يضيف إلى هدوئه ورزانته، تلك المسحة من الحزن الخفي، غير أنه متماسك أمام الكثير من الأحداث التي مرت به والتي قد زاوجت بين فقره وتشرده، والمعاناة الصعبة حين كان صبياً في ورشة صغيرة، ثم انتقل إلى كاتب في محل بيع قطع غيار السيارات، وانتهى إلى رجل أعمال مرموق بين شرائح الطبقة الوسطى..
قال مستذكراً حياته..
- «أمضيت بينكم ما يقارب الثلاثين عاماً، هي عمري الحقيقي الذي قضيته في مدينة الرياض.. كانت الوزارات بعماراتها الضخمة، هي المعلم البارز، آلاف الموظفين الذين انخرطوا بالعمل، متخرجون جدد من الجامعات العربية، احتلوا المراكز الرئيسية في الإدارات، وبعض أصحاب التعليم المتوسط من المعاهد العلمية والثانوية، والذين دخلوا تصنيف الوظائف الإدارية الوسيطة بين الوظائف العليا والدنيا..
جيوش من الطلبة أبناء الفقراء يدخلون المعاهد، يركضون وراء التعليم العام، والعلوم العسكرية، لجان للابتعاث، وأخرى تخطط لإنشاء جامعات وتطلب التوسع بالتعليم ليشمل القرى والمدن الصغيرة…
«حي دخنة، ومعكال، والشميسي، وحلة القصمان، وشارع القري» هي المعالم الرئيسية للمدينة القديمة ولكن أحياء «الملز» والناصرية، والبديعة، كانت الأكثر شباباً وطموحاً..
شارع الوزير وحده ظل المعرض الجديد لبضائع الغرب.. اجتمعت فيه صالونات الحلاقة الأنيقة، مع نظام البقالات الحديثة، ومعارض الأزياء، والمكتبات، والمكاتب الهندسية، وشبه الاستشارية وعيادات الأطباء.. بمعنى أكثر كان الشارع (الأورستقراطي) للطبقة الغنية..
حديقتا البلدية، ما بين شارع الوزير، والبطحاء و(بخشة) (الفوطة) هما المتنفس الذي يجتمع فيه خليط من الطلبة والموظفين، والمتعاقدين من المدرسين، وعمال البناء، وأصحاب الورش الأخرى..
كسرت عليه استرساله.. قلت.. - «هل تريد ان تخرج لنا أحشاء الرياض لتلك السنوات لتثبت أنك صاحب ذاكرة تاريخية بارعة في انتقاء الحوادث والناس، وظروفهم المعاشية، وحياتهم البسيطة والمتواضعة، لتحدثنا عنها كصانع حدث وشاهد عليه؟»
استثاره السؤال، ولكنه لم يستعجل الرد.. وبتواضعه المعهود وابتسامته الحزينة رد قائلاً؟ - «هي ذكريات وليست تاريخاً وأنا جزء من تلك المرحلة بكل تركيبتها الإنسانية، كنت محظوظاً حين سكنت شقة حديثة مضاءة بالكهرباء، ومزودة بالمياه في وسط البطحاء، بل ربما لا تصدق أنني أعتبر دخلي في تلك الفترة أفضل من راتب موظف يشغل إدارة متوسطة رغم معاناة العمل وساعاته الطويلة في جو لا تتوفر فيه وسائل الراحة ولكنني كحرفي فني كنت سعيداً بذلك الدخل، خاصة وأنه لا توجد لدي روابط قسرية أعولها هنا، اللهم إلا حصيلتي التي أوفرها لأبعثها لأهلي خارج المملكة..
وكما أريد أن تفهم، فإنني لا أريد أن تعتبرني صانع حدث، ولكنني شاهد تفاعل مع الناس أخذ منهم أكثر مما أعطيهم»..
قاطعته مرة أخرى.. قلت.. - «دعنا من المثالية التي هي ليست في مكانها الآن، أخذت، أو أعطيت، تلك مسألة تحققت ولا يوجد سجل حسابات يوازن بينهما، ولكنني أسعى لأن تطرح تصوراتك بشكل بعيد عن الذاتية، خاصة وأنك عايشت مرحلة هي التي تأسس عليها حركة نشاط كبير في العاصمة. وبلورة الأفكار، وعادات الناس، ونقلتهم من حيز ضيق إلى آفاق أرحب؟
تأمل حبات سبحته الثمينة، والتي لا تفارق أصابع يديه، أوقف طقطقة خرزها.. قال.. - «.. أنا الآن أدخل عقدي السادس، وحتى لا تتهمني بأنني عاشق للماضي، فإنني أظل مع من يؤمن بأن سنواته المنصرمة، هي عمر الشباب، والمغامرة والأحلام، وترسيخ الذكريات، وبناء الذات بتحديات العصر الذي يعيش فيه، وأنا مصنف من هذه الفئة، ولكنني أتحفظ بأنها ليست الأكثر ازدهاراً وتحقيقاً للأماني، لأنها مرحلة احتفظت بتسلسلها التاريخي وانجازات أصحابها..
أعتقد أن القضية تدخل مرحلة الإشكالات الكثيرة، وبتجرد عن أي تفسير لما سأقوله، فأرجو أن تتسامح مع نفسك أولاً بأن لا تأخذ الأمور بما تعتقد أنه يجرح كبرياء المجتمع الذي أعيش فيه معكم، ولكنها تصورات أريد أن أزاوج فيها بين رؤية الماضي القريب، والوقت الراهن..
لقد دخلتم الحياة بقفزة مهيلة منذ منتصف السبعينات الميلادية، وحتى الآن.. تحولت الرياض من مصطلح المدينة الصغيرة، أو القرية الكبيرة، إلى أكبر مدينة عربية في الاتساع الأفقي، وفي داخلها امتزج تركيب عجيب من أخلاط بشرية وآليات، وأجهزة تدخل في الضرورات، وأخرى فائض هائل عن الحاجة، وصار التناسب في كثير من الحالات غير متوازن..
صحيح أن التجارة والصناعة، والزراعة، وأعمال المصارف والبنوك والشركات، وغيرها دخلت آفاقاً عصرية هائلة، وصحيح أيضاً أن أعداد كبيرة شغلت وظائف رئيسية في مجالات متعددة، ولكن تظل هذه الرتب والمراتب أقل مما يجب، لأن وظائف التعليم، وهي من بديهيات أي تخطيط، يجب أن تتبع حاجات التنمية التي رسمت لها الاستراتيجية القصيرة، والبعيدة الأجل، لا العكس..
هناك جدل في صحافتكم حول أولويات التعليم، وفيما إذا كانت الحاجة تتجه إلى تقليص التعليم النظري، والاتجاه إلى التعليم الفني، والمهني، وجدل آخر عن سباق محموم على الشهادات العليا في العلوم النظرية والإنسانية البحتة، وهي إشكالات لم يحسمها النظام بحيث تعادل الشهادة أي كانت، تعليمياً، لا وظيفياً بحيث يوقف هذا الزحف الذي استغل امتيازات النظام لتكون الشهادة وحدها مقياس التأهيل للوظيفة..
جدل ثالث يدور بهمس، وأحياناً بصوت مرتفع، عن مقدار الإنتاجية في الوظيفة الحكومية، مقارنة بوظائف الشركات العامة والبنوك والمصانع، وعن أسباب الخلل الذي ضخم هذه المشكلة..
وبصوت مرتفع هناك من يشكو شح الفرص الوظيفية للجامعيين، وما دونهم، في الوقت الذي يتحدث ديوان الخدمة عن كم هائل من الوظائف غير المشغولة، ونجد شاهداً أخر هو أن الوظائف التي تشغل في بعض المؤسسات والشركات في القطاعات الأهلية لم (تسعود)، وندخل أسواقكم، فإذا البائع متعاقد من الداخل أو الخارج لا ندري..
ففي أسواق الخضار، وشبه الأسواق الشعبية والورش، وعمال المباني، وسائقي سيارات الأجرة والحافلات، وسائقي العائلات، والخادمات، وآلاف الوظائف الفنية الأخرى في المستشفيات وإدارات الهاتف، ومصالح المياه والكهرباء تدخل نفس المشكلة في ندرة السعوديين لهذه الوظائف..
حتى الوظيفة التي دخلتها المرأة، تحولت إلى نفس الكم، وسوء الانتاجية، والتوزيع العشوائي، وصارت الأعباء كبيرة بمشاكل المواصلات للزوجة العاملة والزوج الموظف، وقضايا تربية الأطفال، والطلاقات، والتصور بأن الجامعيات غير صالحات لبناء الأسرة الحديثة، وأن المرأة تحولت إلى مستهلك طفيلي فستان بألاف الريالات لحفلة زواج واحدة.. اكتناز هائل للحلي ومفاخرة بأدوات الزينة والعطور، وضرورات السفر للخارج لتتنافس مع زميلتها في الوظيفة بالحديث عن باريس ولندن، ومصحات (بادن بادن) وساحات النمسا التي تعزف بها المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية»!!
قلت..
«أعذرني أن أوضح نقطة هامة، وهو أنك تتعرض للسلبيات فقط في بناء مجتمعنا الحديث، وهي بالقياس لغيرها طبيعية، دون أن تلامس الظروف التي صاحبتها، وتركز على أسبابها؟»
قال مكملاً سياق حديثه السابق.. - «لو كنتم مجتمعاً ساكناً أو بطيء التطور ما حدثت هذه السلبيات، والعبرة هنا ليست بالمنجزات، لأنها الأمر الطبيعي في نهضة أي مجتمع مر بنفس ظروفكم، ولكنني حين أركز على هذه السلبيات لا أحملها طرفاً بعينه..
مثلاً هل يمكن الحد من الإسراف في الزواجات، و(العزائم) وتبديل السيارات والأثاث، وبناء دور السكن الزائدة عن حاجة الأسرة المتوسطة، وغيرها، بأوامر ونظم قسرية، وهل بالإمكان تغيير أنماط الحياة، وكسر بعض العادات التي أصبحت أكبر من القوانين، بسن تشريعات لها؟
سوف أجيب عن الكثير من النقاط، فلو ناقشت أي أب أو أم عن أمالهما لابنهما أو بنتهما، لكان الرد المباشر أن يحمل أي منهما شهادة جامعية، ويحصل على وظيفة، وبيت، ورخاء معقول، وهذه شروط يتفق عليها البشر جميعاً، ولكن هل يدخل هذا في صميم التخطيط الاجتماعي الذي يتناسب وخطط التنمية بحيث يصبح كل مواطن رئيساً على وظيفة، ليحصل على الاسم المعنوي، دون تحقيق العمل الجوهري في نطاق التنمية الوطنية الشاملة؟
دعني من الوظائف، وتعقيداتها القانونية والتشريعية، وتأمل طبيعة الاستهلاك، وقارنه بين الضرورات، والإسراف المضر..
أتمنى أن تدخل سوق (الحراج) فقط لتجعله شاهد على فائض السلع التي تباع بما يشبه الأرقام الأحادية من نقودكم.. ثلاجات، غسالات، أجهزة تلفزيونية، و(إلكترونية) سجاد غرف نوم.. إلخ، فهل مثل هذا الفائض حالة طبيعية..
في الدول المتقدمة هناك أعمار متفاوتة لكل قطعة أثاث في المنزل أو المكتب، ولا يوجد شيء غير قابل للإصلاح والاستمرار، وهنا الاختلاف بين رغبة التجديد، لذاته، وعمر كل قطعة ومدى صلاحيتها للاستعمال.
الفارق هنا بالوعي، لا بموازين الدخول، إذ أن البريطاني، أو الألماني يحقق دخلاً يتفوق على نظيره في دول العالم الثالث بما فيها الدول النفطية، ولكنه يعرف كيف يدخر ويضع مصروفاته وفق حسابات مقننة ومضبوطة..
سألته.. - «من تجربتك كعامل صغير في ورشة، إلى رجل أعمال، ألا تعتقد أن عوامل الصدفة وحدها هي التي قفزت بك إلى هذه المرتبة، وأنه بنفس المنطق الذي تعيش به ظروف غيرك، فإنك جزء من طفرة غير عادية، أنت أحد الذين كسبوا سوقها»؟!
رفع نظارته.. مسح بقية عرق على أرنبة أنفه.. قال: - «لست شاطراً كما تتصور، أو أتفوق بذكائي على غيري، وأكذب لو لم أقل أن الفرصة كانت بالنسبة لي سهلة، ولكن مثل هذه الحالات لا تحدثها المصادفة.
فقد عملت واجتهدت ووفقت بأن أكون على هذه الحال، ولعل جوهر سؤالك يتعرض لقضايا حساسة وأساسية..
أنت تعرف الكثير من المغامرين الذين سقطوا في نفق الإفلاس، وهم بالفعل ممن تنطبق عليهم عوامل الصدفة، إذ أصبح بعض أصحاب الملايين رهن ظروف السجون، والشتات النفسي والعائلي، ومثل هذه تحدث في حالة شبيهة بالظروف التي أحدثتها الطفرة عندكم..
ما أريد أن أنتهى إليه، هو أنني أعترف أن فضائل مجتمعكم كبيرة، ولكن الذي يخيفني، أو يحزنني بشكل مستمر، هو ألا تتضافر عوامل موروثكم الرائع مع قفزتكم الهائلة..
صدقني أنك لا تستطيع أن تجد حتى من بين المجتمعات المتحضرة أن يجلس الخادم مع مخدومه على سفرة واحدة، ولا تجد من يستجيب بعاطفة حادة لعمل إنساني سريع مثلكم، ولكنني، وأنا كما تعرف جزء منكم الآن عائلياً، وعاطفياً، فإنني أضع تصوراتي فقط ضمن سياقها التاريخي الذي عايشته ولهذا فإن انتقاداتي تدخل ميدان حرصي على توازنكم العاطفي والاجتماعي، وكما أريد أن أؤكد فإن مخزونكم الإنساني كبير، ولكنه يحتاج إلى صياغة وانضباط أكثر.. فهل تعتقد أنني قلت ما يوضع في نطاق التصور الصحيح»؟!
قلت.. - «سوف أنقل وجهة نظرك إلى محكمين آخرين، ولعلك تسمح لي بهذا الاعتداء على أرائك ونشرها»؟
صافحني مودعاً، يجر معه عقده الستيني بكل زخم تجاربه، ولحظاته التاريخية، ومعه تلك الرؤية التي تجمع الصراحة مع الواقعية، فهل أنتم معي بأنه حديث مكاشفة صريحة؟ …
التاريخ / الثلاثاء 4 جمادي الأولى 1409هـ – 13 ديسمبر 1988م
0 تعليق