كعادته في توقيت وجبة الغداء يختار ركنه الخاص في ذلك الفندق الكبير في البلد الآسيوي، يداعب أنظاره رذاذ المطر الخريفي، يشاهد الحركة الدائبة للعاملات في المطعم وكأنهن أسراب الغرانيق بأثوابهن البيضاء، وابتساماتهن الحيية لكل زبون يدخل تلك القاعة الكبيرة..
قال بعد أن تفقد ربطة عنقه، ورشف من فنجان الشاي الأخضر الذي أكسبته عادة ذلك الشعب أن يتناوله مع الغداء والعشاء..
– «ألم تلاحظ كثرة المطاعم في هذا البلد، وقلة العيادات الطبية، عكس بلد عربي تمتلئ ساحاته وميادينه بلافتات الأطباء ومراكز التحليل الطبي»؟
قال صديقه معلقاً..
– «… وما وجه المقارنة بين المطاعم والعيادات الطبية؟
قال.. وابتسامة عريضة تكسو وجهه النحيل..
– «ليس في الأمر ألغاز.. ففي هذا البلد تدرك أنه لا يوجد وقت فائض يساعد على البطالة وتضخم الكرش، ومن ثم استيطان الأمراض المدنية الحديثة فالكل يعمل، وبجدية صارمة..
هل تصدق أن تلك الشابات اللائي يعملن في هذا الفندق معظمهن من الطالبات؟ هنا يجب أن ندرك أن أي شعب عامل ومستهلك لوقته لا يجد فرصة لاستهلاك غذاء في منزله يزيد على حاجته، وهذا سر آسيوي جعل ما يسمى بالكواكب الصغيرة في تايوان وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وسنغافورة، أن تقطع المسافة بين التخلف والتقدم بزمن فلكي، عكس معظم البلدان الأخرى، ومنها بعض بلداننا العربية التي تتراكم فيها أعداد الموظفين الإداريين والمحامين وتراكم الأعداد الهائلة من العاطلين أو شبه العاطلين في مراكز العمل الذي لا يعطي أي إنتاجية تذكر».. لمحاولة استثارته قال صديقه..
– «قد أتفق معك في بعض أفكارك، بأنه إذا انفرط عقد التنظيم تكاثر العاطلون والفقراء، وزادت الحاجة للأطباء، وتفاوتت فرص العمل بين الأفراد وكذلك بين المدينة والقرية، ولكن المقارنة تضعف بين البلدين إذا ما قدرنا الظروف السياسية والعسكرية، حيث أن المنطقة العربية أُريد لها أن تستهلك طاقات إنتاجها وعملها في التسلح، في الوقت الذي نجد فيه معظم من نسميهم بالكواكب الآسيوية أقل توتراً ومصادمة مع الواقع المحلي والخارجي، والتمتع بظروف أمنية جعلت التنمية تأخذ طريقها الصحيح».
أجاب بهدوء ورزانة أكثر..
– «ليس وجه المقارنة يثبت على معيار واحد، أو ثنائية بسيطة.. مثلاً.. ألا تعتقد أن الوقت العربي أهدر بأكثر مما يجب، وأن أطناناً من الدموع والورق ذهبت في الجدل السياسي البيزنطي، والتحسر على ضحايا المواقف الخاطئة، ولو حسبت الموتى فقط بسبب تلك الخلافات العقائدية، وأعداد المشردين من الكفاءات الممتازة لأصبحت أكثر من الضعف فيما خسرناه في حروبنا..
في البلدان الآسيوية، مدار الحوار، لا نجد من يبحث عن جائزة (نوبل) للآداب، ولا توجد عقدة البضاعة الأجنبية أمام الإنتاج المحلي.. هناك سباق محموم بمن يستطيع كسب السوق العالمي، وإضافة مشروع جديد للصناعات الوطنية، وتشغيل وتدريب أكبر طاقة عمل فني يدخل المصنع والمعمل..
بمعنى أخر جعلوا الشعر والعواطف الجياشة ضمن عقيدة العمل، لأنه لا يوجد ترف سياسي أو فكري لا يتناول القضية الوطنية كلها، ولهذا بدأت تخطط تلك الشعوب للدخول للقرن القادم بأسلحة وقيم حضارية جديدة غير قابلة للتباطؤ، أو الانحراف..
صحيح أننا استُهلكنا سياسياً وعسكرياً، ولكنك تستطيع أن تضيف بعداً آخر، وهو أننا استهلكنا منطق العقل وفرص تكوين ذاتنا بصورة أكثر مأساوية»..
قاطعه زميله الذي فرغ من شرب حسائه الساخن.. فقال:
– «يبدو أن إعجابك بهذا البلد الآسيوي أغلق عليك النظرة الإيجابية لما عليه أكثر من بلد عربي، خاصة تلك التي تسعى إلى بناء وخلق مجالات عديدة في التنمية الوطنية، وفتح النوافذ مع الجوار الأوروبي والأسيوي ووضع خطط بعيدة المدى في تثمير الطاقات المادية والبشرية»..
– «المسألة لا تقاس برسم سياسات اقتصادية معظمها غير قابل للتنفيذ، ولكن الفارق تربوي بالدرجة الأولى..
ففي الوقت الذي نجد استغلال طاقات الإنسان بأعلى درجاتها في هذا البلد بجنوب شرقي آسيا، وتشغيل حتى المتقاعدين من كبار السن فيما يتلاءم وإمكاناتهم، نجد المتسكعين ورواد المقاهي في الشارع العربي تتضاعف أعدادهم كل ساعة..
وحتى لو حسمنا المشكلة بأن الفوارق بالذكاء بين الشعوب ليست قضية محسومة، فإننا لسنا الأقل ذكاء، ولكن ما ينقصنا تلك الرغبة، أو قل ما يشبه العقيدة عند أولئك الآسيويين بحب العمل، والاقتصاد في التهريج، خلاف ما نحن عليه..
إذن المسألة ليست إعجاباً وكرها، لأنني من نفس الفصيلة التي أعنيها بالحديث والنقد، وتجدني أتحسر، ولا أشمت، ولهذا أقول إن كثرة الأطباء ليست دلالة صحية، بقدر ما هي مضاعفة لأمراض جديدة»..
قال صديقه محتداً..
– «أنت تكرر قناعات الأعداء ممن يقولون أنه ليست لنا أي فرصة في سباق هذا العصر، وأننا كأي كمٍ زائد يستهلك أكثر مما ينتج، وأننا سوق مثالي يجب الإبقاء عليه لصادرات الدول الأخرى»..
ابتسم، وكمن يختزن آلام قرن كامل.. قال..
– «لا أظن أن ما تدعيه بوصف الأعداء، وتكراره واقعي، ولو تركنا الحساسيات والمشاعر المتدفقة، أعتقد أن مثل هذا الاتهام يطابقنا تماماً، وليس في هذا ما يخدش كبرياءنا أو يضيع منا فرص العصر كله، وما يعيبنا أننا غير قادرين على قبول النقد وتقويم أوضاعنا بلغة تناسب مثل هذا الاتهام..
قل لي مثلاً كيف سندخل سباق القرن القادم، ونحن أمام ركام من العقد الإقليمية والتنافر العقائدي، والتخلف الاقتصادي والتربوي؟
مؤشرات كثيرة تحذر من أننا سوف ندخل أزمة حادة في شح المياه على المستوى العربي كله، وأن ملايين من الأفواه تحتاج إلى الغذاء، وأن نسباً كبيرة بدأت تزداد في أرقام الأمية، وأعباء أخرى في هجرة الأدمغة أخذت تتسع، وتتعاظم..
بمعنى أكثر أننا لم نتخذ احتياطاتنا، أو نقف بشجاعة أمام قضايانا، ونتجاوزها بالحلول الصحيحة، وننسى تلك التصنيفات السياسية، اليسارية أو اليمينية، أو من نقول عنهم أصحاب التبعية للشرق أو الغرب.
أكثر من ذلك أننا لم نتعود أن نتجرد من نظرتنا الأحادية، وتفسيرنا للأشياء بما يشبه العفوية، أو العقلية القبلية، انقسام بين الطلائع الثقافية وكذلك أصحاب القرار السياسي، وانكماش حاد في العلاقات الاجتماعية، وعدم ثقة بين الرساميل العربية، وكل هذا ينصب على معنى واحد هو تهديم الذات وجعلها عاجزة عن الإبداع والعطاء، والتفكير بهدوء أمام أصعب المشاكل وأحدها..»
قاطعه زميله..
– «أفهم من قولك أن الرؤية لديك ضبابية، أو بتحديد خاص أكثر (سواداً)، وهذا منطق اليأس، وعدم قراءة التاريخ واستشراق المستقبل بشكل واقعي..
العرب كأي أمة تبحث عن كينونتها في العالم، ولعل ما تعتقد أنه انغلاق تام أمام مجالات الحياة، يمكن أن تقابله بلورة لأفكار وأعمال عظيمة، ومن غير المنطقي الحكم على الواقع من خلال مظاهره السلبية فقط، ومنحنا إجازة طويلة عن التفاعل مع العصر، وإن لم أحرجك، أو أجرح مشاعرك، فإنك تنسي أننا نملك كل الإمكانات التي تجعل منا قوة عصرية في كل المجالات، حتى لو كان هذا لا يتناسب وأفكارك ومنطقك»..
صمت لحظة.. كان يتأمل ويحلل كل كلمة يقولها زميله.. عقّب قائلاً..
– «.. أنا لا أحسدك على تفاؤلك، لأن هذا أمر طبيعي لو كان يحمل هذا التفاؤل عنصر التخطيط والعمل على المستوى القومي كله، ولكن الحقيقة تنفي أي احتمال لمشروع عربي واحد، ولو على الأقل يأخذ بالضرورات التي تدخل في التحدي الفعلي لنا أمام كل التعقيدات وتشابك الآراء والأفكار..
دعنا من الفرضيات التي تحولت إلى أماني، ثم إلى نسيان كامل بالحديث عن وحدة عربية، أو تنسيق شامل في القرارات المصيرية العربية، وخذ مثلاً الأحاجي التي نستهلكها في صحوتنا كل يوم عن رتق كل الثقوب التي يصورها إعلامنا العربي، أو يجعلها وسيلة حرب على الشقيق الآخر، وكيف تفسر مواجهاتنا لحروب طويلة مع الفقر وانعدام الانتماء للأرض، والشعور بمخاطر إسرائيل وغيرها ونحن حتى الآن نفتقد الثقة بأنفسنا؟
حقيقي نحن نملك على المستوى العربي قدرات هائلة من البشر والثروات الطبيعية، والقيم الواحدة، ولكن هذا يظل على الصعيد النظري فقط، بدليل أن الأزمات التي تعصف بنا من داخلنا، أكثر من التوجهات التي تجعل تلك الثروات وظيفة قومية نسعى إلى استغلالها بعمل مشروع ومتقن…
نحن حتى الآن نركب العربة البطيئة والأخيرة في القطار الإنساني، ومثل هذا القول لا يدخل في التعريض بواقعنا، بقدر ما هو وصف صريح له..
فالذين يواجهون المعركة يتناسون خلافاتهم، ويقدرون مصالحهم على ضوء أحكام العصر وشروطه..
مثلاً.. أوروبا الآن تدخل القرن القادم بوحدة شاملة متناسية كل حروبها وفروقها القومية واللغوية لأنها تريد أن تكون لها ذراعها الطويلة في المساحة العالمية التي بدأت تتقلص بين القوى العظمى، وتدخل منافسة بعيدة المدى مع اليابان والصين ودول جنوب شرقي آسيا الفتية..
الأمة العربية لا تملك هذا التصور، بل كأن الأزمة خارج أبعادها الجغرافية والاجتماعية، وليس في هذا أي مبالغة حين نقول إننا لا نضع همومنا في الموقع الحقيقي، بحيث نشاهد، على الأقل، معركة سلمية تتخذ قرارها من المصلحة القومية العليا، وبعيدة عن التوترات الإقليمية أو الخلافات الشخصية، ونصعد بتفكيرنا إلى مصدر التحديات الاقتصادية والسياسية والثقافية»..
قال زميله فيما يشبه طلب قفل الحوار..
– «قد لا نتفق أبداً على رؤانا لأن لكل منا قناعاته ومصادره الخاصة في تقويم تلك الآراء، ولكننا نتفق بأن طرح القضايا العربية تظل في مستواها الأدنى من التفكير الشعبي، وهذه هي القضية طالما أن القرارات ترسم وتنفذ من أفاقها البعيدة بمعزل عن تلك الجموع الكبيرة»..
أضاف زميله..
– «… وهذا هو التلخيص الحقيقي لكل ما أردت أن أقوله في ذلك الاستطراد الطويل»..
تصافحا وافترقا وكان الوقت قد أشار إلى دخول المساء ومعه وجبة جديدة لعشاء جديد، ولعربيين ما زالا على خلاف لن ينتهي ولن يتقلص..
التاريخ / الثلاثاء 2 صفر 1409هـ – 13 سبتمبر 1988م
0 تعليق