يعاند ساعات النوم في مكتبه منذ أكثر من أربع سنوات.. ولأن الفائض من العشرين سنة التي قضاها بين وظائف مختلفة في الإدارة، فإنه أراد أن يبقي نفوذه الوظيفي على نفسه فقط، على الرغم من المرتبة الكبيرة نسبياً، واللوحة المعلقة على باب غرفته التي تنطق باسمه مكتوباً بخط النسخ وإدارته التي يعمل بها!!
ولأن (الضمير الساكن) كما يحب أن يعبر عن مواقفه، هو أقرب الطرق إلى الابتعاد عن مصادمات غرف الاجتماعات، أو مخازن التناقضات التي يتبارز فيها الأقوياء والضعفاء، لتخرج من نوافذها جيوش من أصحاب التواقيع التابعة، أو شراذم المنافقين، فقد نسى تلك العادة التي يدون بها على (التقويم) المكتبي مواعيد اجتماعاته، وساعات العمل التي يقابل بها المراجعين.
ومع أن سقوط حافز العمل دفعه إلى أن يهمل تماماً مسألة الترقية والعلاوة التشجيعية، لأنه بقرارة نفسه يعرف أنه لا يقدم شيئاً لهذه الوظيفة، وإن كان التقاعد هو الحل الأسلم، رغم ما يشعر به من نشاط وقوة، جعلت إحدى المؤسسات الخاصة تحاول أن تكسبه مشرفاً على قطاع من أعمالها، لكنه لا يستطيع لأمور يفهمها تماماً، ولا يقدر على مجاراتها!!
في يوم ما، سقط ذلك الحلف المشترك مع الصمت والنوم ومتابعة سلسلة الهزائم الذاتية، يغالب صراع هذا الموقف السلبي الذي اختير له..
قرر أن يفتح ملف الواقع بدون خسارة معنوية تضعه في قسم مسودات الصادر العام.. ولأن الباعث معركة طويلة شاهدها من خارج المسرح الكبير لذلك أراد هذه المرة أن يدخل الحلبة بحوار مفتوح قد يقرر مصيره نهائياً، ويضع حداً لهذه الإهانات الطويلة في مجمع المتقاعدين غير الرسميين!!
بين ملفاته القديمة قرأ في المحضر الابتدائي.. (أن التجديد في العمل لن يتم في تراكم الأعداد العشرية للموظفين، ولكن للنوعية التي تكتسب مهارتها من خلال الممارسة والاستفادة من التجارب.. وأن الحقائق الكبيرة لا تقلل من أهمية زيادة التدريب، وخلق الحوافز، وتطويع الأساليب الحديثة، وجعل مرتكزات حسن السلوك، والأداء والتطوير بالتدريب عناصر تقطع سلاسل الروتين البطيء ولكن لا يغير هذا من مزج التجربة بالتأهيل الحديث لإخراج أجيال على كفاية وثبات، وترابط في الوعي المستقبلي للإدارة..)!!
يغلق الملف.. يتذكر أنه واحد من الذين جادلوا على النقاط المتعددة، وأن تلك الدوريات من الاجتماعات كانت ببساطة تلتقي مع مرحلتها وظروفها وإمكاناتها.
(السبت هو موعد الاجتماع القادم، وقد وجد من الضرورة مشاركتك للأهمية)!!
يطوى المذكرة.. يتساءل هل تذكروا أن هناك موظفاً يستطيع أن يرتبط بمواعيد جديدة وتسعفه الذاكرة إلى استعادة محفوظاته من الأنظمة الإدارية ليكن فالموضوع إعادة لتجربة سابقة، هكذا قال وهو يدخل القاعة الكبيرة.
• الرئيس …
(إنني حين أعلن لكم أن الرغبة في تغيير المراكز وتوزيع الصلاحيات جاء مطابقاً للتحديث والنهوض بهذه المؤسسة الهامة، وأنها قضية فرضها صراع الأجيال (!!!) لأنه لا يمكن أن نواجه التطور الا بتغيير كل الطواقم التي أصبحت لا تساير الحياة العصرية لمفهوم الإدارة واستشراف المستقبل بروح أكثر حيوية وتجدد..)
يقاطعه الأول..
- (وهل جئنا لنسمع القرار فقط، وهو ما يمكن أن يوفره الوقت بتعميمه بحيثياته، طالما أنه ليس من رغبة في إبداء الرأي والأسباب)؟!!
يرد المسئول الكبير … - (إننا في جلسة عمل، ولا يحق لك أن تقاطع هذا الموضوع بدون أن نصل إلى النهاية)!!
يرد بانفعال حاد.. - (ولكن النتيجة مقررة مسبقاً في السطور الأولى من القرار، وهذا لا يغير شيئاً من أي اعتراض، وإذا كان من رغبة في الحديث أو إسماع أي رأي، ولو لم يؤخذ به فإن ما اصطلحت عليه بقضية صراع الأجيال لا ينطبق على هذا التوجه المحصور بحدود ضيقة، وإلا لقلنا أن كل المسنين من أساتذة الجامعات، والأطباء وأصحاب الخبرات، يجب أن تقطع الصلة بهم عملياً وتاريخياً، وذلك في اعتقادي إن لم يكن قلب للحقائق فإنه افتراض اعتباطي لمفهوم فلسفي وضع ليكون مفهوماً للحضارة الإنسانية كلها ويتجاوز مفهوم التغيير الحصري لقوائم موظفين في مؤسسة أعدادها لم تتجاوز الآلاف فقط)!
(المتقاعد بدون قرار) تتحرك شفتاه عن ابتسامة ساخرة.. وبصوته الخافت يطلب الإذن بالحديث، ولو على هامش الموقف المحتد…!
الرئيس مقاطعاً.. - (ولكن ما نقول به من أسلوب التغيير ينطبق على هذه الجلسة تماماً.. إن ما يشعرني بالأسف أن الاستجابة لمتغيرات الحاضر أقفلت عنها عقولكم، وتلك ليست ذنباً أبدياً يلحق ماضيكم، ولكنه لا يعفى أن حاضركم غير قابل لتجاوز المراحل، وقطع المسافة بوقت سريع وقياسي)!!
مرة أخرى يتحدث (المتقاعد بدون قرار) بهمس، وإن كانت الابتسامة لم تفارقه.. قال: - (إن ما تعنيه في هذه المترادفات من الألفاظ يقرأها أي صاحب اهتمام متوسط بهذه الأمور!! ولكن دعني أسألك إن كان ما تعنيه بهذا الصراع وجوداً حتمياً، فإنني أجد أنه من بين الحضور من زاملك بالدراسة في مقاعد الجامعة، وبذلك لا يلتغي فارق السن!! وإذا كان ما تعنيه ينحصر في مبدأ التحصيل العلمي، فإنني لا أنفي أن المؤهل ضرورة هامة، ولكنه قد لا يقترن على كل حال بنجاح التجربة.. وأعني أن ما تطلقه من قول ليس فرضية مطلقة بفشل جيل من الموظفين بكل إرثهم، ولكن أقول إنها مجازفة غير منطقية بإحلال جيل ناشئ، وفصله عن كل ما يتعلق بتقاليد إدارية معترف بها، ثم إنه لم يسبق أن تقدمت أنت بشكوى تقرر الأسباب المنطقية التي جعلت هؤلاء جيشاً من العجزة غير القابلين للتطور، مع أنه في أبسط النواحي لمفهوم الإدارة أن التجديد يأتي من الداخل، وإلا ماذا نقول بمحضر حرر قبل عشر سنوات نطق بعدة سطور منها أن (خلق الحوافز وتطويع الأساليب الحديثة والأداء والتطوير بالتدريب عناصر تقطع سلاسل الروتين) وهي أحد مفردات هذا الملف الذي يمكنك الاطلاع عليه ليكون جزءاً من حصيلة تجربة قد تفيد في الحاضر والمستقبل!!
ثم هبني أقول لك شيئاً آخر أنني من خلال هذه الجلسة أطلب إحالتي للتقاعد رسمياً، ولا يعني هذا تجاوز حدود الواجب ولكنها رغبة اقترنت بأسباب لا أعتقد أنكم لا تدركونها، ولا يعني أيضاً أنني أتنازل تلقائياً عن حمل مسئولياتي، ولكن طالما أن هناك إرادة بقبول التطوير، فإنني لا أملك الاعتراض، بل أقدر هذه المرحلة إذا استطاعت أن تتجاوز مصاعبها وهو ما أتمناه، ولا أريد أن يفهم من ذلك أنني أسجل موقفاً سلبياً أو رفضياً لتلك القرارات ولكنني أعكس – كما قلت – رغبة شخصية فقط، مع أنني أريد أن أنبه إلى موقف معروف في مؤسسات متقدمة أنه لتستطيع الحفاظ على موظفيها، فإنها قد نسقت مع جهات عديدة أنه بمجرد أن يخرج هذا الموظف لغاية الانتقال بدون دوافع منطقية تسقط عنه كل المكتسبات التي وفرتها له مؤسسته الأولى، وبذلك انتهت حالة المساومات والسوق السوداء في انتقال موظف من جهة لأخرى!!
الجلسة الصاخبة تمتد لأكثر من ثلاث ساعات، وقبل أن يكون القرار في طور التنفيذ يقف أخر معلقاً - (إن ما أفهمه من الآراء المتداولة أننا نصفق بيد واحدة، ولكن هذا لا ينزع الفتيل.. ولكننا وإذا كنا سنكسب زملاء جدداً تحققت فيهم الغاية المطروحة ومن رؤية إيجابية، فإنني أرى أن يدون هذا المحضر بكل التحفظات والآراء حتى نستطيع تسجيل موقف يبرر انعقاد هذه الجلسة مهما كانت الخلافات).
الرئيس: - (إنني أقدر هذا الموقف ولكن لا يعني أن ما طرح في هذه الجلسة سيغير شيئاً، ولا نريده أن يلغي الجهود التي أعطاها الكثيرون لهذه المؤسسة، ولكن طالما أن بعض الآراء مبالغ في مخاوفها، فإننا لا نجد هذه المخاوف تعيش معنا، ودعونا نجرب، فالحبل ممدود إلى الزمان كله.. وأعني به المستقبل، وبنفس الوقت).
يقاطعه آخر: - (بنفس الوقت فإنه بعد سنوات قادمة سيكون لك موقفنا نفسه، وعندها ستقفل محضر صراع الأجيال لتقول إنه فوضى الأجيال)!!
في عصر النخاسة!!
ربما أن الشعر العربي يمر في أزمة.. أو هي هزة طارئة، ولكنها لا تخرج عن محيط الوجود العربي الراهن.. ولا أدري إذا كان العصر نفسه ممثلاً بالسياسة، ومجموع الهزائم النفسية المتلاحقة، طبعت هذا الشعر بخلافة رديئة لبداياته، وأعني بالدرجة الأولى ما اصطلح عليه بالشعر بالمعاصر.
لننسى مسألة البداية، والأرحام التي ولدت هذا الشعر لكن ظهوره كان استجابة ضرورية عصرية تلاحقت معه أجيال من الكتاب والنقاد، وربط ذلك بتلك الرحلة الملتهبة.. أو العفوية على الوجه الأصح..
وبدلاً من أن يكون الحاضر أكثر رسوخاً وعقلانية، وأشمل أفقاً في إثراء الموجودات الفنية، أصبح يأخذ مسار الغياب العقلي والغربة الفنية حتى على أساتذة الأمس القريب الذين يجهلون فهم ما يقرأون الآن تماماً!!
لقد تكون الشعر الحديث وسط حماس أجيال كانت تقرأ وتتابع وننفعل، وكان الخيط الرابط لتلك التفاعلات هو صدق الإحساس ورشاقة اللغة التي لم تنطو على انحرافات مخيفة، أو تضيع في متاهات خارج زمن تكوينها.
وإذا ما أردنا أن نحاكم الحاضر من وجهة نظر متواضعة فإن النظرة إلى الواقع العربي هو الذي حول القصيدة إلى أزمة، لأن أصالة المثقف وجرأته وترابطه مع المتغيرات السريعة، أوقفته على محطة الانبهار، أو التخلي.. وتلك هي حقيقة عدم وجود ارتباط عضوي بين حركة التجديد التي زاملت واقع الفكر العربي في الماضي القريب، وانفصام الحاضر عنه أو هروبه إلى غيبيات السريالية الهمجية، وهذا لا يعني أنه لا يوجد من يحمل إشارات التواصل والتجديد، ولكن بغير الحس الصادق.. ويستدعينا هذا السبب إلى سؤال ما إذا كانت الجذور الثقافية أصبحت تستجدي الماضي البعيد هروباً من دواعي الانتماء أو الإفلاس في اقتحام الحاضر.؟!
ولأنه لا يوجد، أيضاً، حياد عند الفنان الصادق حين يصل بتعبيره إلى أدق قضايا أمنه، فإن الحاضر يعيش موقف استشهاد الشعر، لأننا بدلاً من أن نجد شاعر الديوان الكامل، صرنا نبحث عن شاعر القصيدة الواحدة الجيدة، ونخشى أن نصل إلى مرحلة البحث عن شاعر البيت الواحد!!
مرة اخرى هل المشكلة تتعلق بانحسار ثقافي عربي يتعلق بظروف غير قابلة للتداول؟! إن ما يبدو من أزمة القصيدة العربية الحديثة هو أن المرحلة الجديدة في حالة تيبس، ونرجو أن لا تنهار الجدران السميكة بفعل منهج الأحلام السريالية، مع التحفظ تماماً من أن الشعر لا يموت، ولكنه قد يتواضع ويتدنى بفعل أزمة الجبل الذي لا يدرك مسئوليته التاريخية، وتلك هي حقيقة الحاضر.
التاريخ/ 8 – 1 – 1402هـ
0 تعليق