في «المشراق» وبجلسة هادئة، كان الجد يستعرض تلك الأزقة و «المجابیب» النخلة التي تتعارك عسبانها مع جدار الطين، و «مركاب، مهمل في طرف «الحوش» قربة معلقة على قنارة في الفي، و «صخلة» تعاني من الفطام، تثغي بحزن على ضرع أمها المكموم..
قال متحدثاً بما يشبه الألغاز.. يطرح أسئلة على أحفاده الذين تحلقوا حوله سأل الجد الحفيد الأول:
- «هل تعرف عظيم لاح»؟
قال الأول.. - «ساندوتش في هرفي»..
علق الثاني.. - «أغنية لطلال مداح»..
البنت الصغيرة عقبت ضاحكة.. - «فستان» في معرض الجوهرة الصفراء»!
همهم الشيخ.. كيف يشرح لأطفال أبنائه لعبة قديمة.. قال محدثاً نفسه، العيب مشترك، المؤرخون، ومعدو البرامج، والتلفزيون هم السبب.. كيف تندثر أجزاء من تراث يعتبر حلقة في حياتنا الماضية القريبة بإهمال مطلق من هذه الجهات مجتمعة؟
قالت الصغيرة.. - «غضبت باجدي»؟
استدرك أنه سرح خارج أفلاكهم.. رد.. - «.. عظيم لاح ليست (سندوتشات) أو أغاني، أو علامة تجارية.. إنها ذكريات لألعاب جدكم الشيخ»..
تحدث الشاب الذي يشعر أنه الأكثر استيعاباً واهتماماً بحكايا جده.. - «ألا تروي لنا اللعبة»؟
- «إنها لا تصلح للرواية، بل للتطبيق العملي، ولذلك لابد من مجموعة من الشيوخ أمثالي يقومون بالدور»..
علق الآخر.. - «يعني أننا لا نصلح للقيام باللعبة»؟
بعد صمت.. قال الجد.. - «تصلح لكل الأجيال، ولكن لابد من تدريب لكم.. نسيت أن أقول إنها في وسط أحيائكم الجديدة المضاءة تفقد سرها، لأنها لعبة من شروطها أن يكون الزقاق مظلماً»..
علق الحفيد الثاني.. - «… لأن ما عندكم كهرباء»؟
يضحك الشيخ.. - «وبيوتنا طين، ونأكل الجراد، والضبان.. ونسبح بالقلبان والجوابي»..
تصرخ الصغيرة ضاحكة.. - «القلبان.. والجوابي»!!
يدير الجد ناظريه في أحفاده.. الكبار لا يعقلون لأنه يتكلم بلغة لا يستطيعون فهمها، يكسر الشيخ الصمت. - «من القليب نملأ قربتنا التي هي براداتنا، وأحسنها الشنَّة والصميل الذي نمخض فيه اللبن، وندبغه (بالعرن) والأرطا ليعطي اللبن نكهة خاصة»..
يتضايق الحفيد الأوسط يتكلم.. - «مدرس الرياضيات أفصح منك في الكلام يا جدي.. عرن، وأرطا، وشنة.. لو طرحت مثل هذه الكلمات في مسابقة تلفزيونية واشترطت سناً متوسطة معينة، ما أجاب عليها أي فرد»!
- «وهل هذا ذنب جدكم.. أو ذنب مدارسكم وتمثيلياتكم»؟!
يعلق الأكبر.. - «كل بلد في العالم يسترد تراثه، ويحاول أن يجعله في المناسبات الوطنية والأعياد، جزءاً من حلقة مستمرة مع الأجيال اللاحقة..
قال الجد معلقاً. - «صحيح.. لقد كانت فرحتي كبيرة حين عرض قبل سنوات مشاهد لهذه الألعاب من أحد أندية سدير، وكان سروري أكثر أن ملعب الملز هو الذي كان ميدانها، وكان التأثير كبيراً، لكن الفكرة ماتت بعد المشهد الأول»..
الصغيرة تسال.. - والأبلة يا جدي تعلمكم النشيد»؟
- «المطوّع هو الذي يعلمنا، والأناشيد نعرفها من أمهاتنا وجداتنا»..
تسأله ثانية.. - «.. وهل تحفظ أنشودة»؟
يضحك.. يحدث نفسه.. - «صرنا في برنامج أطفال أبلة، «وسيستر»
يجيب… - «أناشيدنا أفضل من خرابيط حكي معلماتكم».
أمي حفظتني..
يا حمام زارني وش بدلك وارني
داري بحي البنات والبنات مزينات
والثانية…
حدارجا بدارجا كم فريخ دارجا
والحمرة والزمرة يا عم يا أبا الحصين
كم بقي على عيد رمضان سبعة أيام تمام»
تقاطعه الصغيرة.. - «.. وتعرف تلحنها يا جدي»؟
- «لحنوها الأولين قبلي»..
الحفيد الأوسط يجتذبه الحديث.. يسأل الشيخ.. - «نحن لدينا ألعاب إلكترونية، والصغار منا لهم طائرات وسيارات، وقرود ترقص، فهل كانت لكم تسلياتكم»؟
يسرح الجد مع (المجابيب) كيف كان يركض حافياً، وفي تلك الحواري يستعرض شريطاً قديماً لحلقات الأطفال يصرخون بفرح عند انتصارهم (بالكعابة والحاحة).. يستدرك.. - «نعم نتسلى بلعبة أم خطوط، وأم تسع، وشريخ الشرخ، وطرا – طار»!!
يهمس الأوسط بأذن أخيه.. - «هاذي ألعاب جن، وحكي عفاريت»!!
يتجاهل الجد التعليق.. يسحب ساعة الجيب.. كانت الحادية عشرة والنصف قالت الصغيرة.. - «حتى ساعتك يا جدي من شغل الأولين»؟
- «.. والحذيان، والبشوت، ولسان جدك الذي لا يعرف النطق بالتوقيت الزوالي»..
قالت الجدة معلقة على الحوار.. - «شايب مخرف.. تعوذ من الشيطان وخلْ القرعا، وأم قرون.. تحكي عن شريخ الشرخ.. وأم خطوط.. ونسيت زمانك.. عشاك قرع، وغداك أقط وتمر ولحم فاطر»..
يرد ساخراً. - «… لا ومثلك ينقش الحنا بكف حسين.. نسيتي غرابيلي معك.. مشاط رأسك وإلا فلوح يديك ورجليك اللي تدهنيهن بالودك.. أما ما شاء الله سبحانه طولك وزين حلاياك ما عليهن انتقاد»!
تسكت.. تلوك غضبها الحار.. ترد - «عقدتنا، وعقدت عيالنا.. أسكن بيت طين، وبدل الكنديشن بمهفة، واللمبة بسراج تنك، والمرسيدس بحمار خكري»!
قال معلقاً.. - «…وبدال العجوز الثرما، بنت أم عشرين، عسانا نتعوض باقي الدنيا، نحطها بفلة وحديقة وخدامة وسواق، وبدال البناجر والخصور، طقوم ألماس، وثياب حرير وفراشة ريش نعام»..
قالت متبرمة.. - «وقحّة الشايب، ومرض الركب، وعيونه الشهب اللي تقل عيون ضحية.. وش تسوي بها، أو تصير أم عشرين خدامه تصخن الما والملح لشواظي رجليك؟!
يقاطعها.. - «يكفيني الوناسة.. جلسة مع صوت عصفور، ولا نعيب غراب مثلك، وسلهمة عيون ما يقطع جفونهن الكحل والشب» …
قال الحفيد الأوسط، والذي لم يتعود على هذا الجدل الساخن.. - «يا جدي لو سجلنا كلماتكم لصارت مسرحية»؟
بادره الشيخ ضاحكاً.. - «.. وما فيه أحسن من جدتك للتلفزيون.. تطرد النعاس عن الطلبة اللي يذاكرون دروسهم، وتصد نفس الجيعان، وتقلب كبد الشبعان»..
قالت الجدة.. - «.. وحتى عند عيالي تسبني.. شف روحك، صرت مثل باقي صرة الكراث، ريحة شينة وطعم مر»..
قالت الصغيرة.. - «جدي يعرف الأغاني، والألعاب، وجدتي مثل خدامة مدرستنا ما تعرف إلا تهاوش وتلجلج»!
صرخت العجوز بوجه الصغيرة.. - «طالعت لجدك.. بنت العقرب جدها حنش»..
يضحك الأحفاد..
قال الجد.. - «تصبحون على خير»!
التاريخ / الثلاثاء 17 رمضان 1408هـ – 3 مايو 1988م
0 تعليق