هل التقاعد المحطة الأخيرة في ربيع العمر، والكابوس الذي لا يمكن التخلص منه، حتى لو لم تكن الأسباب مادية بما يفرضه من نقص بالراتب، والتوقف عند حد معين غير قابل للزيادة، أم أن القضية اجتماعية ونفسية يصاحبها شعور ما لا يمكن تعليله إلا بأسباب أخرى، هي فقدان عالم تعود عليه الموظف، وصار جزءاً من حياته اليومية؟
طبيعي أن الألفة بين زملاء العمل، وما يجسده المكتب، وحركته، ورتابة الذهاب والإياب، وساعات الدوام، وآمال الترقية، ولذة أيام الإجازات، وقيمة الراتب، والاسم المعنوي إن كان رئيساً، لا شك أنها تلعب دوراً سحرياً في بناء شخصية الإنسان، وعواطفه تجاه محيطه الوظيفي والاجتماعي، ومع أن هذا الواقع لا يمكن تغييره أو التنازل عنه، وفقاً العوامل الحياة، وتتابع سيرها العجل، فإن تحقيق الحد الأدنى من السلامة النفسية للموظف المتقاعد، لا يمكن الحصول عليه إلا بخلق ظروف تلائم طبيعة سنة ومستوى أدائه، وسواء كان ذلك بمبادرة منه، أو من مؤسسات أخرى تجد في تجربة بعض الأشخاص ما يمكن حسابه في مكاسبها، وإغناء تجاربها بهذه النوعية الناضجة من البشر..
وإذا كنا لا نريد تعداد المزايا، والخسائر لهذه النوعية من الموظفين، فإن التجارب التي أجرتها الدراسات الميدانية لهذه الطبقة، والدعوات التي تعارضت بين مد سن التقاعد، أو تقنينها، أو إلغاء التقاعد أصلاً لفئات خاصة، كل هذا يجعل مثل هذا الموضوع حيوياً، ومتصلاً بالأسباب الداعية للرفض أو القبول لتلك النظم والقرارات..
الأمر هنا يمكن حصره بعدة فئات قد يصح استثناؤها من نظام التقاعد، ونعني بشكل خاص، الأكاديميين في الجامعات، والأطباء في المستشفيات، وكذلك العلماء في مراكز البحوث، أو النوادر من الذين يتميزون بتخصصاتهم العلمية أو النظرية، إذ أن الحكم لا يخضع لسنوات العمر إذا ما كان أستاذ الجامعة مثلاً، له القدرة على العطاء دون أي مؤثر على سلامته العقلية أو الحسية، وقدراته الجسمانية ويكفي أن رجلاً وصل إلى هذه المنزلة العلمية والأكاديمية، لا يمكن اعتباره يخضع لنفس الأسباب التي تحيل للتقاعد موظفاً إدارياً تعدته مراحل التطور والديناميكية الحديثة في الإدارة..
في الدول المتقدمة نعرف أن الكفاءات النادرة لا يمكن الاستغناء عنها بفعل السن، ويكفي أن الوظيفة متاحة في أكثر من مكان، حتى إن تخلي مؤسسة ما عن عالم، أو باحث كبير بفعل ظروف قاهرة تجعل العروض من مؤسسة أخرى تأتي بنفس المقابل، وتعطي نفس الامتيازات، ولم تقتصر القيمة على أصحاب الميدان العلمي وحده، إذ أن رؤساء وزراء وحتى رؤساء دول في أمريكا وأوروبا، واليابان، يجدون مراكز لهم في مكاتب المستشارين، والجامعات للاستفادة من التجارب والممارسات العملية في تلك المراكز الحساسة.
الذي يعنينا التساؤل المطروح من قبل شريحة كبيرة من المختصين، وفيما إذا كان نظام التقاعد يجب تعميمه بشكل مطلق على كل من بلغ الستين، أو التمديد خمس سنوات أخرى وفقاً لتقدير الإدارة التابع لها، أم أن مثل هذا النظام لا يصدق على الأكاديميين وأصحاب الندرة من الاختصاصيين، بحيث يجعل تقدير سن التقاعد مقرونة بالعجز الجزئي أو الكلي لهذه الفئات، وإخضاعها للجان صحية وأكاديمية تبني تقديراتها على معايير تراعي كل الأسباب للاستغناء عن تلك الكفاءات أو استمرار بقائها..
لقد اكتشف قبل سنوات أن هناك جهات دولية خارج الدول المتقدمة تطرح عروضاً سخية لنوعيات من العلماء، والمهندسين، ومديري المصانع في أوروبا من المتقاعدين للحصول على تجاربهم في خططهم الصناعية والاقتصادية، وكانت دول جنوب شرق آسيا، أكثر الدول التي استفادت من تلك العناصر، بل وقامت على تشجيعها أن تطلب إحالتها للتقاعد للحصول على امتيازات أعلى، واعتبرت في حينها غزواً خطيراً على كفاءات نادرة قد تساعد على تطوير قواعد اقتصادية وعلمية تنافس الدول المتقدمة، وهو ما حدث بالفعل، حين أصبع العملاق الآسيوي المواجه القادم لنادي الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا…
ما نريد أن نصل إليه أن التقاعد المبكر لكفاءات وطنية خاصة، أو حتى التخلص من كفاءات تعاقدنا معها، يحتاج إلى إعادة نظر تلامس ظروفنا الخاصة، إذ أن بناء شخصية لها مقومات الرجل الأكاديمي الكبير أو الطبيب، أو المهندس أو حتى رجل الثقافة والفقه الإسلامي، لا يمكن الحصول عليها بسهولة في بلد لا يزال يبني تقاليده الجامعية، والوظيفية، ومراكز بحوثه العلمية بشكل ثابت وهي نظرة أعتقد أنها قابلة للحوار والتنفيذ إذا ما رئي أنها إيجابية ومنطقية..
سباق بين جنسين
في البرنامج الإذاعي – أراء وتعليقات – كانت الحلقات الماضية تدور حول واقع العنوسة وأسبابها، وقد تعددت الآراء تجاه هذه القضية الاجتماعية الحساسة، والذي يعنيني هو أن الطرح له دلالته الإيجابية بصرف النظر عن تفاوت وجهات النظر أو تعليلها بأسباب اجتماعية، أو أسرية، أو ثقافية، ولكن الذي لفت نظري، أن ضيوف الحلقة من الجنسين، اختلفت اجاباتهم وطريقة تناولهم لهذه القضية..
ففي الوقت الذي أجد الشباب الذكور يعللون المشكلة بظروف مادية، وأحياناً عدم الدخول في مجازفة صعبة مع زوجة قد لا تقدر حالة الشاب المادية والاجتماعية، نجد أن الفتيات على العكس تنظر للأسباب من إطارها الأشمل، بحيث أن الزوج يجب أن يكون مثقفاً وواعياً، وأنه من غير الممكن التضحية بالزواج لحساب الدراسة مثلاً، والأهم من ذلك أن ترتيب أولويات المشكلة، وطرحها بشكل منظم، جعلني أستنتج أن ثقافة البنت أكثر من الشاب، وهي دلالة لها اعتبارها، خاصة في مجتمع يتسيد فيه الرجل كل شيء، ليأتي التعويض بالثقافة، والدخول في الاختصاصات الصعبة كأحد التحديات للبنت حتى تجد فرصتها الوظيفية والاجتماعية ممكنة، وميسورة..
ولعل نفس الصورة تتكرر في النتائج الدراسية لهذا العام، إذ أن النسب العليا في الاختصاصات العلمية للبنات أعلى منها عند الشباب، وهي مقارنة نظرية عابرة، يستطيع أن يستنتجها أي شخص يريد المقارنة بين خريجي الثانويات العامة، أو حتى بعض الكليات العلمية من خلال المعدلات المنشورة للخريجين..
وحين نعلل الأسباب، لا نعتقد بوجود فجوة عقلية بين الجنسين، بقدر ماهي الجدية بين الطرفين، خاصة وأن الفتاة التي بدأت تضيق عليها عوامل التوظيف بحكم طبيعة التقاليد الاجتماعية، وعدم تمكنها من مباشرة أي وظيفة تناسب اختصاصها وفي أي مكان من المملكة، هو الذي دفعها لأن تحاول أن تحصل على معدلات أكبر تضمن العمل المناسب، وهو حافز لا يمكن التقليل منه، أو اعتباره أمراً عادياً، ولعل المستقبل هو المعيار للسباق بين الطرفين، وفيما إذا كان للشباب جولة أخرى في التنافس الشريف مع الفتيات، ومن منهم يستطيع قلب المعادلة في الدراسات التي تحتاج إلى الجدية واستثمار الوقت، وقطع المسافة لأقرب نقطة يصلان إليها دون عناء كبير.
.. وما بعد التقاعد!!
أصبع عصبياً يكره الضجيج، ولم يعد يطيق ممازحة أحفاده، صارت العزلة بالنسبة له مطلباً أساسياً ولكنه حين يغلق على نفسه تلك الغرفة الصغيرة، تواجهه الذكريات الصعبة..
فالمدينة لم تعد المكان الهادئ، إنها شبيهة بدولاب يتحرك بسرعة هائلة، ولذلك يشعر أنه بمجرد أن يخرج للشارع يدخل في تنافس مع حركة لا تناسب مشاعره، وطلبه للهدوء.. قال مرة لصديق له ممن بقي على الحياة..
- «.. كان حلمي أن أحصل على الابتدائية في أول مدرسة أنشئت في مدينتنا، وكان مجرد لبس ثوب من (البفت) أو (اللاس) يعني وجاهة اجتماعية خاصة وبالفعل تحقق لي الشهادة والعمل، وكنت محسوداً على تلك الوظيفة، ومع أن طموحي كان مواصلة الدراسة، والوصول إلى الجامعة، فقد تلاشت هذه الأماني تحت ضغط ظروف استجدت، ولكنني عوضت عن ذلك بمواصلة قراءاتي، والتي لا تزال هي المتعة الوحيدة في عزلتي الاختيارية في هذه الشيخوخة المبكرة.
عقب صديقه.. - «.. أنت أكثر الناس علاقات اجتماعية في السابق فهل منفاك الاختياري جاء نتيجة حساسية الشيخوخة، أم أنك بفقدان أصدقائك وجدت أنك وحيد مع نفسك، وهواجسك، وهو ما سيضاعف عليك كآبة أكبر إذا ما خضعت لهذه الهواجس وتماديت في الاستسلام لها»..
قاطعه: - «ليست لي أي رغبات أريد إشباعها، حتى رفيقة العمر شاخت ولم يعد لها من حرص إلا حضانة أحفادها الذين وجدت فيهم أكثر سلوى مني، ومع أنني أعذرها، فإن قبولي لهذه العزلة طبيعية ولا أرى فيها أي مرض تعتقده أنت»..
قال صديقه.. - «والأولاد.. ومشروع الكتاب، والرحلات التي منيت نفسك بها لمعرفة مخزون المتاحف والمكتبات وزيارة الآثار والمعابد.. وتدوين مذكراتك، هل تبخرت هذه الأماني، مع أن مشروعاً كهذا يناسب سنك الحالية ويعطيك الفرصة لصياغة تجاربك وتأملاتك»..
رد ساخراً.. - «… لقد ذهبت أحلامي مع أصدقاء العمر، ولم يعد لي من أمل، إلا مزرعة صغيرة في قريتي، أنقل إليها كتبي، وأكتب فيها وصيتي الأخيرة، والمكان الذي أدفن به»..
قال صديقه.. - «… خيار معقول، ولكن قريتك هي بنت المدينة لها إيقاعها السريع، وعالمها المتداخل، المشابه لهذه المدينة، وأظن أن ما يناسبك، هو القبول بالواقع، والسير معه، لأن العالم نفسه قرية واحدة، أصبح فيها الإنسان أسير الآلة وجهاز الكمبيوتر الذي وصل إلى أن يختار الزوجة، ونوعية الغذاء وقياس كمية الأوكسجين في الهواء.. فهل تريد أن تهرب من قيدك الكبير!؟
قال مستدركاً - «… هذا ما فكرت به، واعترفت أنه مصيري الأخير، ولذلك آثرت العزلة حتى من لجوج مثلك»..
التاريخ/ الثلاثاء 24 ذو القعدة 1409هـ – 27 يونيو 1989م
0 تعليق