«نحن في عالم متغير، تلك هي الجملة التي تلخص تفاعل البشر مع بعضهم، وكيف أن الإنسان أصبح ابن بيئة واحدة من حيث الأثر والتأثير في سلوكياته، وطبيعة حياته الخاصة، حتى أن مسالة صيانة البيئة نتيجة عوامل التلوث والتسلط على الحياة الفطرية، أصبحت من العوامل التي تهدد كل البشر ولا تقف عند حدود الإهدار الذي تنافست عليه الدول الصناعية باستهلاك المواد الأولية بشكل مفرط، وإنما لتلك الآثار التي أفرزتها المصانع والتقدم التقني في تهديد هذا الكوكب كله..
فالقول بأن البشر يشبهون ساكني عمارة من عدة طوابق، وأن كل أسرة مسئولة عن صيانة سكنها وحمايته من الأعداء، لا ينفي أن الأساسات التي أنشئت عليها تلك العمارة هي مسئولية كل إنسان، وهو ما يتطابق مع حالة كوكبنا الأرضي الصغير، الذي بدأت عوامل الخطر تهدده..
مثل هذه الأفكار هي مجال حوار على مستويات عليا في العالم المتقدم، فإذا كانت الهاجس الذي تتحرك إليه كل القوى، فإن الدوافع لا تخرج عن الشعور بالخطر، ومع ذلك فإن النتائج بطيئة لأن التنافس على الأسواق العالمية، واحتكارها لا يتركان مجالاً بأن تتنازل تلك الدول عن امتيازاتها ورفاه شعوبها، حتى لو كان ذلك يجري عكس القانون الطبيعي للحياة، ويكفي أن المحادثات المستميتة بجعل دول العالم الثالث مقبرة للنفايات الصناعية بما فيها تلك التي تهدد الإنسان وبيئته أصبحت من أخطر المحرمات التي تمارسها تلك الدول..
الذي يعنينا أنه لا يوجد عالم (للمثل) أو النقاء الانساني في ظروف تتحكم فيها أنانيات الشعوب والأفراد، ومن هذا السبب فإن الأمة العربية تدخل ضمن الأمة المحاصرة بتلك المخاطر، وأهمها اتساع الفجوة بيننا وبين من يتنافسون على تحوير الزمن لصالحهم، وعلى حسابنا..
فالقوة الاقتصادية العربية تحاكم عربياً من خلال مفاهيم نظرية تفتقر إلى أدنى التصورات العلمية التي يحكمها جمع المعلومات والدراسات الميدانية التي يمكن تحليلها، وإعطاء نتائج تنطق بالحقيقة وحدها..
ومشروع الأمن السياسي والغذائي، والعسكري وغيرها ترتبط بهاجس الخوف من الطرف العربي اللصيق مع جاره الآخر، حتى أن حقوق المواطنة في بعض البلدان العربية ترتبط بشكل النظام السياسي السائد، دون أي اعتبار للإنسان والأرض والتاريخ، وهو ما قاد إلى عزل الإنسان عن الابتكار والمبادرات الشخصية، وتحقيق مستوى من الأمن الذاتي الذي يوفر له الحماية من أي تسلط أخر..
وما ينطبق على قضايا الأمن، تهدره سياسات التربية والتعليم، والتي لاتزال تركة ثقيلة من التعقيدات الروتينية والتجارب السطحية التي تفتقر إلى أدنى حد من التوافق بين متطلبات التنمية بشكلها العريض، وبين الأساسيات التي تقدم عليها تلك التقاليد التربوية، ونوعيات متخرجيها من الجامعات أو المدارس الثانوية ..
الذي يدعونا إلى هذه المقدمة، هو أن هناك مشروع سلام عربي (إسرائيلي) تتجه إليه المنطقة، وقد يكون تحقيق السلام بعيداً بعض الشيء، وإن كانت هناك رغبة دولية تريد أن تنهي الصراع لتتفرغ لما هو أكثر جدوى لمصالحها القادمة..
(إسرائيل) قوة تقنية تتقدم على العرب جميعاً وحتى لو سلمنا بفرص تقليص سباق التسلح تحت مفاهيم السلام، فان (إسرائيل) سوف ترى الأمور من منظار مغاير لتصوراتنا، بل وهناك من يتصور أن المجتمع (الإسرائيلي) لو قدر له أن يندمج في المنطقة فإنه سيكون مجتمع السيطرة على كل القنوات العربية الاستثمارية، بحيث يصبح تغلغل المؤسسات (الإسرائيلية) شبيهة بتلك التي تسيطر داخل أمريكا وبعض بلدان أوروبا الغربية، بل إن فرص السيطرة أكثر لفارق الثقافة والتقاليد السياسية، والرصيد الخارجي (لإسرائيل) التي تسيطر على البنوك ووسائل الإعلام، ومنافذ الاقتصاد الأخرى، وهو ما يجعل الأمة العربية تدخل مرحلة التحدي الأكبر بين أن تبقى أسيرة ظروفها وتقاليدها، أو التسليم لمعسكر جديد يغزوها بطرق متقدمة تحميه جبهة عالمية كبرى داخل المواقع الحساسة في العالم..
تصور السلام العربي (الإسرائيلي) يقودنا إلى نتيجة أخطر، وهو أن العنصر الصهيوني سيصبح (غيتو) تحكمه أسراره وعنصريته التي ترفض الاندماج في أي مجتمع إلا على أسس عقائدية تعطي التميز العرقي للصهاينة فقط، وهي حالات عايشتها المجتمعات التي جربت عزلة اليهود داخلها، وعيشها في الظل والتآمر على مصالحها باعتبارها جنساً لا ينتمي إلى الفصيلة النقية اليهودية..
(فإسرائيل) تملك من المعلومات عن العرب ضعف ما نعرفه عنها، وحتى استنادها إلى رفض حكومة فلسطينية مقابل (الحكومة الإسرائيلية) حتى لا تتدمر دولتها، ليس منطقياً لأنها الآن محصنة عسكرياً أمام الأمة العربية كلها، فكيف سيهددها شريط حدودي يسكنه بضعة ملايين من الفلسطينيين، والذين يحتاجون إلى زمن طويل في إدارة شؤونهم، وتوفير شروط حياة جديدة تستطيع أن تضعهم في سلم الدولة الناشئة؟
المنطق الآخر أن (إسرائيل) دولة عسكرية تحكمها نوازع السيطرة المطلقة، ولا نظن أنها استبعدت احتمالات نشوء ظروف كالتي تسود الموقف العربي (الإسرائيلي) الآن بتحقيق سلام بينها وبين العرب، وهنا يبرز سؤال آخر.. كيف أعدت (إسرائيل) نفسها لهذا التعايش، وهل ستصبح صاحبة السيادة بواسطة رصيدها العالمي على مقدراتنا الاجتماعية والاقتصادية، ونبقى مجرد عمال من الدرجة الثالثة في مصانعها ومؤسساتها، وهل ستظل تتصاعد قوتها العسكرية، حتى لو أعلنت هدنة طويلة بينها وبين العرب، وشيء آخر.. هل سيكون التأثير السكاني بين الكم العربي والنوع (الإسرائيلي) معادلة في صالحنا في المستقبل البعيد؟
مثل هذه الأسئلة قد تكون استدراكية، وسابقة لوقتها، لأن ترتيب السلام وحده يحتاج إلى زمن طويل، ولكننا في الحصيلة النهائية أمام موقف لابد أن تثار حوله الأسئلة، لأننا نعتقد أن تاريخا من العداوات والحروب سوف تزيله جملة قرارات تباركها الدول الكبرى، وتصادق عليها الأمم المتحدة..
فالشكوك عند الطرفين قوية ومتحكمة في أعماق وجدانهم، وحتى الذين نظروا إلى الموقف بأنه حتمي لصياغة سلام طويل وتعايش أطول، وبنوا أفكارهم بأن تلاقح التقدم (الإسرائيلي) مع الإمكانات العربية الهائلة، سوف يقود المنطقة إلى تكافؤ الفرص، وتقدم هائل، قد يلغي كل الأسباب والرواسب الماضية، وأن (إسرائيل) تحتاج فقط إلى يقين يعطيها فرصة أن تقدم تجربتها التقنية للعرب، لتكون فصيلاً في المعسكر الكبير الذي يضم جميع دول المنطقة..
من يعتقد أن مثل هذه الأفكار قريبة التحقيق، يخطئ تماماً، لأن أمامنا تجربتين لهما حضورهما العالمي في سياق الظروف القائمة..
(فإسرائيل) حققت سلامها مع مصر، دون أن يكون لذلك أي نتائج ايجابية، حتى أن هناك من اعتبره في مصلحة (إسرائيل) التي كسبت من السلام ما وضعها في حيز الدولة النووية والفضائية، وأن الحاجز التاريخي لم ينكسر أو يزيل العداوة بين الشارعين المصري و(الإسرائيلي)..
ونفس المنطق يندرج على واقع جنوب أفريقيا، التي حولت الأكثرية السوداء مجرد حزام للفقراء تحيط به أقلية عنصرية شرسة ترفض كل شروط أو مبادئ التعايش مع الشعب الأصلي..
هناك رأي آخر، يقول إن ميدان العداوات أصبح من مخلفات الماضي، وأن دولاً كثيرة قادت الحروب بمختلف أشكالها، تتجه الآن إلى عمل واحد يحيد النعرات القومية، والمنطلقات الأيدلوجية، وبدورنا نقول إن ذلك صحيح، لأن هناك تكافؤاً بالقوة، كما يحدث الآن بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولكننا أمام (إسرائيل) نفتقر إلى العوامل الموضوعية التي تصلنا إلى التفاعل السريع أو المقبول في المنظور السريع..
ونقول أيضاً إن (الصين) وهي قوة ناشئة لم تتداخل مصالحها مع الغرب، إلا بوجود قوتها الذاتية، والرغبة بأن تكون الحائط المنيع بينها وبين الاتحاد السوفياتي، وأن المصالح الاستراتيجية وحدها هي التي طورت تلك العلاقات دون أن تحول عوامل الشك بأن تتسابق الظروف لقيام تعامل مماثل بين العدوين الشيوعيين الاتحاد السوفياتي، والصين، وهو ما حدث فعلاً، ليبدأ مشوار (الانفتاح) كطريق لاختصار الظروف والأحداث بين القوتين الشرقيتين العظميين..
نعود مرة أخرى بالقول: هل سيخدمنا السلام مع (إسرائيل)، وهل تقبل هي بمثل هذه الحقيقة حيت لو اضطرت إلى ذلك بفعل الضغوط الدولية، والخشية من أن تدفعها (شوفينيتها) إلى اقتراف حماقات عسكرية لا يمكن السيطرة عليها من قبل المجتمع الدولي؟ …
من حيث المظهر السياسي، فان ذلك يخدم السلام العالمي، ويتطابق مع الرغبات الفلسطينية، التي وضعت مسيرة السلام كتحد أوقع (إسرائيل) في ورطة طويلة، ولكن الاستنتاج بأنه يخدم مصالحنا لا يمكن ترجمته بصيغ مباشرة يغلب عليها التفاؤل المطلق..
(فإسرائيل) لا ترتبط بالمنطقة إلا بالحيز الجغرافي الذي استوطنته، إذ أن علاقاتها وسلوكها ينتميان إلى مجتمعات خارجية، وبتحديد أكثر، المجتمعات الغربية، يضاف إلى ذلك أنها لا يمكن أن تتنازل عن طبيعة نزعتها التي تسيطر عليها، وهو حلم سيادتها للمنطقة، وهذا ما يجعلنا نشكك بسهولة تمازجها أو تعاملها مع الشعب العربي، إلا بمميزات لا يمكن تلبيتها بسهولة، ومع ذلك فإننا مع النظرة التي تقول إننا (نعيش في عالم متغير).. فهل نسكن الطابق الواحد في العمارة الانسانية (مع إسرائيل) ونبعد شبح الحرب النووية، أو الغازات السامة التي ترشحنا أن نكون التجربة الثانية بعد مأساة القنابل التي ألقيت على اليابان؟
ذلك أمر صعب، ولكنه يحتاج إلى أزمنة وأجيال، وبصيغة أكثر دقة، نحتاج إلى عوامل الثقة المفقودة الآن، وهي أقسى تجربة سوف تخوضها أجيالنا القادمة.
التاريخ/ الثلاثاء 18 جمادي الأولى 1409هـ – 27 ديسمبر 1988م
0 تعليق