في صحافتنا العربية تجد أغرب التوقعات، وأحياناً تحليلات لأحداث تدخل في ممارسات الحرب النفسية على الأمة العربية، وكأن كاتبها أحد الموظفين في مكاتب الاتصال الأجنبية التي اعتادت أن تسرب وسائل التشكيك.. مثلاً هناك من يكتب صفحة كاملة بإحدى الصحف، محاولاً أن يضعك في مواجهة ما يشبه الحقائق، وتكون مَصادره ورموزه جلسة مع سفير أجنبي، أو أنباء وتقارير سرية جاءت للكاتب من مصدر لا يقبل المكاشفة. وأخطر من ذلك أن المضمون لا يقترن بتوثيق يقبل المطابقة بين الأقوال والحقائق..
في حروب الأعلام العربية في حقبة الستينات، كانت الإذاعة أو الصحيفة العربية تفرد لك الصفحات أو النشرات والتعليقات الطويلة، والتي وصلت في وسائل اتهامها إلى عمالة النظام الفلاني، وتآمر النظام العلاني على قوى التحرر، ويكون المصدر أنباء من بيروت، او تعليق لمسئول بريطاني من الدرجة العاشرة، أو نشرات تسربها (إسرائيل) للتضليل، وممارسة اللعبة ذاتها مع الإذاعات والصحف العربية التي تمارس الغباء مع سبق الإصرار..
ولأننا حتى الآن لا نستند في طرحنا السياسي إلى سمات واضحة، فإن إغراق السوق العربية بالإشاعات والاتهامات وبلبلة الرأي العام، لا يستطيع أن يوقفها أي قانون، ولهذا نجد من يزعم أنه صانع قرار لأنه يملك الرؤية المطلقة للأحداث، وأخر يعتقد أن طبيعة النفسية العربية منشقة على نفسها ولا يرجى لها التوافق والتوازن الذاتي، بحيث تفهم ما يقول..
الصحافة العربية خليط من دكاكين التجار، والسماسرة والغالب منها تعشش وسط مغارات مظلمة، حتى أننا لا نستغرب كيف تتأمر على مصالح وطنها. وتلبس السواد حداداً على موقف معين، وتزرع الورود وتلبس ثياب الزفاف لنظام أو موقف مضاد آخر..
أثناء حرب الخليج تجد العشرات من الآراء تقول بـ «بلقنة» المنطقة، وأن اتفاقا عالمياً بين القوى العظمى وضع مشروعاً هو قيد الدراسة والتنفيذ..
والآن يتحدثون عن «بلقنة» للشام، وربما غد «سايكس بيكو» للشمال الإفريقي العربي، وتجزيء لخارطة السودان، وتدويل للبحر الأحمر… إلخ..
منذ انتقال (إسرائيل) من المهد الأوروبي، إلى الحضن الأمريكي، ونحن نستغرب كيف تصل الجذور الصهيونية إلى مواقع السلطة في تلك البلدان، وكيف أن روابطهما تشكل الاتجاهات السياسية والاجتماعية لها، بنفس الوقت نشكو الغبن والتجاهل، والحملات الشرسة التي تصل إلى محرماتنا ومعتقداتنا العربية..
الذي أعتقده أن الأرقام الإحصائية تعطينا مؤشرات بأن العرب في بلدان أوروبا الغربية، إن لم يكونوا متساويين في العدد مع اليهود فإنهم أكثر منهم. ولكننا حين نحاول تحليل دور كل طرف نجد أن المنطلقات مختلفة، وحتى الولاء والإخلاص للمعتقد والسياسة لا يمكن قياسهما مع بعضهما البعض..
فاليهودي لا يعلن أي هدنة مع مبادئه، وبالتالي قد يستخدم الوسائل غير الأخلاقية في المجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه يربطها بمعتقد أعلى من منهج وسلطة ذلك البلد، ومن هنا عرفوا بأصحاب الازدواجية في الجنسية واللا انتماء، ومع ذلك وصلوا إلى طموحاتهم بذلك التماسك العجيب الذي أوصلهم إلى المواقع الحساسة في تلك البلدان، وجعلهم في مراكز السلطة المالية والثقافية والاعلامية
العربي المهاجر لاتزال تحكمه سلطة الاستعمار، وغياب الانتماء، وحتى لو تواترت تلك المشاعر مع المركز الأصلي، فإنه لا يجد ذلك التمازج والتعاون بين دولة المركز، والبلد المهاجر إليه، وهذه معاناة عاشها أبناء الشام والمغرب العربي في المهاجر، وأصبح منهم من يفضل التفرقة العنصرية في البلد الأجنبي على القمع الاجتماعي والسياسي في بلده الأصلي، ولهذا خسرنا هذا النمط من القوى السياسية والاجتماعية وضياعها بين واقعها وطموحاتها، وتحولت إلى هجين لا يملك أي قاعدة أو وظيفة تخدم منطلق وأهداف أمته العربية
وجه المقارنة هنا أعرف أنه صعب ومعقد، ولكنني أريد أن أخلص إلى نتيجة هي في تصوري أساس المشكلة وهي أننا في وطننا العربي نغذي انعكاس الهزيمة والسلوك غير الواقعي في داخلنا ونرى أن عجزنا لا يعود إلى نقص في تكويننا العاطفي ونخرج بمبررات تسلط الغير علينا، ونجد عشرات الأمثلة التي تثبت هذا الواقع، وبهذا الهروب وجدنا أن المواقع التي نخسرها في الداخل والخارج ليست إلا من انجازاتنا ومبتكرات أفكارنا، ولهذه الأسباب تأتي سلوكياتنا مناقضة تماماً لأهدافنا، حتى أن وسائلنا الإعلامية، ومناهجنا التربوية، ليست إلا حلقة في دوامة التناقضات التي نعيشها، ويكفي أن مسألة (البلقنة) وعوامل التفتيت التي بدأنا نأخذها عن قناعة في علاقاتنا السياسية، وربطها بعجلة التآمر الدولي، هي في الأصل والنتيجة، واقع لفراغ نعيشه بين قنوات الاتصال الاجتماعي والسياسي في البلد الواحد، ولعلها قاعدة الأزمة التي لا يمكن حلها إلا بإعطاء السلطة والمواطن جرعة من الثقة وتبادل الفهم المشترك لأساسيات الحياة الراهنة، أو التخطيط للمستقبل تتساوى فيه القدرات مع الانجازات لا العكس..
ثورة.. في الثورة!!
قد يكون الحديث عن التغيرات الأيدلوجية في الاتحاد السوفياتي موضوع العصر بالنسبة للغرب، والشرق معاً، قد لا نختلف بأن تلك السياسة جاءت لتلبية حاجات العصر ومنطقه، ولأن بلداً يشكل سدس الكرة الأرضية، ويملك أعظم مخزون من المواد الاستراتيجية الصناعية والزراعية، لا يمكنه أن يقبل بمسلمات نظرية سقطت في مجال التجربة، وعوامل الزمن..
فالاتحاد السوفياتي بدأ الانتقال من مرحلة الدولة مصدرة الأيدولوجيا، إلى الدولة السياسية التي توازن بين مصالحها وعلاقاتها الدولية، قبل فترة وصول «غورباتشيف» إلى السيادة الكاملة على مقاليد الحزب والدولة، وإن كان هذا الزعيم الآن يحاول أن يحطم الكثير من تلك التقاليد التي أفرزت أكبر مواقع الزلل في دولة عظمى.
دول أوروبا الشرقية تعتبر الآن في حالة اختلال الموازين، لأن الصدمة عنيفة وغير متوقعة، ولهذا كان (غورباتشيف) يطرح فلسفته، وكأنه يعلنها كإنذارات للدول الحليفة له..
فالمجر، مثلاً، استطاعت أن تأخذ بهامش الحرية وتصل إلى ما يعتبر حالة انفتاح جيد في اقتصادياتها ومبادلاتها مع السوق العالمية، وينطبق ذلك على ألمانيا الشرقية التي تعيش ازدهاراً اقتصادياً يعد معجزة في دول المنظومة الشيوعية..
أما في (بولندا) فقد جاءت الانتفاضة من عمال السفن، أي من (البروليتاريا) التي هي عماد سلطة الحزب، وهو ما يناقض المواقف الأيدلوجية تماماً، إذ أن هذه الطبقة حين تثور لا يمكن الادعاء بأنها عميلة أو مسيسة، وبالتالي فإن الأصل في التناقض يمكن أن يعزى للجمود العقائدي، وعدم تفسيره للواقع والمستقبل برؤية زمنية واضحة، واستجابته لمتطلبات ذلك البلد.
من هنا نجد الاتحاد السوفياتي الذي انطلق الآن من مشروع (البريستوريكا) قد سلم بأن دول المعسكر الشيوعي إما أن تعيش على جمودها وفسادها الإداري، أو أن تكون بمستوى الانتقال الحضاري للشعوب المتطورة بالعالم، وهذا ما يجعل موازين القوة بالأسلحة ليست العامل الأكثر تأثيراً على المستقبل، وإنما تحقيق نتائج تتعلق بالرفاه الاجتماعي، والمكاسب التي تعطي الشعوب حق التعبير عن وجودها، والتمتع بمميزات إنتاجها وتفجير الطاقات الكامنة بها، هي التي جعلت مؤشر الحركة الجديدة في الاتحاد السوفياتي يعد انقلاباً استراتيجياً شاملاً اختلفت عليه الآراء الغربية بين الخوف، والشكوك، لأنه في كلتا الحالتين سواء تصعيد الأزمات والاحتقان السياسي والانذار باستعمال القوة، أو إعادة بناء الروس لقاعدة متطورة قد تكون مجالاً لدخول سوق العالم بما يشبه التيار العنيف، هي في النهاية خسارة قد تسجل للغرب ..
عموماً دول المعسكر الشيوعي تعيش حالات قلق وتغير سريع، ولكنها بالنسبة للماركسيين العرب، هي حيرة وسكون، أو انكفاء ذاتي لا يستطيع أن يواجه المشكلة إلا بالصمت المطلق وهو خير من الثرثرة ورفع الشعارات الجوفاء..
مجرد رأي
في مدننا الكبيرة أصبح الآن ما يعد هجرة من القلب إلى الأطراف، بحيث أن نمو الحارات الجديدة ترتب عليه هجر الكثير من المنشآت الحكومية.. مدارس وإدارات تعليم، وشرطة، وغيرها..
القلب الآن لم يصبح في المدينة مركز التجمع السكاني، ولهذا نجد الكثير من دور الحكومة، وبشكل خاص، مدارس البنين والبنات، وبعض المعاهد والكليات، أصبحت شبه مهجورة، وتحولت تلك المنشآت رغم تميزها بمواقع هامة إلى فراغات في المدن.
وإذا كانت العودة من جديد إلى تلك الأحياء التي تحولت إلى أسواق تجارية ومراكز للشركات والمؤسسات شبه مستحيلة، فإنني أعتقد أن بيعها والاستعاضة عنها في مراكز التجمعات الجديدة، قد يخدم تلك المؤسسات الحكومية، ويقلل من تكاليف منشآتها الراهنة..
ولو افترضنا وجود مدرستين، أو ثلاث بشارع الملك فيصل مثلاً، وقدرنا أن طلبة تلك المدارس لا يتجاوزون العشرات، فهل الأجدى أن تعرض تلك المدارس أو الإدارات للبيع وتغطية تكاليف المنشآت المستجدة في أحياء أخرى؟
مثل هذا الموضوع أعتقد أنه يجب أن يكون محل دراسة ومراجعة، لأن استفادتنا من مبالغ هذه المواقع، قد يخدمنا في مجالات لها نفس القوة والحاجة ولا أظن أن إدارة أملاك الدولة بعيدة عن هذا التصور ودراسته وفق مصلحتنا الوطنية..
التاريخ / الثلاثاء 22 ربيع الأول 1409هـ – 1 نوفمبر 1988م
0 تعليق