتب ولكنه الأسرع في الدخول إلى حضانة السر الأعظم عند الانسان.
فالطول، أو القصر في النغمة هو محاولة خلق الانسجام بين الأدوات الموسيقية المستعملة.. فأنت تطرب مثلاً لأي نغمة حتى ولو كانت خارج المحيط الاجتماعي الذي تفهم لغته وتاريخه، لأنها الصوت الذي يبتر أو يعطل اللغة الظاهرة إلى لغة ما فوق الواقع، ولأنها تخاطب الحس الأعلى لديك، وهذا هو أقصى اختصار للمسافة الزمنية عند السامع..
لكن الموسيقار يتعامل مع السامع بذات التكرار لأن فنه يتوالد من الموروث الموسيقى، ويكتسب ابداعاته من ترجمة هذا الإحساس النفاث بالحركة الذاتية التي يكثف مناخاتها وفق هذا الإرث الكبير.. حتى أنه الأكثر استعداداً واستفادة من التقنية الحديثة سواء في التوزيع الموسيقي، أو استحداث آلة عصرية إلى جانب الاستهلاك اليومي الأكبر إنتاج..
يطرأ سؤال حاد، ما هو السر في آن خلود (الموسيقار) هو الأقل منه عند الكاتب والشاعر؟ الذي يبدو أن العطاء الموسيقي هو خصوصية فنية نادرة.
وأعني بذلك الأعمال العظمى (لبتهوفن، وباخ، وفاجنر، وتشايكوفسكي) وغيرهم ممن لهم قدرة على التجدد في المسار التاريخي.. فهؤلاء بالحساب الرقمي أقل من مجموع الكتاب المشهورين، ولعل السبب كما قلت خصوصية هذا الفن والمبدعون فيه يواجهون حساسية الأذن العالمية بأعلى تجلياتها، وهذا ما يعطي لهذا الفن نوعية التفرد، فهو تجسيد لحركة متنوعة ذات أبعاد صوتية غاية في الدقة والتماسك، وهذا ما يجعل الموسيقى هي أحد الوجوه العميقة في مرحلة التصوف الإنسانية..
وإذا كان الفنان بمعظم نتاجاته المقروءة أو المسموعة أو المشاهدة، يطرح البعد الروحي للإنسان بكل توتراته، فإن الرسام يبقى أعلى الفنانين من حيث الخلق والإبداع، وأقلهم تورطاً في تكرار استعمال أداته، ذلك أن الحركة عنده لون وضوء، وخط، ومن هذه المضامين يشكل عالمه من تفجرات نفسية مأومة ومتفردة، فهو الأصدق تجربة من الفنانين الآخرين في تكثيف الموقف وإعطائه معنى ممدوداً قابل لعشرات التعريفات والتصورات ولذلك فهو غير خاضع في معمله إلى تبذير لأوعية إلا فيما يحاصره من عالم صارخ مضيء أو معتم.. ومن هنا تجده في كل خط أو لون يحاكي (اللامباشر) في الرؤية وغير قابل للتجزيء..
(بيكاسو) مثلاً قالوا عنه أنه (حطم حدود المألوف) ليصل بفنه إلى إحداث الزلزلة الكبرى في الرسم الحديث مثله في ذلك مثل (جوجان، أو فان غوخ) والأخير هو صاحب الإرادة العظمى في الخلق الفني.. لكن سؤالاً يطرأ من جديد.. ما هو الأثر المباشر الذي يعطيه الرسام لحياة الناس العاديين؟
ومن هنا التوتر والمشكلة، فالرسام رغم أن محيطه البؤس الاجتماعي، أو الكوارث والحروب، فإنه يبقى بمعزل عن عالمه الذي أبدعه، أي أنه بالقدر الذي يلتصق بهذه الفواجع ويصبها في لوحاته أو تماثيله، فإنه يبقى لطبقة صغيرة ومحدودة، وهنا يكون تأثيره في الكم الاجتماعي أقل من بقية الفنانين الآخرين، وإن كان العصر الحديث وسع آفاقه إلى العمارة، (والديكور) والأثاث ليمارس فنه مباشرة مع الاستعمالات اليومية إلا أنه يبقى أسير تلك الطبقة الخاصة التي تتميز بذوق خاص أيضاً، مع أنه الأكثر اصالة في التحديث والتطور..
فاللوحة معمار فني ضخم يغني عن عشرات القطع الموسيقية، أو القصائد الشعرية، ومن هنا كان عالمه هو اختصار الشعر والموسيقى من خلف اللون والضوء، أي تحطيم تلك العلاقة الجبرية التي يحاول صفها الشاعر أو الموسيقى في الحدود الصغيرة من المعاناة الروحية، ليجعلها (الرسام) الأكثر اتساعاً وغوراً في التناغم بين الرؤية وعالم ما فوق الواقع..
وإذا كان الفنان – أي كان نشاطه وابداعه – فإن لم يخرج من عالم المجهول، أو السحر، بل هو خارج من مسام جلد المجتمع وروحه، ولذلك فإن المحاولات التي تطارده بالنبذ من تصنيفه من طبقة اجتماعية بائسة ومناضلة، هو تعد على حقيقة الوجود بكامله.
فالإنسان ابن هذا المصير المربوط بالبقاء والعدم، أو الولادة والموت وإبعاد نشاطه في هذه الحال تعسف خطير، وابتزاز لمعنى الوعي الاجتماعي لإعطائه مضموناً أيدلوجياً يحارب حرية هذا النشاط، ويغلقه على الفرضية القسرية لهذا المنحنى العقائدي..
تبقى كلمة أخيرة، أن الفنان جنس معاد لقتل الحرية أو نموها، وكثيراً ما يلجأ للأسطورة، أو الحلم لينفلت من أسر الكبت أو الضغوط الخاصة، ومن هنا كان الأسبق للتنبؤ بما سيكون أو يحدث، لأنه لا يمارس الغربة الكلية عن مواطنه أو أرضه، وإنما غربته أنه ضد المسار الخاطئ الذي لم يكتشفه الآخرون إلى بالاصطدام المباشر على ذات الأرض التي يقيم عليها.
وإذا كان هذا الموضوع ليس جديداً، فإن جدته تبقى في ظل تمرد الواقع على ما قبله، وهنا كانت جدلية الفنان مع كل الأبعاد الزمنية ليكون ظاهرة دائمة البقاء، والإشعاع..


الكلمة ماتت!


الزميل (محمد رضا نصر الله) يحارب على جبهة الصحافة والتلفزيون، في محاولة إيجاد شيء يربط الثقافة بالمجتمع.. وهذا الحضور المباشر يحتاج إلى جسارة خاصة، والالتزام بالقضية الثقافية نعانيه منذ زمن بعيد، لأن التواصل بين المثقف ومواطنه لازال محطم الجسور إلا في حدود ضيقة ومبتسرة.
ما يعنيني أن البرنامج الذي يقدمه التلفزيون للزميل (نصر الله) هو محاولة مد الجسور إلى المثقف العربي عموماً من أرض الواقع الثقافي، وكتدليل على ذلك أن أهم المواجهات الثقافية هي (أدب الطفل) الذي كان للمثقف العربي في سوريا الاهتمام الأكبر في هذا النشاط.
وإذا كان العربي مستهدفاً حتى في محاولة تشويه ثقافته وجعله نمط غير إنساني – كما تحاول إسرائيل – حتى في مؤلفات الأطفال، لتحيطه بذلك الوحش الذي يريد أن يسرق القمر من السماء كما سبق أن نشرت مجلة (الأقلام العراقية) ضمن عدد الأدب الصهيوني، فإننا في حالة مواجهة أخطر.. ولذلك كان الزميل موفقاً حين راوح في تنقله بين بغداد ودمشق، وعن دور المثقف العربي في إعادة توجهه للأجيال القادمة.
الذي يهمني أن الاهتمام الذي أخذه مسلسل (الدمعة الحمراء) بكل سيئاته ولا واقعيته، كان أكبر من الاهتمام بهذا البرنامج خاصة من الصحف والمجلات المحلية.. وهذا يطرح أزمة المواطن مع الثقافة. يقال أننا أكبر سوق لمجلة (النهضة) الكويتية، «والوطن الرياضي».. فهل يعني هذا أننا نعشق هذا الترف تطوعاً، ونمارس الغياب العقلي كجزء من حالة مرضية مستشرية، أم أن المجلتين تتوجهان لقطاع اجتماعي مراهق، وهو الأخطر برأيي، لأن هذا يعني أنها تخاطب جيلاً نحن أحق الناس بتوجيهه إلى الحياة الجادة الصحيحة..
وإذا كنا لسنا ضد اي ثقافه، ولو كانت رياضيه، فإن الأمر يخرج عن حدود الدنيا للاستشعار بالمسؤولية حتى بين صحافتنا المحلية التي لم تشر إلى هذا البرنامج إلا في برامج الإذاعة والتلفزيون فقط.. أم أن الموضوع أعد وأخرج بأيد وطنية حقيقيه، ولذلك لا يستحق حتى الاشارة العادية إليه.
أخيراً أقول لكل من الزميل النصر الله، والصديق المخرج الرائع (سعد الفريح) أن الكلمة ستدق سنين ضوئية، فابحثوا عن زمن يضيع فيه الماضي والحاضر والمستقبل وحطموا ساعات معاصمكم، فإن الكلمة تنتحر.


لأمانة الرياض.. مع التحية..


حول مطار الرياض يدور بعض النقاش والرأي.. ومعروف أن أرضه مساحة ضخمة قيل إنها ستباع بمزاد علني، وتوظيف ريعها في تحسين المدينة الكبيرة.
وإذا كانت الغاية مثلي، والفكرة جيدة، فإن هذه الأرض هي قيمة طبيعية إذا ما أردنا استغلالها.
ولو قلنا – على سبيل الافتراض فقط – أن المبلغ سيكون كبيراً وصرفه على حدائق عامة، وملاعب أطفال وتحسين بعض الميادين والشوارع، فإن القيمة الفعلية للأرض وبموقعها الحالي لن يتيسر للبلدية بنفس المواصفات..
فالرياض الآن تتعرض للتلوث بفعل المنجزات الحضارية المستعملة سواء من عوادم السيارات، أو المصانع، أوما تدفعه أجهزة التكييف، إلى جانب الحالة الطبيعية التي تتعرض لها هذه العاصمة من غبار وحرارة، أو برودة كل هذا يجعلنا نطرح فكرة قابلة للنقاش.
فالحدائق التي توسطت المدينة اغتالتها العمارات.. والمساحات أو الفراغات التي تجزيء المدينة مملوكة للقطاع الخاص، وبالتالي لو أردنا نزع ملكيتها من المالكين لاحتجنا لنفس المبلغ الذي ستباع به أرض المطار..
من هنا نقول أن الحاجة لإعادة النظر في جعل أرض المطار حديقة شعبية، وملاعب أطفال، وكذلك ملاعب رياضية، ومتاحف، ومدارس كاملة الإنشاء، إلى جانب مجمع لإدارات الحكومة التي تخدم هذه العاصمة أحوج من توزيعه شوارع ومعارض وعمارات أو أسواق تجارية.
وإذا ما أخذنا توزيع المدينة، ونموها العمراني، لوجدنا أن المطار هو الأقرب إلى أن يكون قلب المدينة بكل حدودها، ثم إن حجة المياه وشحها نستطيع توفيرها من المجاري بعد تنقيتها لجعل هذه الأرض رئة ومتنزهاً خاصاً لمدينة يزحف عليها التلوث والاختناق من الجهات الأربع.
وشيء آخر أن الرياض لا تتمتع بأي مظهر خاص يعطي لمعالمها هذا الوجود المنفرد بين العواصم العالمية، أي أن يكون لها مظهر نابع من التراث والتقاليد التي تعاقبت على هذه العاصمة الكبيرة، وهو الشيء الذي حتى الآن لم ندركه بكل أبعاده..
(فالمبخرة) التي على مدخل الرياض من جهة المطار ليست تراثاً تاريخياً، وإنما هي جزء من تراث مستورد، لكن الحصان والنخلة، والصقر والجمل، وبيت (الشعر) وشرفات مباني الطين وبساطة هندستها، هي الإرث التاريخي الحقيقي لهذا الوطن.
من هنا نقول أن إقامة هذه المعالم قابلة للإحياء وممكن أن تدخل حتى في الهندسة المعمارية الحديثة.. ولو استطعنا أن نجعل متحفاً، أو مجمعاً لإدارات الحكومة في هذه الأرض بهندسة نابعة من تراثنا الاجتماعي لأصبح جزءاً من إعمار تاريخنا الطويل والشاق.
إن الدعوة بالاهتمام بهذا الموقع قابلة للمناقشة والطرح لاسيما وأن الغاية التي ننشدها جميعاً سامية، وهي رغبة في وضع شيء ما يحفظ لنا معالم تقاليدنا وتاريخنا.

التاريخ / 14 – 2 – 1400هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *