عالم اليوم، أصبح متداخلاً لدرجة التماثل بكثير من أنماط السلوك والعادات، حتى أن تشابك العلاقات الإنسانية ضاعف من مسؤوليات رسم قيم إنسانية وعدالة اجتماعية تحاول أن توازن بين ضغوط حياة الفقراء، وبذخ الأغنياء، ولكن ذلك قد لا يكون متاحاً بصورة سريعة إلا بقدر ما يجعل قوانين الحياة ومصالحها الوسيلة الضرورية لتقليص تلك الفوارق حتى لا ينفجر كوكبنا الصغير على أهله بفعل ذلك الخلل الخطير.
وحين نحاول أن نضع أنفسنا داخل هذه التبدلات التي تسود عالم اليوم بحكم قانون الضرورة وتداخل مصالحنا مع قوى العالم برمته، فإننا يجب ألا نبني قناعاتنا وتصوراتنا خارج منظار الواقع، أو التصرف بتلقائية تستدعي لاحقاً، مراجعة سلوكنا، وتقدير الخسائر أو المكاسب التي نجنيها من أي خطأ نقع فيه..
فالمشاعر تجاه الآخر لا تحدد طبيعة الرضى، أو الغضب بشكل ثابت أو مستمر، بدليل أن التعامل الدولي على نطاق القوى العظمى تستبعد هذه المشاعر، وتبني علاقاتها على توازنات عديدة بينها الضغوط الاقتصادية، العسكرية، والاستراتيجية – وعلى هذا الأساس نجد أن المجتمعات الإنسانية – مهما تباينت أيدولوجياتها وقومياتها، فهي خاضعة لمسلمات التعامل مع العصر بشكل أكثر انفتاحاً وتداخلاً بالمصالح الشخصية أو القومية..
وإذا كان هذا الاعتبار يصدق على كثير من العموميات، فإننا إزاء نمطنا الاجتماعي في هذا البلد، ندرك الخصوصية الذاتية لنا وكيف أنها تميزت بالعديد من المشاعر والأعراف التي طبعتنا بتلك الخصوصية، والتي هي بكل المقاييس، تتناسب مع توجهاتنا ومعتقداتنا، غير أن المؤثر الخارجي من ثقافات وتقاليد ومنجزات علمية متوالية السرعة، أدت إلى تغييرات مهمة على نطاق حياتنا كلها..
فالسيادة الأبوية المطلقة والصارمة في الماضي، والتي تتحرك من خلال قوالب جاهزة في نظام اجتماعي شبه مغلق، لم تعد الآن تملك تلك السيطرة على السلوك، وصار الاعتبار الأهم داخل الأسرة الصغيرة، هو الكيفية التي تتحقق بها المحافظة على القيم الاجتماعية ورفع مستوى الأسرة المادي والثقافي، أي أن التركيز على التعلم، والإحاطة بعوالم الداخل والخارج، والتحول إلى إنسان حضاري هي مقاييس النجاح في أي وظيفة تسند مهماتها لأي فرد في تلك الأسرة أو المجتمع..
ومع أن التغير السريع في مجتمعنا حدث بشكل تلقائي بحيث لم يتم التنبؤ بالكيفية التي ستكون عليها تلك المتغيرات، ومدى تأثيرها على حياتنا الاجتماعية، خاصة في العقدين الماضيين، وحين كانت الطفرة في أعلى تصاعدها، والركض وراء تأمين السكن وشغل الوظيفة المناسبة، وتحسين مستوى الدخل الفردي بالمضاربات بالأراضي، وحيازة الكثير من المنتجات الأجنبية بدءاً من السيارة وانتهاءً بالراديو والتلفزيون، والتحول إلى نمط استهلاكي سريع غير منظم.. فإن هذه الوقائع وما تلاها من نمو في عدد المتعلمين، والجامعيين العائدين من الخارج، والعمالة الاجنبية التي وفدت إلينا بحكم الحاجة إلى بناء الأساسيات الضرورية كالطرق والموانئ، ومد أسلاك الهاتف والمياه، والعمالة الهامشية الأخرى، التي دخلت إلينا كنوع من الترف الذاتي كالخادمات والسائقين وغيرهم، أدت بلا شك، إلى إحداث هزة اجتماعية كبيرة ومؤثرة.
ومع أننا قد لا نلحظ هذا التغير باعتباره يتم على نطاق بيئي واجتماعي واسع، وبحكم أننا داخل هذه الدورة الكبيرة نسير جميعا على ذات العجلات، إلا أن التطور الذي حدث، أوجد العديد من الايجابيات والتناقضات، لدرجة أدت إلى اختلال حاد في تقويم هذه السلوكيات، والتشدد أحياناً على وضع بدائل مفيدة وشبيهة بتلك الممارسات التي كان الأب يضعها كمسلمات وقوانين لأسرته..
على جانب آخر نجد لدى الأخرين بعض التساهل في إشباع الرغبات، والإسراف غير المقيد بضوابط اقتصادية واجتماعية قد أحدث رد فعل آخر مناقض، ومثل هذا الإيقاع الحاد حين يحدث في بيئة ساكنة، لابد أن يردد صدى له بنفس الحدة، ومع أننا لا نفترض وجود طهارة مطلقة، أو فساد مطلق في أي مجتمع بشري، إلا أن الحكم الثابت ينطبق على السلوك العام للمجتمع، وعلى هذا الأساس لا نظن أن المتغيرات التي حدثت عندنا هي من السلبية بحيث تفترض رد فعل مناقض، إذ يجب أن نميز بين الايجابيات التي أوجدت الكفاءات الوطنية العاملة والمنجزات التي شيدت، وبين بعض السلبيات التي تحدث مثلاً من مراهق أو جانح، لأن من طبيعة من ينشد التطور أن يواجه الواقع بكل تناقضاته، والذي يجب أن نعالجه بروح العصر دون إحداث أي خلل في المعايير والقيم..
فاختيارنا لأنظمتنا وتقييدها بشكل يخدم مصالحنا، يجعلنا غير ملزمين بالاحتجاج الذي قد يبديه الجانب الآخر، ولكننا ملزمون أن نقيد تعاملنا الخارجي بما يضعنا على نفس الدرجة في علاقاتنا الواسعة والتي تحكمها قوانين ونظم عالمية، وليس في هذا أي تداخل أو ازدواجية طالما أن القضية واضحة، ومثل هذا يصدق على العديد من توجهاتنا الاجتماعية، التي يستحيل فصلها عن محيطها الإنساني الواسع، وهو ما يجب أن ندركه بأننا جزء من تكوين بشري يستحيل عليه الانغلاق أو الخروج عن محيط الجاذبية الكونية مهما تعددت الأسباب والنتائج..
عقدة الأمن الإسرائيلي
إسرائيل ترفض الاعتراف بمنظمة التحرير، وإنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، أو الحوار مع الجانب الفلسطيني، وبنفس الوقت تبحث عن أمن ذاتي عبر مخارج كثيرة مثل اعتمادها المطلق على أمريكا، وترسيخ ترسانتها النووية..
وحتى لا نقع في الوهم، أو نعتقد أن شيئاً مهما قد حدث على المستوى الدولي، فإن طرح (شامير) لقضية الانتخابات في الأراضي المحتلة، دون فهم أو تعريف للكيفية التي ستتم بها تلك الانتخابات، ولا طبيعة من سيقوم بهذه المهمة، وفيما إذا كانت ستتم في ظل احتلال اسرائيلي، أو بعد انسحاب قواتها.. هذه الأسئلة لم ترد عليها أمريكا بشكل واضح حين تبنت مشروع (شامير) وبعد مناقشات سابقة مع العديد من الزعماء العرب والأوروبيين..
ملخص القضية أن الانتفاضة أحدثت شرخاً كبيراً في حائط المبكى الإسرائيلي، ولذلك جاء من الإسرائيليين من يتحدث عن الأمن المطلوب وضرورة الحوار مع الفلسطينيين بدون وسيط، في الوقت الذي نجد الغالبية الصهيونية مع اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وتهجيرهم إلى الخارج، وهو قول ينقصه الواقع في ظل ظروف اختلفت عن الماضي، وحتميات أصبحت القوى العظمى تحقيقها..
لكننا إزاء هذه المشكلة المعقدة، نعتقد أن تحقيق أمن إسرائيل لا يمكنه أن يتم خارج البوابة الفلسطينية، لأن من تحاربهم إسرائيل الآن من شبان الحجارة، هم قاعدة السلام والأمن، وهم أكثر الناس تأثيراً على أي حجة تطرح في زيادة زمن المقاومة أو إنهائها بحلول تقوم على قواعد منطقية وأساليب موضوعية..
وحينما حدث منع عرفات من دخول مقر الأمم المتحدة وحصوله على تأشيرة من أمريكا، خاطب المجتمع الدولي من جنيف بما أجبر (شولتز) على تغيير سياسته، وفتح نوافذ الحوار الأمريكي الفلسطيني في تونس.
عرفات سيكون ضيف الرئيس الفرنسي في (الإليزيه)، وهو ما حاولت اسرائيل ان توقفه وتعتبر هذه البادرة خطيرة عليها، لا من حيث لقاء الرجلين ولكن لأن ذلك يعني فتح الطريق للقاءات عديدة مع زعماء عالميين وغربيين بشكل أكثر خصوصية..
ومهما قيل عن دور أوروبي غير واضح المعالم والأهداف، إلا أننا نعتقد أن الضغط الأمريكي على أوروبا لم يعد بنفس القوة والضراوة تجاه الحوار مع الفلسطينيين، بل قد يكون التنسيق في السياسة الأوروبية والأمريكية أكثر تقارباً تجاه هذه القضية إذ أن ما لا تستطيع أمريكا أن تجابه به إسرائيل مباشرة، يمكن أن يتم عبر القنوات الأوروبية، وحتى يستطيع الرئيس الأمريكي (بوش) الإعداد لسياسة قد تكون أكثر عقلانية وتحقيقاً لمصالح المنطقة بأسرها..
الذي يعنينا أن الخطوة التي قطعتها القيادة الفلسطينية تجاه أي طرح إسرائيلي، يجب أن تؤسس على قواعد ثابتة، وبنفس الوقت تملك البدائل الدبلوماسية والسياسية الفعالة، لأن الخصم مازال راسخ القوائم في الوجدان الغربي، وبالتالي لابد أن تكون المواجهة بنفس القدرة التي تتمتع بها إسرائيل في المناورة السياسية..
التوقع بنشوء خلافات فلسطينية داخلية، يبدو أنها تقلص كثيراً، أذ أن الرهان على حدث كهذا انتظرته إسرائيل طويلاً، ولكن الظروف التي عززت الموقف الفلسطيني في وحدته الداخلية، هو الذي قاد إلى انتصارها دبلوماسياً في الخارج، وثبات المقاومة في الداخل، وهما الجناحان اللذان طارا بالقضية إلى أكثر من أفق عالمي ودولي، وحققا أهم انتصار على صعيد الرأي العام العالمي بما في ذلك عقلاء إسرائيل وأصدقاء الصهيونية العالمية..
الإنسان «السوبرمان»!
الماضي هل هو الافضل دائماً، وهل هذا الإحساس مشترك بين كثير من شعوب العالم، أم أن القضية نزعة ذاتية مرتبطة بماضي كل إنسان تقدم به العمر يحن لطفولته وشبابه ومنزله وأصدقائه وجيرانه وأشيائه الخاصة؟
أعتقد أن من الخطأ تجاوز زمن البشرية كلها بحيث نضفي قدسية على زمن ما ونقلل من آخر..
فالتطور البشري جاء متسلسلاً عبر تعقيدات من الأحداث والحروب، ونشوء حضارات وموت أخرى، ولهذا لا يجوز أن نعتبر الماضي محاطاً بتلك الهالة العظيمة، وبنفس الوقت لا يمكن نسيان الأمور المتعاقبة التي تحققت في ظل الظروف الماضية..
فكلما اعتبر اكتشاف (الصفر) أول تحول في حل عقدة المسائل الحسابية، جاء من يقول أن كل الحضارات الإنسانية لم تقطع ربع المسافة التي قطعتها الحضارة الراهنة في نصف قرن، وأن الإنسان اليوم أكثر تطوراً وحصولاً على مكاسب لم تتحقق لغيره من قبله..
وحتى لو تضاعف الجدل في مسألة كهذه، فإننا لا نشك أن التطور الإنساني – في شبكة عريضة من الانجازات الراهنة، أحدث زلزالاً غير عادي، ولكن السؤال يظل قديماً وجديداً، فيما إذا استطاع الإنسان السيطرة على منجزاته ووضعها في مصلحته أم تفلت منه كل القوانين وتصبح سلطة عليه وعدوة له؟
تلك مسألة غير محسومة، وقد لا يتسع لها الخيال في الوقت الحاضر، لأن الأيام القصيرة الماضية قد تكون في حساب الإنجاز الإنساني تاريخاً متخلفاً عن أيام قريبة قادمة، وعندها قد يتكامل ميلاد الإنسان (السوبرمان)!
التاريخ/ الثلاثاء 26 رمضان 1409هـ – 2 مايو 1989م
0 تعليق