هل استحق نجيب محفوظ، جائزة «نوبل» عن قدرة وعبقرية فنية رائدة، أم أنها ضربة حظ أرادت بها الأكاديمية السويدية دفع التهم عنها من قبل العالم الثالث بانحيازها الظاهر للأعمال اللاتينية، أو بشكل خاص الغربية منها. لتمنح هذه الجائزة لأديب مصري؟
بتصوري الخاص، أن الموضوع ليس فيه مجاملة، وإن ظل حجب الجائزة عن الإبداع العربي يدخل الشك، ولعل مثل هذا الواقع، هو الذي دفع باليائسين إلى أنه لا توجد لدينا تقاليد روائية وأننا مثلما حدثت (الفجوة الحضارية) حين هزيمة ۱۹6۷م بيننا وبين (إسرائيل) فان الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن الذين نالوا هذه الجائزة كبيرة، وأننا حتى الآن نعيش أسرى القوالب الروائية الغربية، وصرنا نبحث عن العالمية عن طريق المحلية، أو العكس صار هناك من يهجر لغته ليكتب بالفرنسية أو الإنجليزية في سبيل استجداء هذه الجائزة وهالتها العالمية.
«نجيب محفوظ،» رغم العطاء العظيم، وأقولها بدون تحفظ، للرواية العربية والعالمية، فإنه ليس المظلوم الوحيد في العالم، إذ أن هناك من يماثله بالعبقرية في أمريكا الجنوبية كالروائي البرازيلي (خورخي أمادو) وفي تركيا (ياشار كمال) والسنغالي (صنبيم عثمان) وغيرهم في الهند والباكستان..
المسألة ترجع إلى ما هو أخطر من ذلك، إذ أن الغرب الذي جفت موارد عواطفه، بسبب الانتقال الحضاري السريع، حسم قضيته بتلك الإنجازات الفلسفية والروائية في أزمنة التحولات التاريخية، ولم يعد هناك ما يثير ركود تلك العواطف، إلا أجهزة «الكمبيوتر» التي هي المتعة الوحيدة في صنع المفاجآت واكتشاف المجهول، ولذلك بقي أدب العالم الثالث مجال المتعة والإثارة الساذجة في أساطيره وموروثاته، وجدة علاقاته بالتحولات الجديدة لهذا العالم.
من هنا يبدأ البحث عن علاقات إبداعية خارج منطقة الجفاف الكبرى، وحتى لو قلنا بأن «سوينكا» الأفريقي الذي حصل على الجائزة، ليس أكثر الروائيين الأفارقة أصالة وإبداعا، إلا أننا لا نستطيع أن لا نزعم أن هناك تداخلاً سياسياً، وعقائدياً في منحه تلك الجائزة، خاصة وأنها استعملت أداة مع الروائيين الروسيين «باسترناك، وسولجنسنين» لمجرد موقف أيدلوجي في صراع الشرق مع الغرب..
منح الجائزة لعربي، قد يفكك تلك العلاقة الدونية التي أشعرتنا أننا نكتب بلغة متخلفة حضارياً، أو أنه لا يوجد بيننا من يستحق أن يدخل النادي العالمي بإبداعاته، وأن البيئة العربية عقيمة لحد الجدب.
اللغة العربية في شخصية نجيب محفوظ الإبداعية هي المنتصر الأول، لأنها الرد على أولئك المتشككين الذين حاولوا تحنيطها ووضعها في المتحف التاريخي، وباللغة العربية وحدها جاءت أزقة القاهرة وحاراتها لتشكل نمطاً عالمياً وإنسانياً يخترق الحواجز العرقية والتطلعات السياسية، ويدون في تاريخ الرواية العمل العربي بأنه في مصاف إي إنتاج انساني عظيم.
القضية ليست في حل العقدة، ودخول الإبداع العربي إلى الأبعاد الطويلة، ولكن المسئولية تأتي من أن «أدب التحولات» هو المرشح لأن يرث تلك المساحات الخالية في ثقوب الرجل الآلي، وهذا لا ينطبق على العرب وحدهم، إذ أننا نقرأ الآن الأعمال الأفريقية، والأمريكية اللاتينية، وكأنها تقوم على نفس المعمار للأدباء الروس أو الغربيين في مرحلة النهضة الأوروبية..
المجال العربي للخلق الفني لا نعتقد أنه أخذ شهادة جديدة في الاتجاه إلى المسار العالمي، ولكنه انتصر بحكم حضوره وعطائه المميزين، ولهذا السبب تأتي الخصوصية الإقليمية أو القومية كميدان للعمل الإبداعي المنطلق إلى تلك الآفاق الواسعة..
وإذا كانت الثلاثية، وملحمة الحرافيش، وأولاد حارتنا وغيرها من أعمال نجيب محفوظ، تعتبر الأعمال الرائدة في تطور الرواية العربية، فإن مؤلفها الذي ظل مؤمناً بعمله، ومحدداً حياته في ذلك النظام الصارم، ندرك أن مكافأته جاءت متأخرة، ولكن ذلك لا يعطل موهبة شيخ في السابعة والسبعين مازال يعطي ويبدع، وكأنه نهر النيل هبة مصر العظمي..
.. وفيروز..
إحدى الصحف الأمريكية، وفي ظل الصدام السياسي مع مصر، كانت لا تخفي حقدها على التندر على العرب وأنهم لا يملكون من الحس الفني ما يجعل ذوقهم يصل إلى المرحلة الحضارية، وكانت تقول عن صوت أم كلثوم «أنه يشبه مواء قطة في شهر شباط».
طبيعي أن تكون الحرب النفسية في تلك الفترة ساخنة، ولكن ما نعرفه سيكولوجياً، أن الأذن الإنسانية محايدة أمام الفنون المسموعة، وحتى لو كان حاجز اللغة بعيداً، فإن صوت الموسيقى، أو الصوت المصاحب لها يرقى على تلك الحواجز التي ترتبها العنصرية السياسية، أو الأحقاد التاريخية..
فيروز التي استقبلها جمهور باريس في أكبر قاعة للموسيقى، لم تكن غراباً عربياً، أو طبلاً في موسيقى نشاز، ولكنها ذهبت يحملها تراث هائل زاوج بين فنون العرب، والغرب، ومعها شخصية فذة غنت لمكة والقدس، ولبنان، والأراضي العربية. لم تمالئ حراس الموت. أو تقتني لإحدى المليشيات متفجرات أو رشاشات، جاءت لباريس لتخرق حاجز الصوت السياسي والعسكري، وتضع لبنان في مجرى الحياة الخالدة في صوتها الخالد..
الأغنية العربية التي كأنها على موعد من الهزيمة انحسرت عن الأذن العربية، وبقيت للشارع الغوغائي تتطفل على الأندية الليلية، وتسويق (الكاسيت)، إلا فيروز وحدها التي جاءت من وسط الركام اللبناني لتنتشل الأغنية العربية من حطامها المتناثر..
ليس في تكريم فيروز في عاصمة فنية أوروبية مثل باريس ما يعتبر تاجاً على رأس الفنانة الكبيرة، ولكنه استحقاق جاءها من عاصمة غير عربية، وهذا ما يحزن، مع العلم أنها، وهي الآن في قمة شهرتها وعطائها، لم تدخل معركة الأضواء والدهاليز المظلمة لتبحث عن رقم يضاف إلى رصيدها المالي، أو تناصر قوة على أخرى..
فقد أمنت بحياد (النوتة) والصوت، وجاءت كمنارات السفن ترشدها إلى كل الشواطئ، لم تخاطب الغرائز العربية الجنسية، أو تغرق في شعارات السياسة، ظلت وحدة شاملة لأرقى الأذواق، وهذا ما وضعها في الصف الأمامي بين كل الأصوات بعد أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش..
لا يستطيع أحد أن يدعي أن فيروز (ورحا بنتها) يدورون خارج المجرة العربية، فهم أول من طرز على أرض لبنان الإيقاع الإنساني الشامل الذي يخاطب كل الأذواق، ويكفي فيروز أنها المسافة بين الوعي، واللاوعي في خرائطنا العربية، وأنها الرمز الكبير في التدليل على ذوقنا الفني، حتى لو بقيت لا توزع من أشرطتها النصف قياساً بـ (العدويين) وأنصاف الأميين في الزفة العربية.
باريس وحدها التي حركت فينا هذا الامتياز الكبير، ووضعت فيروز في مكانها مع «بياف» المغنية الفرنسية الخالدة، وجعلتنا متفرجين في الصفوف المتأخرة في حفل مغنيتنا العربية الكبيرة، ويكفينا فخراً أنها «فيروز» وهذه المرة لن تكون كمواء القطة في الشتاء العالمي، وإنما صوت الأحاسيس البائسة والرائعة لكل الأزمنة والآذان..
صديق المرضى
الأستاذ الكبير عبد الكريم الجهيمان يشبه سوافي رمال هذه الصحراء.. كتب في التراث الشعبي، وجاهد لأن يكون أول مؤلف لا يحترف التقاليد الجامعية ليسبق هذا الوقت بعطاء شامل، قال عنه أكثر من مصدر ثقافي وأكاديمي بأنه عمل كبير ونادر..
وأستاذنا الفاضل، الذي هو الآن في منتصف عقده السابع بقي مثل السوافي يركض للجمعيات الخيرية، يساعد ويعطي، ويتبرع، قدم في موسمين فقط ما يصل إلى المليون ريال لتلك الجمعيات..
عبد الكريم الجهيمان، ليس من أصحاب الأموال المنقولة، والثابتة، وأجزم أنه لا يعرف معادلة «الين» بالدولار في بورصة طوكيو، ولندن، ولكنه مواطن قد تكون ظروفه ميسورة، ولكنه كريم في نفسه وماله وعطائه، ومثل هذا يندر أو أنه استثناء في هذا العصر..
كثيرون يملكون الأرقام الهائلة في البنوك والمؤسسات، ولكنهم في غير الموقع الذي فيه أستاذنا الفاضل، وهذا هو التمييز الحقيقي، بين من يفعل عن قناعة في حب الخير، والآخر الذي يجدها مناسبة للبروز للضوء..
أعلم أن الصديق، والأستاذ سوف يلومني، وقد يعنفني على هذه الكلمات، ولكن الرجل في ذمة ما نقوله عنه، لا يريدنا جوقة له، وهذا منتهى التواضع والصدق مع النفس، ويكفي أن هذه الأموال جاءت بعرق جبينه، وتبرع بها عن إرادة طوعية، وفي سبيل فئة وطنية تستحق هذا العمل..
فللصديق تحياتي واعتزازي بهذا العمل الكريم، والكبير في كل شيء يقدمه لمواطنيه، وأجيال المستقبل..
• • •
«طقي يا أم دحيم»!
لا أدري إن كنت حالة شاذة أو عادية، حين أصادف مواطناً ساخراً يغري فيك أن تستمع، وأن تقف أمامه بدرجة تلميذ صغير، أجد متعة معه تفوق عملاً تقدمه، أو وجبة تتلذذ لمذاقها..
الابتسامة مشروع إنساني عظيم، أو هي أعلى ملكات الإنسان في حالات اليأس والكآبة..
صادفته.. قال مباشراً حديثه..
- «أنتم لستم على أرضنا، تدورون في حروفكم الطوافة، على السياسة، والمناخات شبه القارية، ونحن في صحرائنا كهوامش التاريخ في اهتماماتكم» …
قلت استثيره.. - «في حديثك الآن ما يتفوق على حروفنا وكتاباتنا في التهويم.. هل تريد أن تصل إلى نقطة الحوار بدون مجراتك وسحبك، وعواطفك الحادة، ولغتك الفلسفية.. اختصر.. وقل ما تهدف إليه».
كمن يجر نفساً طبيعياً بعد اختناق في غرفة مليئة بالدخان والكوابيس.. قال - «أنتم في غيبوبة عن همومنا الخاصة، أعني ما يدور في الشارع، والمدرسة، وما تنقله هواتفنا وتقطعه «ونيتاتنا» وما تحرقه أصابعنا من سجائر، وما نقامر به في علاقاتنا… و …»
قاطعته.. قائلاً.. - «مرة أخرى أقول حدد ما تريد حتى لا نضيع في متاهات الطرق ودخان السجائر، وملفات المدارس»..
دمدم غير راض عن إشارة الوقت المستقطع».. رد… - «هل جربت الوقوف في طابور قطع غيار السيارات.. دونت بعض الحروف الإنجليزية لتخاطب البائع، أو صاحب الورشة، لتحصل على قماش فرامل»؟!
قلت.. - «جربت»!
قال.. - «وهل امتدت أصابعهم إلى جيبك تنتزع الآلاف مقابل قطعة لسيارة يابانية، أو جدتها السيارة الإنجليزية، أو بنت خالتها «الجرمانية» أو سيدتهم العظمى الأمريكية»؟!
قلت.. - «حدث»..
جرع ريقه.. انفعالات وجهه أسقطت كل المسافات بين الهدوء، والعاصفة الحادة..
قال.. - «… وهل تنتظر أن أقول لك، ما هو موقفك، وكيف ترى في مثل هذا التصرف، وعلى أي أساس تغتصب نقودنا بدون وجه حق، مقابل أساطير من يحددون الأسعار، ويفرضونها»؟
- «ولماذا تشتري سيارة إذا كنت لا تريد أن تجرب لمس الجمر في الكانون»؟!
رد بسخرية.. - «لو لم أعرفك لاعتقدت أنك مدير إعلانات في هذه الجريدة، تأخذ عمولة من كل وكالة سيارات في المملكة، ولن يهمك من يغطس في الزيت الساخن إلى أذنيه»..
قلت معقباً… - «.. ولماذا لا تكون مثل المحامي اللبناني – الأمريكي الجنسية «رالف نادر» صديق المستهلكين، وتشتغل محامياً عنا جميعا»؟!
رد محتداً.. - «ولا يوجد من يجاريكم في الألسنة الحادة والكلمات النافذة.. فهل سقطتم في معركة أسلحتها براغي، وجلد، وصدَّامات ومستغلين»؟؟
قلت.. - «مثل هذا السؤال تعرف من يجيب عنه، ولكنك في نفس الخانة من مواقفنا، فهل تجرب خوض معركة مفتوحة الساحة ومتعددة الأسلحة»؟
مثل من يتجرع الكآبة.. قال.. - «طقّي يا أم دحيم.. وارقصي يا شيمه»! …
ضحكت وسط أصوات لعناته التي كانت تسبقه كالريح إلى الشارع الطويل..
التاريخ / الثلاثاء 8 ربيع الأول 1409هـ – 18 أكتوبر 1988م
0 تعليق