عالم محاط بالمخاوف!

حروف وأفكار | 0 تعليقات

القلق الحضاري، الإنسان والكون، أزمة الحرية، الذات والعالم، تلك كانت بعض العناوين التي سيطرت على الفكر الإنساني بعد الحرب العالمية الثانية، وهي نتائج ظروف تفجرت، وحاول فيها الفلاسفة الغربيون إعادة الطمأنينة للبشرية بعد أن أصبحت الأحداث السياسية هي المسيطر والمتحكم في مصير الإنسان، وأسير معارك تختارها هي دون أن يكون له دور في رفضها أو قبولها..
ومع أن هذا الفكر دخل معركة الصراع الأيدلوجي، بحثاً عن خلاص من أزمة القلق، وفي سبيل خلق ظروف أفضل للتعايش الإنساني، إلا أن القوى المسيطرة والتي خلفها جيوش من العلماء، أو رجال الاقتصاد، والاجتماع كانت تمارس طقوسها الخاصة بالسيطرة على الطبيعة والإنسان معاً، دون أي اعتبار أخلاقي، وهو ما سمي بمنطق الواقع المجرد، والصراع على المصالح الحيوية، لتبرز قوي لها حكم الاحتكار الشامل على الإنسان والطبيعة معاً..
دواعي ما سمي بالقلق، والغربة، وحالات الانفصام في المصطلحات الفلسفية والنفسية، كانت نتاج تعقيدات ما بعد الحرب، حتى أن الفناء النووي طرح كشرط للروادع السيكولوجية أكثر منه للحماقات العسكرية ولكننا أمام وجه آخر لا يشابه تلك المرحلة، أصبح الإنسان أسير مخاوف أكثر قلقاً وتعقيداً..
فالحرب النفسية دخلت الغذاء والدواء والطقس، أي أن الشعور بأن الإنسان أسير المختبرات والحصار الكيماوي، ونفوذ السيطرة الاقتصادية، جعلتنا لا نستطيع أخذ احتياطاتنا من البيض البريطاني الذي أعلنت وزيرة الصحة أنه مسموم، ولا كيف يتظاهر الألمان لإيقاف شحنات الدواجن واللحوم الملوثة بالإشعاعات النووية، حتى لا تصل لمصر، ولا حرب الجبن، واللحوم بين السوق الأوروبية المشتركة وأمريكا، أو مقابر النفايات النووية والكيماوية التي تحاول الدول الصناعية تصديرها إلى العالم الثالث..
القلق الراهن لم بعد ترفاً ذهنياً أو فلسفياً، بل مواجهة بين انتهازية، وأخلاقية، ولا معيار يضبط حدود تلك الأخلاق، حتى أن الشعور بالموت الجماعي من كوارث التلوث، أو الخلل بطبقات (الأوزون) والإيدز، لا تعالج بأنماط أخلاقية، وقد لا يتوفر لها نسبة من الجدية التي تساهم في إنتاج وسائل الدمار وتصديره..
فالتشكيلات العسكرية، وفائض ترسانة السلاح، واستنزاف الموارد الطبيعية وتهديد الحياة الفطرية، ليست إلا تأكيداً على دورة جديدة في الفناء الشامل، ومثل هذا التصور لا تقول به أدبيات العالم الثالث التي اختارته القوى الكبرى حقلاً للتجارب وإنما جاء كإنذار تجتمع حوله تلك الشعوب (النخبوية) في الخروج من مأزق تدمير هذا الكوكب والذي تساوت فيه حالات الضرر بين الأغنياء والفقراء والأغبياء والعباقرة، وهو الأمر الذي أشعر بعض الإنسانيين بحجم الكارثة ومخاطرها إن لم يكن زوال الحياة من الوجود..
عالم اليوم الذي يسجل كل لحظة انتصاراً جديداً في المجالات العلمية والتقنية، يكتشف بنفس اللحظة رعباً جديداً في وسائل الدمار البطيء وكيف أن المحيطات، والأرض ونباتاتها، أصبحت تتعرض لأكبر تخريب بشرى وأن الغذاء وهو الآن جزء من حرب اقتصادية خطيرة صار يصدر بشكل سموم، وأن بيئات بحرية وأرضية قد زحفت عليها عوامل الفناء البطيء، وأن منظمات الصحة العالمية وأنصار البيئة وعلماء الطبيعة بكل ما يملكون من دلالات وحقائق علمية صاروا مجرد مبشرين في عالم كافر بنعمة هذا الوجود..
القضية ليست خلافاً بين دولتين تتحاربان في أمريكا الجنوبية من أجل نتيجة مباراة في كرة القدم، أو أن تتحرك جيوش أحد الحلفين الدوليين في السيطرة على ممرات مائية، أو دولة أعلنت العصيان على نظامها، بل المشكلة أننا لا ندري كيف نكافح ما نعتقد أننا نتعايش معه سلمياً كالأدوية المستوردة والأطعمة، أو تقلبات الطقس، واحتمالات وجود أمراض ليست في القاموس الطبي المتعارف عليه..
القلق المعاصر مواجهة بين الإنسان وذاته، إذ أن القبور الجماعية لم تعد لسكان المناطق الفقيرة، الذين تفتك بهم المجاعات والأوبئة وإنما داخل تلك المواقع التي صارت غير محصنة من الحرب البيئية والكيميائية والتي لا نشك أنها صورة متشائمة لعالم يتساقط على الخطر من كل مكان..

• • •

الترف.. ظاهرة.. أم حالة طارئة؟؟

قال..
«لقد عملت في بلدكم أكثر من عشرين عاماً، وأنا الآن أتقاعد نهائياً عن أي نشاط بحكم ظروف السن وما يشبه العجز عن ممارسه أي عمل، ولكن تجربة هذه السنوات دفعتني أمام أكثر من حقيقة، أو اسمح لي أن أسميها أكثر من ملاحظة على ظروفكم الاجتماعية والاقتصادية من خلال نظرة محايدة وأمينة..
أتذكر أن الرياض كانت مدينة صغيرة، وأن البائع في الأسواق الشعبية، وحتى بعض المعارض الكبيرة، كان للمواطن السعودي الرقم الأساسي فيها وكانت الورش على بساطتها، نجد فيها أبناء القرية والبادية السعودية يتقاسمون مشاق العمل، وحتى المباني، وقبل دخول العمالة العربية وتحديداً من اليمن ومصر، كانت تشيد بأيد وطنية..
صحيح أن المدرسين والأطباء، وبعض الفنيين كان غالبيتهم من المتعاقدين العرب أو الأجانب، ولكن كان هناك طبقة تنمو في ظل هؤلاء من مواطنيكم تحاول أن تكسب المهارة وشغل هذه الوظائف، وصحيح أيضاً أن الظروف نفسها لم تكن بتعقيدات الأوضاع الراهنة بالتوسع العمراني، وكثافة سكان المدن والمنشآت الضخمة في التصنيع والزراعة وغيرهما، ولكن السبب الأهم انعدام الجدية في أجيالكم الراهنة والرفاة الاجتماعي الذي وصل إلى أن يفكر أي طالب في مراحل التعليم المتوسط أن يكون صاحب كرسي وسلطة، ومكتب، وهو الاتفاق شبه الموقع بين هذا الطالب وأهله وعشيرته»!
قلت معقباً:

  • «تلك مسائل نتحدث عنها كثيراً وقد تكون الأسباب الرئيسية بأن ما سمي بالطفرة والتي جاءت لتغير كل شيء، وتسبب ما عرفناه بمخانق الطرق والموانئ، والإسكان والمواصلات، جعلتنا في وضع لا يسمح لنا بالتفكير بشكل متأن ومعالجة أوضاعنا بما يقبل التصرف الهادئ، ولكن قياساً لكل ما حدث فإن الإنجازات كبيرة، والزمن الذي قطعنا فيه مشوارنا يعتبر نادر الحدوث في ظروف تشابه واقعنا..
    قال..
  • «كل المبررات التي قلتها أو ستقولها مقبولة، وبحكم معاصرتي لتلك السنوات، أستطيع أضيف أن معركتكم مع التحديث تحتاج إلى كوادر وقوى عاملة أكبر مما توفر لديكم في ذلك الوقت، ولهذا كانت الضرورة بجلب الشركات والعمالة الأجنبية، أمراً لا مفر منه، ولكن بعد أن هدأت تلك الظروف كيف تستطيع أن تعلل استمرار الترف الذي يصطنعه الكثير من شبابكم..
    خذ مثلاً الإقبال على الدراسات النظرية، الإصرار للحصول على وظيفة مكتبية، استثمار الرأسمال الخاص في الصناعة والزراعة ولكن بموارد وعمالة أجنبية، تراكم السلع الفائضة عن الحاجة في أسواقكم ومنازلكم، مشاهدة العمالة الأجنبية في الدكاكين والصيدليات والمستشفيات وسائقي سيارات الأجرة وحتى رعاة أغنامكم..
    ليس هذا فقط هناك تجارب كبيرة لديكم، لا أجد لها مراكز بحوث أو معلومات، ولا تقويم يجعلها قادرة على التطور بشكل يضمن استمرارها، حتى القطاع الخاص والبنوك لديكم لا تمارس التنمية الحقيقية، اللهم إلا بما تكون الدولة طرفاً فيه كالصناعات الكبرى، أو الشركات ذات الرساميل العالية، وهذا يعيد التساؤل مرة اخرى عن الخطة الشاملة لمختلف قطاعاتكم وفيما إذا كان التعليم يسير وفق منهج دقيق لتطلعاتكم ومستقبلكم، وأن الرأسمال الخاص له الروح الحيوية في استنباط المشاريع المثمرة بدلا من المضاربات بالعملات والأسهم وتوظيف الأموال خارج مناخها الوطني»..
    قلت..
  • «… وأستطيع أن أضيف إلى أقوالك وآرائك الشيء الكثير إذ أن التجهيزات الأساسية التي شملت الطرق والمياه والهاتف والكهرباء والمشاريع التي استكملت عملها، وبدأت تأخذ دورتها تحتاج أيضاً للصيانة والتجديد والتطوير أو التوسع وهي في هذا لا يمكن أن تعتمد على المقاول الخارجي، أو العامل الأجنبي، وأنه لابد من أخذ كافة الوسائل لملء هذه الفراغات بالقوي المنظمة الوطنية»..
    عقب قائلاً…
  • «نحن نتفق على أن الخيار تربوي بالدرجة الأولى وأنه إذا كان صاحب متجر خضار صغير يكسب أكثر من مدير إدارة، أو أن محل سباكة متواضعاً يوازي دخل مكتب مهندس أو عيادة طبيب، هو أمر يعرضكم لتجربة شبيهة بأوضاعنا حين تحول فائض خريجي الجامعات والمدارس إلى الوظائف الحكومية لدينا وصارت مأزق إعادة هيكلة التعليم أحد المطالب العسيرة التحقيق لاسيما وأن التضيق في المعاهد الفنية على حساب الكليات النظرية دفعنا إلى استحالة توفير الوظيفة لكل متخرج، في الوقت الذي نشكو فيه عجزاً هائلاً في الفنيين والمدربين في حقلي الصناعة والزراعة والبحث العلمي»..
    قلت..
  • «والحلول»؟
    وكمن يخشى الدخول في مغامرة مجهولة النتائج.. قال..
  • «التقنية هي سباق العصر، وأنتم يتوفر لديكم المال والظروف، ولذلك لابد من وجود الحافز، بمعنى أن تطويع التعليم لمصلحة مشاريعكم، هو الأساس، وهذا يحتاج إلى تدريب الذات وتطويعها بأن القناعة بالوظيفة الإدارية ليست الأساس في نشوء أي تقدم، وأن المستقبل الذي تنبني عليه خطة أي دولة متقدمة هو النظر إلى حجم التقنيين الذي يحتلون مراكزهم في الدورة الصناعية والتنموية، وأنتم بإمكانكم تحقيق ذلك دون أي إضرار بخططكم الاقتصادية والتربوية»..
    قلت..
  • «ما أشرت إليه عن الترف الزائد، لا يتطابق وحقائق الكثير من شبابنا، إذ أن الأعداد التي تتقدم للمعاهد الفنية، ومراكز التدريب تفوق الأعداد المقررة وهذا ينفي المبالغة في وصف تلك الظاهرة»..
    ابتسم.. وكعادته في ترتيب أفكاره وكلماته بشكل هادئ..
    رد..
  • «… نعم هذا صحيح وإيجابي.. ولكن قبل أن تقنعني بمثل هذا الإقبال، أسألك أين يذهب جيش الخريجين من تلك المعاهد والمراكز، وهل تابعت هيئة، أو لجنة تلك القوى، وعرفت مواقعها في المصانع، أو الورش، أم أنها استظلت بالوظيفة الإدارية ونامت عليها …»؟
    قلت منهياً الحوار..
  • «يبدو أن العملية محكومة بدواعي الحاجة، وهو ما يجعلني على يقين بأن فروض تلك الدواعي، هي التي ستجعل العمل وحده وسيلة النجاح، وأن ما تراه من ظاهرة الترف ليست إلا حالة طارئة، وهي في حكم الزوال مهما كانت الظروف والأسباب»..
    قال مودعاً..
  • «أرجو أن أشاطرك هذا التفاؤل حين تكون النتائج بحجم التوقعات»!

التاريخ/ الثلاثاء 28 شعبان 1409م – 4 أبريل 1989م

مقالات مشابههة

الكرت الذهبي!!

الكرت الذهبي!!

لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...

التفسير المضاد!!

التفسير المضاد!!

لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك،...

رأي في موضوعين

رأي في موضوعين

في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *