مثلما يتحدث الناس عن مخاطر (الإيدز) والعوامل المؤثرة على حياة الإنسان وبيئته سلوكياً وغذائياً، يتحدثون عن ثورة العلم الحديث، وكيف أن البث بواسطة الأقمار الصناعية سوف يشكل الرأي العام ويؤثر فيه، ويضع الأسرة الدولية على مشارف عصر تناهت فيه الأبعاد، وربما القيم الاجتماعية والسياسية..
وإذا كانت الأحلاف العسكرية، بعد الحرب العالمية الثانية، قد وضعت حداً لقيام حرب ثالثة، فإن التكتلات الاقتصادية الحديثة قد تحدث واقعاً أكثر خطورة على الوحدات الاقتصادية الضعيفة، إن لم نقل إن حرباً جديدة بدأت بأسلحتها الاحتكارية، التي قد تلغي ثنائي القوة بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا، إلى تعددية الوحدات الجبارة التي تهيمن على قوة الاقتصاد العالمي..
وبطرق أكثر براعة، هناك من يدعو إلى وحدة اقتصادية بين القوى المالية في العالم، ومماثلة لنمط الشركات متعددة الجنسية باعتبارها السياق الطبيعي للتقدم الإنساني، وابتعادها عن أي سلطة زمنية أو كونية على هذا الكوكب، بحيث تصبح أيدولوجية المصالح التي يرعاها رجال المال والنفوذ الاقتصادي العالمي، هي القوة المتفردة سياسياً واقتصادياً..
مثل هذه الاحتمالات لا يمكن إلغاؤها، أو الحد منها، إذا ما تأكد أنها تطور في سباق المستقبل، ولعلنا أمام حقبة قادمة لا نعرف كيف ستتم إدارة الصراع ولا ماهية الإنسان وسط تفاعلات قد تقلب كل الاستنتاجات والوقائع التي قام بها دارسو العلوم الإنسانية، وبشكل خاص الذين يرصدون حركة المجتمعات ويعطونها مسوغات التطور، أو الأزمات المتلاحقة في العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية.
الوطن العربي، والذي اهتز بالفعل السياسي أكثر من التطوع في حل تناقضاته الغذائية والصحية، هو جزء من تركيبة عالمية سادت أوضاع العالم الثالث، ولكننا إزاء اختفاء الأيدولوجيات الرئيسية التي هيمنت على الصراع العالمي بقطاعيها الماركسي، والرأسمالي، والممكن التزاوج بينهما في مطالع القرن القادم، ما يجعلنا الأكثر ضرورة في مراجعة منطلقاتنا وأهدافنا إن لم يعد هناك من يتصور أن في الإمكان تدوير الظروف وتصور حتميات يقودها العالم الثالث في التغيير المباشر على الخرائط السياسية العالمية..
ولو قلنا مثلاً، وبتعبير يشبه المباشرة، أيهما أهم وأكثر تأثيراً، اجتماعات (الأوبك) أم مؤتمرات عدم الانحياز، ونفس التساؤل فيما لو انعقد حلف وارسو، أو السوق الأوروبية المشتركة بالتأثير على سياق الأحداث المعاصرة؟
إزاء التبدل التقني السريع، والتأثير المباشر للقوى الاقتصادية العالمية، وسقوط مفهوم التنازع بالقوة المسلحة كيف نستطيع أن نرى الوطن العربي في حلقة هذا التطور السريع؟
بقيام ثلاث اتحادات، أو تشكيلات في مشرق ومغرب الوطن العربي، نعتقد أن الفارق بين تفكيرنا في الماضي، والحاضر، لا يقومان على طرح علمي، وإن كانت الغايات سليمة وملبية لطموحات المواطن العربي..
فالتصور بقيام مجالس تعاون، أو وحدات عربية لا تنمو من خلال المؤسسات التحتية والفوقية معاً، يجعلها صورة مكررة لتلك الاتحادات والوحدات التي نشأت في الستينات، ولو حصرنا اتجاهاتنا بالمواقع التي تتحرك داخلها مؤسساتنا الاقتصادية، والثقافية، والأمنية، لوجدنا أن جميع وزارات المال والتجارة، وما يتبعهما من قطاع خاص، أو حكومي، لا ينظر إلى تكامل عربي اقتصادي يوفر الضمانات الكافية لخلق وحدة اقتصادية، إلا بعين الشك والريبة..
وعلى نفس الوتيرة نجد أن رجل الثقافة والسياسة تتقاطع بينهما الطرق، إن لم تقل أن رجل السياسة يتعامل مع المؤسسة الثقافية وكأنها شكل (فلكلوري) لا يصلح إلا للمناسبات والترف الذاتي، هذا إذا لم تحدث صراعات وخلافات تؤدي إلى نفي تام لأحدهما لحساب الأخر..
على الصعيد الأمني تأخذ الاعتبارات الإقليمية حدها الأعلى.. إذ لم يعد هناك من تصور لأمن عربي يقوم على أسس واقعية، ودراسة المخاطر التي تحيط بكل بلد، ويكفي أن وضع لبنان وحدة التفسير العملي لغياب هذا الأمن، أو تحققه على المستوى الاستراتيجي العربي …
تلك نماذج بسيطة وعامة عن الواقع الراهن، ومع أننا على إيمان بأن ما تحققه تعاونيات عربية كبرى تحتاج إلى إزالة العديد من التراكمات والضغوط التي رسبت في القاع العربي، إلا أن المهلة الزمنية قد لا تعطينا الفرصة لتحقيق نتائج سريعة مع العالم الذي يعيش مرحلة التكتلات الكبرى، إلا بسعي يؤكد تفاعل المواطن مع رجل السلطة ونفى أو زوال الاتحاد بينهما، وهذا يعني أن الصورة المشرقة التي نسعى لها، لا يمكن رؤيتها من مختلف الأبعاد، إلا برسم منهج عربي يعطي فرصة تامة لجعل مختلف المؤسسات الطريق لامتلاك السلطة، وهو ما نعنيه على الأقل، بالهامش الديموقراطي الذي قد يضعنا على أول العتبات لتضامن عربي شامل…
وماذا عن البحوث والدراسات؟!
الذين يتحدثون عن عصر المعلومات والدراسات ينظرون إلى افتقادنا كثيراً من هذه المؤسسات حتى أن ما تقوم بها بعض الوزارات، والجامعات، لا يغطي احتياجنا من رصد شامل بطبيعة المتغيرات التي تحدث في قنواتنا الاجتماعية والتربوية وغيرها..
فالجامعات، وهي مراكز الاستقطاب لهذا النشاط، ظلت تمتلك الكفاءات، ولكنها لا تديرها كطاقات نشطة وفاعلة بحيث نجد أستاذ الجامعة والطالب يكملان مشروعاً دراسياً عن التبدلات التي طرأت على حياتنا وسلوكنا، ويقدمان نتائج ينبني عليها القرار السياسي أو الاقتصادي..
وإذا ما استثنينا دار الملك عبد العزيز، فإن مراكز التموين لبناء مراكز المعلومات وجعلها في متناول أي دارس، غائبة تماماً عن أعضاء الغرف التجارية وقطاعاتنا الخاصة، على الرغم من وجود اتجاه عالمي تقوده تلك المؤسسات لصالح نموها التقني والبشري، وهو أمر لا يمكن تعليله إلا بقصور عام لقطاعاتنا الخاصة..
فالجامعات تملك الكفاءات المتعددة الاختصاصات، وهناك أكثر من مصدر آخر قادر على التعاون على إرساء قواعد بحثية، وهي أمور لم تعد تمارس كترف حين نعرف أن أي مشروع لابد أن يقوم على تأكيد جدواه من واقع النتائج التي يحصل عليها إحصائياً وتحليلها، وهو أسلوب غائب عن مؤسساتنا إن لم نقل عن مصانعنا ومنشآتنا الاقتصادية الكبرى.
إزاء هذا الواقع، هل يمكننا تطوير كفاءتنا الإدارية، على نمط يتوازى مع أهمية ما نسعى للحصول عليه في المستقبل وهل بإمكان القطاعين الحكومي والخاص تطوير منهج للتعاون في بناء قواعد للمعلومات وإرساء سياسة للبحوث في كل مجالاتنا الحكومية، والأهلية وتغذية المراكز القائمة بما يؤهلها للقيام بدورها الشامل؟
المسألة لا تجوز فيها النصائح، أو الاستهانة في عملية تقوم عليها مختلف نشاطاتنا، إذ أن تشتت هذه المراكز وتعددها، على تواضعها دون تنسيق بينها، يجعل ضياع الوقت والكفاءة معاً أسلوباً غير عملي، وندرك تماماً أنه إذا كانت تطلعاتنا لاكتساب المعرفة، وتطوير مراكزنا العلمية جزءاً من خطة التنمية التي تقودها الحكومة والقطاعات الأخرى، فإن الأهم أن نصل هذه القنوات ببعضها، وأن نجعل الدراسات والبحوث جزءاً من البنية الأساسية في تحقيق أهدافنا الاقتصادية والاجتماعية وتطويرها بما يحقق لنا القدرة على تجاوز حلقات الفراغ التي نعيشها داخل تلك المؤسسات..
الآنسة دعاية:
قال بما يشبه صيغة الاستنكار أو الشكوى…
- «هل تعجبك الإعلانات التليفزيونية، وزمن توقيتها»؟
قلت… - «أسلوب دعائي لسلعة تجارية، وبنفس الوقت جزء من ترفيه اجتماعي»؟
رد بحدة.. - «.. وهل توافق أن يصادف إعلان عن مجموعة أوساخ تدخل الغسالة، أو عن ذباب تطارده المبيدات، وأنت على سفرة العشاء، أو السحور»؟
قلت.. - «أظن أن التوقيت مسألة تخضع لساعات البث، والبرامج الموضوعة على لائحة الفترة، وقضية الدعاية لمنظف، أو مطهر يأتي توقيتها مع العشاء، هي مسألة مصادفة لا أكثر، لأننا لم نضبط ساعاتنا جميعاً على توقيت واحد في تناول وجباتنا اليومية بحيث يمكن تغيير توقيت هذه الإعلانات أو تأجيلها»..
قال.. - «ولكننا نعرف أن العشاء مثلاً، يقع ما بين التاسعة والعاشرة والنصف بالتوقيت اليومي لغير أيام رمضان، ولهذا يستحسن، أن تسبق الإعلانات هذا الوقت، أو تتأخر عنها»..
رددت: - «… ولكن أطفالنا يهتمون بهذه الإعلانات والصور الكرتونية، أكثر من البرامج الأخرى، وبالتالي فهي مقترنة برغبات الناس، وشطارة المعلن الذي يريد أكبر كم من المشاهدين لمعرفة بضاعته».
قال ضاحكاً.. - «.. وحتى أنا تعجبني دعاية (البنتليز) رغم أنني لم أتطعم ذلك الشاي، ويغريني بالضحك، تسابق الدجاج والثوم، وقفزات الفلفل الأخضر في دعاية زيت عافية»..
قاطعته.. - «… و(بتوني) التي من (سميد، أو سميط) القمح، صارت على سفرة الفقراء والأغنياء في رمضان».
قال متهكماً.. - «… أرجو ألا تكون مروجاً لتلك الدعايات، بدون عمولة»!
قلت: - «نقتسمها بالتساوي»..
ضحك.. وكانت المفاجأة أنه يحمل (ميدالية) دعاية تعرض بالصحف والتليفزيون كل يوم.. لاحظ ابتسامتي.. رد بخجل… - «لقد قفشتني … فهل تقبلها هدية»؟!
قلت.. - «دور غيرها.. فأنا لست العاشق للآنسة «دعاية»..
قال.. - «ولكنها أفضل من الشمطاء «إشاعة»..
ضحكنا.. وكان الافتراق..
التاريخ/ الثلاثاء 12 رمضان 1409هـ – 18 أبريل 1989م
0 تعليق