«غاشم» ونظرية الظروف المرنة!

حروف وأفكار | 0 تعليقات

كأحد الطلاسم الخفية ظلت شخصية (سعادة مدير عام الشركة) لغزاً محيراً، قالوا إن لمكتبه أكثر من باب يؤدي إلى المكاتب الأخرى، وأن أجهزة معقدة جداً استوردها ليعرف همسات الأفراد العاملين معه، ودرجات ضغط الدم في شرايينهم، وروائح أفواههم وملابسهم..
آخرون من طبقة صغار الموظفين والحرفيين، وبعض المستخدمين ينظرون إليه بخشية مطلقة، باعتقاد أنه يستخدم أسراراً، يقال إنه اطلع عليها وتعلمها من ساحر هندي.
تعليل آخر يرى أنه خلق دائرة ضخمة من الجواسيس بحيث أن كل موظف صار يشك بزميله الآخر، حتى الكلام عن أسعار الأراضي، وكميات الخضار، ونسبة تلوث الجو ممنوعة، لأنه قد يرى سعادته أنها شفرة يعسر عليه تفكيكها، ومن هنا يأتي العقاب لأي موظف لا يلتزم الحديث بشؤون الوظيفة وحدها، وبأقصى قدر من الاختصار، والحيطة.

«غاشم» الفراش وحده الذي يستقبله عند الباب الخارجي للشركة، بفتح باب سيارته، يتناول عباءته عند باب المكتب ليضعها على (العلاقة)، ينظم أوراقه، يعرف حبات «السكرين» التي يضعها بنسب خاصة في كأس الشاي، يمارس عادة السلام الهامس عند الصباح حين الاستقبال لسعادته، والوداع، بعد الظهر، حين الخروج إلى البيت..
السنوات الطويلة في معاشرة «غاشم» لسعادته علمته كيف يدق الباب عند أي حاجة يطلبها المدير العام، ينحني، يبتسم بكفاءة بشوشة خاصة، يتفقد أزارير ثوبه حتى لا يظهر أي خلل في هندامه، يضع روائح عطرية تنسجم مع مزاج سعادة المدير..
سعادته، أعلن أن يوم الاثنين من كل نصف شهر اجتماع لمديري الإدارات، إلا في حالات أن يكون غائباً في إجازة أو أي سبب شخصي أو إداري، فإنه لا يجوز لأي نائب آخر أن يأخذ هذه الميزة، وقد يسمح بشكل استثنائي أن يجتمع كل أعضاء إدارة على حدة وترفع التقارير الدورية لمكتبه الخاص، دون أن يطلع عليها أي موظف، لأنه يجب وصولها مختومة بالشمع الأحمر ضماناً لأسرار المهنة.
قبل أي اجتماع تتواتر الأسئلة على «غاشم» هل سعادته ابتسم اليوم، شرب النعناع، أم الشاي، لبس حذاءه الأسود، أم البني، تلقى مكالمة هادئة أم صاخبة من المنزل أو دائرة أخرى.. هل رد عليك عند الصباح بكلمة شكراً، أم أشاح بوجهه عنك حتى لا يراك؟
ولأن «غاشم» يعتبر المقياس لأقصى درجات مد سعادته، وأدني الجزر، فانه يعرف كيف يتلاعب بأعصاب أعضاء الاجتماع، وأحياناً بناءً على رغبات محددة من سعادة المدير العام يذيع بعض الأخبار غير المتوقعة، والتي قد يصدق بعض منها.
الموظفون يعتبرون «غاشم» وحده الساحر الحقيقي، لأنه لم يقع في أي خطأ، بل إن إشاعة سرت بكل الإدارات والمكاتب، أنه توسط لمدير إحدى الإدارات في زيادة مرتبه، ورفع درجتين دون معرفة الأسباب، أو الحيثيات، اللهم إلا أن لغاشم دوراً في تلك الترقية..
في الاجتماع المعتاد، وعلى الطاولة البيضاوية، التي صفت عليها الأقلام، والدفاتر وعلب مناديل الورق، اعتاد المديرين أن يسمعوا باحترام جم التعليمات والتوصيات دون مقاطعة أو حتى نحنحة أو تطقيق أصابع، أو التفاتة للباب الخارجي، حين يكون «غاشم» كشغالة النحل بسكب الشاي في الكؤوس، أو ينحني أمام سعادة المدير العام ليهمس في أذنه عن مكالمة خارجية
تحدث مرة سعادته عن تكافؤ الفرص، والمرونة بالعمل، والحوافز المادية والمعنوية، فقد قرأ عن نظرية (Z) في الإدارة اليابانية، وأنه لابد من تطبيق أجزاء منها تناسب حركة التطور التي تنشدها الشركة..
الجميع قال بعظمة هذا القرار، ولأول مرة تفلت تلك التعليقات من عبقرية سعادة المدير العام..
قال أحدهم

  • «سعادتكم وصل إلى خبرات تتجاوز حجم هذه الشركة، ولابد من تعميمها على قطاعات أخرى.»
    مدير أخر عقب، بأن سعادته يسبق زمنه بعشرات السنين لأن بعض أفكاره لا يمكن تطبيقها قبل إحداث تغيير في الهياكل الإدارية والوظيفية حتى تتناسب مع طروحات سعادته..
    ثالث اعتبر أن فتحاً جديداً في الشركة سوف يضيف إليها أرباحا هائلة، والسبب، ولا شك مفاهيم ونظريات سعادته.
    قفل المحضر المعد سلفاً على البنود الواجب تطبيقها، والأخرى التي تُرحل إلى الاجتماع القادم، وحضرات الأعضاء مغتبطون بهذا الفتح الجديد الذي جعل سعادته ودوداً ومتسامحاً لدرجة أنه ابتسم أربع مرات، وروى (نكتة) سريعة ضحك لها المجتمعون من كل قلوبهم..
    أشيع ان سعادته سوف يقوم بجولة تفقدية لكل المكاتب بدون استثناء، اضطربت الشركة، الموظفون لا يعرفون هل تكون المفاجأة أول الأسبوع، وسطه، أم قبل الإجازة، وتحديداً في النصف الثاني من يوم الخميس..
    «غاشم» وحده الذي يعرف السر، وقيل إنه هو صاحب التعميم الشفهي والذي اعتبر إنذاراً للاستعدادات المبكرة..
    (سالم) السكرتير الخاص لسعادته تلقى أكثر من مكالمة من الإدارة العامة والفروع ورد بعدم علمه عن أي شيء، حتى أنه بإلحاح من الأصدقاء، والموظفين الكبار، اضطر إلى الاجتماع بشكل سري مع (غاشم) ليستطلع هذه الإشاعة وفيما إذا هي حقيقية، أو قال بها سعادة المدير، غير أن غاشم نهر السكرتير باعتبار أن هذه أمانة لا يصح أن يبوح بها، وأنه يعرف نوايا السكرتير الخاص الذي يريد أن يفتح ثغرة يدخل منها لسعادة المدير العام، ويكون ثمنها الإطاحة بمستقبل (غاشم)..
    لم يمر «التعميم السري» أو الإشاعة دون أخذ احتياطات كاملة من قبل المديرين، ورؤساء أقسام الفروع والأصول، فالجميع تسابقوا على تنظيف الأدراج من الأوراق الزائدة بعضهم استعان بمدير المستودع يستنجده بعث أقلام، وأوراق، وآخر يطلب مكتب جديد، وكراسي تليق بمنظر المكتب حين مرور سعادته عليه..
    مكاتب أخرى صارت تستعمل الروائح العطرية الطائرة وأصبحت العلب المضغوطة لتلك الروائح تشاهد على المكاتب والحمامات، حتى أن فكرة طرأت لأحدهم بأن يجتمع المعنيون بمنزل ما، حتى تتم الترتيبات بشكل منسجم، وأنه لابد من عرض على سعادته بقبول احتفال كبير على مرور عشرة أعوام على إنشاء الشركة تتم فيها المشاركة من قبل الموظفين دون إرهاق لخزينة الشركة، لكن صاحب الفكرة بلعها خشية أن تكون العيون الراصدة تستغل هذا الاقتراح، وأنه لابد أن تكون الفكرة مبادرة منه وحده، لأنه بمجرد أن يوافق سعادة المدير العام تكون القضية منتهية وملزمة للجميع..
    سعادة المدير لا تخفى عليه الحركات والسكنات التي تمور بها الشركة وقد كانت غبطة سعادته عظيمة حين أدرك وزن احترامه وخشية الجميع منه، وكيف أن مجرد إشاعة صغيرة اضطربت لها أركان الشركة وفروعها، وصارت الحديث الذائع طيلة الأسابيع الثلاثة المتوقع أن تتم بها الجولة المنتظرة.. إشاعة مضادة قالت بإرجاء الجولة إلى وقت مناسب، لأن مشاغل سعادته تمنعه في الظروف الراهنة من القيام بذلك..
    الموظفون الحذرون اعتبروا هذه الاشاعة خدعة سربها بعض الموظفين حتى يسقطوا بالجرم المشهود أمام سعادته، وأنها مكيدة أريد لها الإطاحة بأكثر من رأس..
    تفسير آخر اعتبر أن الموقف تبدل، وأن سعادته سوف يفاجئ الفروع أولاً لأنها القاعدة التي يمكن من خلالها كشف أوراق الشركة كلها، طارت برقيات تحذيرية، ومكالمات هاتفية لكل من يعنيهم الأمر من المهندسين والعمال، ومديري المكاتب والموزعين.
    إشاعة ثالثة قالت بأن اجتماعاً موسعاً سوف يدعو له سعادة المدير العام، وأخرى اعتبرت التأجيل ظروفاً طارئة قد تؤدي إلى سفر سعادته للتباحث مع الشركات الأم في الخارج..
    (غاشم) يغطي الأحداث كلها، ينقلها لسعادة المدير أولاً بأول حتى أنه اقترح بأن تستمر الإشاعة ويضاف إليها بتمهيد آخر بأن مديري الشركة وفروعها سوف يواجهون بلجنة تقصٍ للحقائق، وأنها أعطيت صلاحيات المحاسبة والمكافأة، وابداء الرأي بكل رئيس من قبل المرؤوسين، وأنه لا مجال للإجازات أو الانتداب في هذه الفترة بالذات، وأن اللجنة سوف ترفع تقاريرها بشكل سريع وسري يدعم ذلك ما روي عن تباطؤ في الإنتاج وخسائر في بعض الفروع، ومبالغة في الصرف في الإدارة العامة وأن سعادته سوف يتخذ قرارات تاريخية تتماشى ونظرية (Z) التي لابد أن تجد مجالها التطبيقي في الشركة.
    حالات من التوتر سادت الشركة، اعترف مدير فرع بعيد أن لديه أكثر من مستمسك على مديره المباشر، وأنه السبب في عدم تأمين قطع غيار لإحدى المكنات..
    أخر قال بأن لديه حججاً كثيرة سوف يبرزها عند حضور اللجنة، وأنه يعرف أن دفاتر الدوام لا تقفل في وقتها، وأن الخروج مفتوح أثناء الدوام..
    ثالث هدد بكشف حسابات الصناديق وفواتير المكالمات الخارجية الشخصية والاستعمال غير الرسمي للسيارات وبعض المعدات، واستغلال العاملين في بيوت بعض المديرين.
    رابع فسر هذه «الشوشرة» بأنها طريق لتنسيق العديد من الموظفين، وأنه لابد من وسيط جيد لسعادته حتى لا يناله عقاب الفصل بدون تعويض..
    (غاشم) هو السبب.. هذا ما أجمع عليه مديرو الأصول والفروع وتوابعهم من العمال والموظفين، وأنه من أجل الوصول إلى أسرار الإدارة وما ينوي سعادة المدير العام الإقدام عليه ولابد من إخضاع «غاشم» للمراقبة الدقيقة في المكتب والمنزل، والتناوب من قبل الموظفين والمستخدمين، وحتى زوجاتهم في الوصول إلى ما يقوله، وما يهمس به في الحالات الطبيعية أو غير الطبيعية لأن «غاشم» وحده المفتاح الذي يؤدي إلى السر الدفين.
    (عويشة) زوجة (غاشم) عُرف عنها الثرثرة وتضخيم الإشاعات بين البيوت، ولذلك فهي المكمن الذي يمكن من خلاله استطلاع أفكار زوجها..
    أرسلت لها الهدايا، وقدمت لها الدعوات وبمناسبة نجاح الأولاد، والاحتفال (بملكة) إحدى البنات، ودون أن تعرف سر هذه المفاجآت وهي زوجة المستخدم (غاشم) راحت تضيف العديد من الأوصاف عن غياب زوجها أحياناً إلى ما بعد منتصف الليل، وأنه لا يدخل المنزل إلا بعد صلاة الفجر وحين يشاهده المصلون حتى يثبت أنه خرج وعاد إلى بيته.
    جُمعت المعلومات عن (غاشم) ولكن الاستنتاج الوحيد الذي ظهر به معظم الموظفين أن (عويشة) نفسها لا تعلم عن أي أرواح الشياطين تسكن زوجها، وأنها بالتالي مخادعة ونصابة، لأن زوجها لا يسمح لها بمعرفة أبسط اسراره..
    عقد الاجتماع الثاني بغياب أحد المديرين لوعكة صحية تعرض لها ومنح بموجبها إجازة مرضية وقعها سعادة المدير العام دون رضا عن المدير الغائب..
    الجلسة افتتحت بنظرية أخرى عن سياسة (الظروف المرنة) التي يجب أن تحكم سلوك الإداريين، وعلاقة الشركة بالعملاء والأسواق، وكبار التجار..
    شرح سعادته بإسهاب الفضائل التي تقول بها نظريته وأنه لابد من تأمين الاحتياطات اللازمة لبعض الشركات التي أصبحت تنافس شركتهم، وأنه يجري الآن استحداث أقسام أخرى من بينها قسم للعلاقات العامة، وآخر للدعاية والإعلان، وثالث لاستطلاع الرأي العام عن الدور الذي يجب أن تقوم به الشركة في تحسين الإنتاج وتطويره..
    الأعضاء المجتمعون باركوا هذه الخطوات، ولكن ما كان يضمره كل واحد منهم الأماني العريضة التي قد تجعله المحظوظ بالترشيح لإحدى تلك الوظائف، والتقرب من سعادة المدير العام مباشرة وقطع الطريق على احتكارات (غاشم) خاصة وأن سعادته أفهم الحضور بأن هذه الوظائف سوف تكون علاقاتها به شخصياً.
    نسيت الجولات المنتظرة لسعادة المدير العام… (غاشم) صار موضع تقدير الجميع يتوددون له، يطرحون أفكاراً جديدة عن الأهداف المنتظرة للأقسام الجديدة، كيف ستكون، وأي دور يمكن أن تؤديه لمستقبل الشركة.
    «غاشم» لم يقل أنه مرشح لإحدى تلك الوظائف، والتي قد تربط بها الأقسام كلها، ويكون رئيساً عليها، ترك المفاجأة وحدها تأخذ طريقها لكل العاملين بالشركة..
    صباح أحد الأيام وقع القرار بتعيين (غاشم) المدير المطلق الصلاحيات للأقسام الجديدة.. عندها فقط عرف السر وقيل أن سعادة المدير العام أحيل للتقاعد المبكر، وأغلقت عليه الأبواب إلا من خلال (غاشم)، وأن أحداثا أخرى قد تجري في الشركة، وقد تقفل المحاضر بمفاجآت أكبر وأن سياسة (الظروف المرنة) كانت من خلق وابتكار (غاشم) وأنه شخصية لابد من أخذ كل الاحتياطات لها قبل أن تكون كل شيء في المستقبل القادم..

التاريخ / الثلاثاء 21 ذو القعدة 1408هـ – 5 يوليو 1988م

مقالات مشابههة

الكرت الذهبي!!

الكرت الذهبي!!

لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...

التفسير المضاد!!

التفسير المضاد!!

لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك،...

رأي في موضوعين

رأي في موضوعين

في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *