مع أنه شديد الحساسية، فإن صراحته في بعض الأحيان غير محتملة. ولكن استشعاره للمسئولية، هو الذي جعل تلك الشفافية أقسى من الصلب، ذلك أنه يعتبر المواقف الصادقة، المنطق الطبيعي، حتى لو أخل بتوازن العلاقة بين شخصين ينتميان لمجتمع وطبيعة وحياة واحدة.
قال ساخراً من عرق السلالة، وشعوب الحضارات الأولى..
- «نحن العرب ننتمي إلى عالم آسيوي، وشعب سامي، كما تقول الدراسات الجغرافية (والأنثروبولوجية)، وهذا لا يضعنا في قوائم الشعوب المتدنية، ولا يمنحنا التفوق العقلي أو العرقي على بقية شعوب الأرض..
فأحفاد (الفايكونج) من برابرة الشعوب الأوروبية هم الذين قادوا حضارة الإنسان المعاصر، وبترجمة بسيطة نستطيع أن نؤكد أن تميزهم الوحيد عن غيرهم هو أنهم حسموا مشاكلهم العرقية والقومية وصاغوا سلوكاً عقلياً أبعدهم عن صراعات الكنيسة والإقليمية الضيقة، وتحولت العواطف إلى برامج عمل منظم وقاس، وهي تربية وضعت معايير القوة كسلطان عقلي، في الوقت الذي نجد شعوباً كثيرة لا تزال تجتر أحداثها وأساطيرها وتواجه الظروف بحلول ميتافيزيقية، هي أقرب إلى الانهيارات العقلية منها إلى الموضوعية والواقعية..
قلت.. - «ولكن من تسميهم قادة الحضارة، هم الذين جندوا علومهم التقنية في حربين مدمرتين، حتى قيل إنه لو قدر (لهتلر) أن يسبق أمريكا بالوصول إلى السلاح الذري لضرب القوتين العظميين في وقتنا الراهن، وصار سيد العالم بدون منازع، وهذا يضع كلمة العقلانية بين قوسين كبيرين، إذ أن ترجمة السلوك العدواني إلى عملية إفناء بشري باسم قانون السيادة، هي عملية تنتمي إلى العصور المنحطة، وإن اختلفت وسائل الدمار وفلسفة العصر التي نشأت بها..
قال مقاطعاً.. - «.. حتى ما تعتبره خروجاً عن القاعدة العقلية في قيادة الحروب، وبشكل خاص الحرب العالمية الثانية، فان لها مضمونها العقلي، وحساباتها الواقعية، وهو ما لم تشر إليه أي دراسة سياسية معاصرة..
ألمانيا قادت الحرب لأنها استشعرت أن الزمن الأوروبي ولى، وأن الوريث القادم سوف يكون الإتحاد السوفياتي بأجزائه الآسيوية، والأوروبية، وأن أمريكا التي لا تنتمي إلى الواقع الأوروبي إلا بما حصلت إليه من إنجازات حضارية عمادها اللغة التي اكتسبتها من الاستعمار الإنجليزي، هي القوة الثانية، ولذلك كانت ألمانيا تريد أن تسابق الزمن في الحصول على زعامة كونية قد تكون صورتها غير واضحة عند الإنجليز أو الفرنسيين مثلاً، ولعل نفس التصور، هو الذي قاد اليابان كدولة في أقصى آسيا اعتمدت سياسة الغزو والهيمنة على جيرانها، أن تتحالف مع ألمانيا وتتحمل الهزيمة القاسية وتجربة أول قنبلتين تسقطان على أرضها..
لكن دعنا من مآسي الحروب وويلاتها، وننظر فقط إلى أن الدولتين المهزومتين، هما الآن القوتان الاقتصاديتان العظميان في أوروبا وآسيا، وهو تطلع لم تدركه بقية الدول الأخرى إلا مؤخراً، وهذا سر آخر في عبقرية الشعبين الألماني والياباني»..
قلت.. - «قد يكون لتحليلك منطقة، ولكنك لا تخفى إعجابك بالسلالات الجرمانية، واليابانية أصحاب هذه المعجزة الحضارية مع أن الذين يهتمون بالدراسات المستقبلية، يضعون احتمال أن انهيار هاتين القوتين سهل، لأن مجالهما الحيوي ضيق ولا يتناسب وطموحات شعوبهما، ويدللون على ذلك أن ألمانيا قد تستطيع التغلب على مصاعبها بدخولها الوحدة الأوروبية التي تتحمس لها، ولكن اليابان ليست بالصورة التي تمكنها أن تندمج في وحدة قارية مع شعوب جنوب شرق آسيا أو مع الصين مثلاً، لأسباب لا تتوفر لها مثلما تتوفر لألمانيا»..
رد قائلاً.. - «والذين توصلوا إلى نتائج باهرة في سباق محموم في أسواق العالم، رغم الهيمنة العسكرية والسياسية للقوى العظمى، لا يمكنهم التخلف عن دراسة المستقبل، ولعلك تفهم أن اليابان تقود الآن طريقاً آخر، وهو أنها أصبحت شريكاً مباشراً داخل الصناعات الأوروبية والأمريكية ودخولها هذه الهياكل يجعلها سلطة خفية داخل البنية الأساسية لهذه القوى، وعملية المشاركة تعتبر درعاً للمستقبل، وإلا فإن العداوات التاريخية بين العقلين الأسيوي والغربي لا يمكن أن تزيلها الظروف المرنة الراهنة ولكن الوعي بحقائق المستقبل جعل اليابان تتحدث بمصالح لا بعداوات»..
قلت.. - «وإذا كانت السيادة على العالم سوف تكون أرقام ومنتجات، وتراكم احتياطيات كبيرة، فكيف سنجد أنفسنا داخل هذه المعركة الحادة، وهل سيكون للعالم الثالث، وتحديدا الأمة العربية موقعاً معقولاً بين صراع الفيلة» …؟
قال.. - «والمسألة هنا مختلفة إذ أن استراتيجية المصالح المهيمنة، قد تقود إلى سيطرة أخطر وهو أن الأمة العربية تعتبر أحد مراكز التنافس الخطيرة بين قوى الجذب العالمي، ونحن حتى الآن لم ندرك كيف نتعامل مع ظروفنا، ولا مع ديناميكية وسرعة التقدم العلمي..
التحديات تتعلق بالعقل وحده، ونحن إذا كنا في الماضي استطعنا أن ندمج حضارتي فارس والروم في عملية حضارية شاملة ذات هوية عربية، فإننا الآن نتأخر كل يوم عن المنجز الحضاري البشري، بدليل أننا الآن مجموعة خامات أولية تصدر إلى الخارج دون فعل أو تفاعل حتى مع الفكر أو الثقافة..
فالماضي هو الذي يشكل حضوره، وهو الهاجس الذي استوطن حدود عقلنا ووجودنا، وهذا الماضي لم يستوف حق الدراسة والتعليل بحيث يخرج من قوالبه التقليدية ليصبح أداة عملية للحاضر، ولعل شعوب العالم القديم هي التي تعيش هذه العقدة، كنوع من التحصن ضد العدو الأسطوري الذي يواجهها في الصحوة والمنام..
يضاف إلى هذا أننا مركز مثالي لنوازع القلق والحيرة، والقمع السياسي والإنساني، وهي عوامل لا يمكن أن تعيش في ظلها حركة وجود مستقل قادر على العطاء والإنجاز
فالصورة السياسية للأمة العربية، مقرونة بحالات الاستثارة والانفعال، بحيث يسيطر على أفعالنا الحدث الآني. ونعلل ظروفه بجملة ردود متباينة لا تستقيم على منطق أو تحليل واقعي، ولعل مرد ذلك أن الكيانات العربية ظلت معزولة عن بعضها بحكم طبيعة منهج كل قيادة سياسية، وهذا هو الذي وفر على غيرنا قيمة استهلاك مواقفنا بأبسط وأقسط الظروف الزمنية..
فغياب خطط الاقتصاد، والتربية، والتنسيق السياسي والعسكري، عوامل تُركت فقط للتتابع الزمني، وهو لا يعطي أي حل في غياب الإرادة التي تخطط وتفعل، ويكفي أن أحداث العشرين سنة الماضية كشفت عن عجز فاضح قادنا إلى أخطر المواقف ووضعنا في حالة اضطراب قومي وإن صح التعبير، دون أن نستثمر هذا العجز في إطار مشترك يضعنا في حلقة الحلف الواحد أمام المخاطر الكبيرة»..
قلت.. - «كل ما قلته هو ما نعرفه جميعاً، بدءاً من صانع القرار السياسي، وأخر فرد في السلم الاجتماعي، ومع ذلك ظل افتقارنا إلى الشجاعة الأدبية ومواجهة الذات، يحتمي بذلك الموروث من علل التاريخ، وكان العقل العربي في متحف تقادم عليه الزمن، وغير قابل للحوار والانعتاق من ذلك الأسر الكبير»..
رد بهدوء.. - «تلك قضية متشابكة لا يمكن حصرها بظروف أو عوامل طارئة، وإنما هي مسألة أمة لابد أن تخرج من الحجر التاريخي، أو تموت على قارعة الحضارة الإنسانية وفي كل الأحوال فنحن أمة مستنفرة، وقد لا يصدق علينا معيار الإفلاس الحضاري، وإلا ماتت في نفوسنا كل قيم الإنسان»..
• • •
في المسألة الثقافية
هل مطلوب من العالم في الكيمياء، أو الهندسة، أو الطب، أن يكون صاحب متون في اللغة، وعالم تاريخ وفلسفة إنسانية؟
دعونا نأخذ أستاذ الجامعة، ومدرس المراحل المتوسطة، وهما المرتكز الأول في تعليمنا أساليب الثقافة وتنمية شروطها.
فالأستاذ الجامعي يواجه الطالب الذي هو في مرحلة النضج، وعلى هذا الأساس، لابد أن تكون أدوات التوصيل التي يملكها قادرة على التعبير بشكل سهل عن الاختصاص الذي يريد أن يحاضر فيه، ومن هنا لابد أن تكون وسيلته الثقافية مقرونة بقدرة معارفه اللغوية، ومعلوماته العامة، وإلا أصبح رجلاً تجريدياً يحفظ المعادلات والنصوص لذاته فقط، ولا يستطيع إغلاق الفجوة بينه وبين الطالب الذي يريد أن يحصل من أستاذه على فهم مشترك يصل معلوماته بمعلومات وتجارب أستاذه..
نفس الواقع يتطابق مع مدارس التعليم العام الذي يتخاطب مع مرحلتي الطفولة والشباب، وهما قنوات الاتصال بكينونة الحياة العامة والمجتمع الكبير، وتجاربهما..
لكننا لو وضعنا هذا المعادل في نطاق الباحث المتخصص، الذي يجيد التعبير بشكل علمي عن اختصاصه، وصياغة لغة مكتوبة واضحة، هل نطالبه بأن يكون ذا حضور تلقائي يجسد ثقافته الواسعة على حساب اختصاصه العلمي، بمعنى أن يكون خطيباً ومحاوراً جيداً؟
أعتقد أن عملية الاختصاص مشكلة معقدة، لأن من يجلس مثلاً بين المعامل يحلل ويضع المعادلات الرياضية، ويسعى لاكتشاف أو استحداث علم ما يختلف عن رجل يتفرغ لحفظ تلك المعادلات دون أن يدخل حقل المعامل والتجارب، حتى لو أطلقنا عليه رجل علم..
الثقافة مطلب ذاتي، ولكنها لا تتحقق وفقاً لمنظور قدرة إنسان ما على السيطرة على الآخر بمجرد أن يكون مخزونه من المعارف أكبر من غيره..
فأخذ شريحة من كل علم، ألغاه الزمن الراهن، لتصبح مراكز البحث والفرق العلمية أو الفكرية هي التي تعطي النتائج وحدها..
نبقى على حد آخر من الثقافة، وهي تلك التي ترتبط بالإبداع والقدرة على تجاوز الزمان والمكان بصورة تلقائية.. وهنا نستطيع القول إن المساحة مختلفة الاتساع بين طرفين أحدهما يتعامل مع معادلة رياضية، وآخر مع أفق روحي جمالي، وحتى في هذين المجالين نعتقد أن الاختصاص أصبح سمة عصرية.. فهل نحتاج إلى رجل العلم المثقف.. أم رجل العلم المختص فقط؟
الحدود صعبة، فهل نستطيع القبول بالجمع أو التفريق بين الطرفين وسط ظروف معقدة وصعبة في هذا العصر؟
.. شخصياً.. لا أدرى!
التاريخ / الثلاثاء غرة رجب 1409هـ – 7 فبراير 1989م
0 تعليق