»الشويعر الجعفي» هو من تشرفنا بأن يكون صاحب الاسم الجديد لزقاقنا، ولأنني لا أدرى ما هويته أو نوع حرفته، ولا بأي عصر كان، فقد حاولت أن أتجاوز هذه الشكليات لأستضيفه في حوار طويل، وحديث لا يخلو من الغرابة.
شاهدته بردائه الفضفاض، وعمته المزينة بشكل متناسق، كانت يده تقبض على قطعة جلد تداخلت على سطحها مجموعة من الرموز، كتبت بالخط الكوفي.. ظل واقفاً يتأمل اللوحة التي نقش عليها اسمه.. فرك عينه اليسرى، مسَّد لحيته، وقبل أن ينتبه إليَّ قال بلغة فصيحة.. – «أين وديانكم، مراتع غزلانكم.. بيوت شعركم وقبائلكم»..
قاطعته..
- «ذهبت بين هذه المنازل، في الأسمنت، والأسفلت، والأسوار العالية، ومصابيح الكهرباء، وخطوط الهاتف والمياه، والمجاري.. والبشر في المصانع، والوظائف، والمزارع»..
لف طرف ردائه.. ساوى بين قدميه في وقفة جادة وكمن يسترجع حلماً سحيقاً، واصل أسئلته.. - «.. وخيولكم أين هي»؟
- «في الاصطبلات، للزينة والسباقات»..
- «وإبلكم.. وأغنامكم»؟
- «في الحظائر للتسمين والتكاثر، ومن ثم للمسالخ الحديثة»..
- «وسيوفكم، ورماحكم، ودروعكم»؟
- «في المتاحف»..
- «ومدارس اللغة في البصرة، والكوفة، وشعراء الجاهلية، وبني أمية والعباسيون»؟
- «في الجامعات ودور الكتب، ومتاحف العالم المتقدم»..
- «أفهم أنكم أمة ضعيفة متكسرة، وإلا بماذا تقصد بالعالم المتقدم»؟
- «والذين بنوا المصانع وترسانات السلاح، وقادوا معركة الحضارة الجديدة بأسس خرقت نواميس الطبيعة»..
قال مستدركاً.. - «.. ولكنكم الأسبق في تعريف العلوم والشرائع، وفقه اللغة؟
- «.. ذلك ما يقوله التاريخ الذي نقرأه، ونعلمه لأبنائنا عن الماضي التليد، والعز الذي لا يبيد»!!
- «فيما يخصنا لم يكن لدينا ما نبحث عنه في الماضي، إلا ما يتعلق بمجموعة من القيم، جعلناها هدفاً لخطواتنا اللاحقة»؟
- «القضية ليست عقدة، ولكنه احتماء من الخوف، ورهبة من صراع جديد على الهوية والثقافة والتراث»..
- «… وما يجعلكم لا تثقون بأنفسكم وحاضركم» …؟
- «.. غيابنا عن الواقع، وتفسيرنا للحياة بمجموعة أوهام ومخاوف، وسوء تقدير لصراع الزمن، وتفاوت القوي»..
- «.. هذه الصناديق من الحديد التي تقف عند أبوابكم»؟
- «.. سيارات للتنقل وقطع المسافات الطويلة»..
- «وتلك التي تضعها في معصمك»؟
- «يسمونها ساعة لضبط الوقت والمواعيد، والشهر واليوم»..
- «.. إذن أنتم على علاقة بالزمن كعرب جدد»؟
- «بواسطة الهاتف، والتلفزيون، وما تبثه الأقمار الصناعية»..
صمت.. حاول أن يفهم ما أقول.. هاتف وتلفزيون، وأقمار صناعية، وحتى يتلافى الحرج قال.. - «وحدود ممالككم العربية والإسلامية»؟
- «تبدلت الخرائط، وتمزقت الحدود، رغم أنك تستطيع من خلال هذا السلك المعدني الصغير الذي يجاور مقعدك، أن تهاتف الصين، وأمريكا، أو أي جزيرة في أي محيط»..
- «والأندلس»؟
- «تسمى جنوب إسبانيا، مركز سياحي لشعوب العالم، تعجبهم نقوشكم، وهندسة عمارتكم، ويقرأون على حوائط قصر الحمراء كلمة «لا غالب إلا الله» التي بقيت من ذكرياتكم»..
- «.. والقحطانيون، والعدنانيون»؟
- «لكل فرد منهم هوية وجنسية، وجواز سفر، وزي خاص، وضمير مستتر»!!
أتعبه الحديث، والمفارقات التي لا يدري كيف حدثت، ولا يعلم السبب لحضوره الشاذ في هذه اللحظة الزمنية المعقدة..
قال.. - «هل لي بجغمة لبن أطفئ بها حرارة جوكم»؟
قلت.. - «إنه بهذه العلبة من الورق التي أمامك»!
- «… وصملانكم، وقربكم»؟
- «تعدها المصانع مقاعد، وأحذية، وملابس»..
استدرك.. - «عفواً.. ولكن أين آباركم التي تشرب منها القطعان والناس»؟
- «… في هذه الأنابيب.. افتح هذا الصنبور واشرب وتوضأ، وإذا أردت أن تغتسل فادخل هذا الحمام»
• • •
مال على مقعده، فتش بين ثيابه عن شيء مفقود.. قال وهو يناولني قطعة معدنية.. - «… اذهب فاشترِ لنا بهذه القطعة ثريداً وتمراً، وحلوى»..
راعه استغرابي، وابتسامتي.. عقب بصوت حاد.. - قلت لك اذهب للخان الذي بجوارنا، وهاتِ ما طلبت..
قلت.. - «نقودك مكانها المتحف، لأن عملتنا من ورق، وبطاقات، وأرقام سرية، وأرصدة مكشوفة، وعالم المصارف والبنوك ترتبط بدوائر عالمية، ومضاربات لا يتسع الوقت للحديث عنها»..
- «.. وكيف حال دجلة والفرات، والنيل وبردى، والعاصي»؟
- «تشكو نضوب الماء»..
- «… وبحور الظلمات والعواصف، وبحر العرب، والبحر الميت»؟!
- «تغيرت أسماؤها، وأصبحت قواعد لحاملات الطائرات، والغواصات، وبواخر التجارة»..
- «… تقصد أنها لقوتكم، وتحت سيطرتكم»؟
- «لا.. إنها مياه دولية تتقاسمها القوى العظمى مالكة وسائل الدمار والفناء، والسيطرة على العالم»..
- «… ومن هؤلاء»؟
- «الروس والأمريكان وحلفاؤهما»..
فتح رقعة الجلد التي بيده، جذب قلما من القصب، حاول أن يحدد على خارطته هذه الأسماء التي لم يسمع بها.. الروس.. والأمريكان..
سأل.. - «لم أجدهما على هذه الخارطة التي كانت دليلي إليكم»..
قلت.. - «أمريكا تسمى العالم الجديد، وهي اكتشاف حديث لقارة لم تكن في أطالسكم.. والروس مملكة صغيرة، تنامت واتسعت لتصبح أكبر مساحة كونية تسيطر عليها حكومة مركزية في الأرض»..
رن الهاتف.. المتكلم كان أوروبياً.. طالت المكالمة في حوار طويل وساخن.. «والشويعر الجعفي» يقرأ في ملامح وجهي هذا الاهتمام المتزايد.. بالأرقام وأسماء النقود والتحويلات، وشركات التأمين.. تماماً كأنه يسمع حوارة بلغة الأساطير أو أقوام اندثروا..
حملق بمصدر الهواء البارد، أدار عينيه على السقوف.. والمقاعد، شاهد شاشة التلفزيون، ومفاتيح الكهرباء.. تناول كتاب «العقد الفريد» لعله يجد فيه تسلية.. قاطعته قائلاً.. - «إنها صفقة تجارية ستصل الأسبوع القادم بالطائرة.. مجموعة آلات تصوير، وساعات وأجهزة (راديو) وتلفزيون»
- «دعني من البضاعة التي لا أدرى معناها أو نوعها.. ولكن كيف تقول إنها سوف تصل الأسبوع القادم، والمسافة بينكم، وبين الأندلس وحدها تحتاج إلى سفر شهور طويلة، وزاد أكثر»؟
- «تقلصت المسافات، وتداخلت القارات، وصار ما يحدث في أمريكا تستطيع أن تعرفه آسيا، ولو كان انقلاب شاحنة، أو عملية جراحية لقط سيامي»..
- «ومن يضبط مسارات طائراتكم، وسياراتكم، وحسابات بنوككم، ومداخل ومخارج أقطاركم ومروركم»؟
- «أنظمة متفق عليها دولياً، تراقب أدق الحركات، وأصغر الأرقام، وكذلك شركات التأمين على الأشخاص والبضائع..
أما الطرقات في المدن فهي تخضع لإشارات ضوئية تراقبها رادارات لأي مخالف، قد يخل بالنظام ليدفع فدية عالية»..
قاطعني متسائلاً.. - «لا تلمني على كثرة أسئلتي، لأن ما أراه مخالف تماماً لنظام حياتنا الذي اعتدناه وتأقلمنا معه وهناك فاصل تاريخي وزمني بيننا، ولكنني أرى أنكم تفتقدون ذلك اليقين الذي عرفناه.. سامرنا القمر والنجوم، وصيد حمار الوحش، وسحر كلمات القصيدة، في وقت ألاحظ أنكم محاطون بسياجات خرساناتكم تتابعون الأرقام الفلكية ورعب الأسلحة ومخاطر الكوارث والحروب»..
قلت معقباً.. - «إنها مسألة أجيال وحضارات وكشوفات علمية سريعة، ولهذا فان إنسان اليوم تأقلم مع عصره حتى بقلقه واحتمالاته الصعبة، ولكنه مستمر بالبناء، وما نخشاه نحن كعرب أن تتفرد القوى العظمى بسلطة كونية، ويصبح مكاننا في الهامش الحضاري ما لم نستدرك واقعنا ومستقبلنا»..
فجأة وبدون مقدمات خرج «ابن الدجاجي» صاحب الشارع المتقاطع مع طريقنا.. قال موجهاً حديثه لـ «الشويعر الجعفي».. - «ألا تلاحظ أننا في عالم لا يناسبنا عصره ومعالمه»؟
رد.. - «اتفق معك.. ولكن استدعاءنا لهذا التكريم، ظاهرة مهمة ورائعة من أجيالنا اللاحقة، ومعنى يؤدي للتواصل وعدم القطيعة بين أصحاب الأرومة الواحدة»..
عقب «ابن الدجاجي» ساخراً.. - «اذن اخلع عليهم حلتك، وأجزهم بألف ألف دينار»..
عاجله الجعفي بنفس السخرية: - «دنانيرك لا تصلح في سلة عملاتهم ومبادلاتهم التجارية، ولعل هذا ما يجعلنا نسقط في كل امتحان ندخله، لأنهم تجاوزوا حلقاتنا المغلقة، وأقاموا هيكل حياة لا تناسبنا»
ثم كانت المفاجأة، فقد تبخر الاثنان، وكان حلماً أفقت منه على صوت آخر فصل تمثيلي ينقله المذياع الذي تركته مجاوراً لفراشي دون إغلاق …
التاريخ/ الثلاثاء 23 شوال 1408هـ – 7 يونيو 1988
0 تعليق