لو فتحنا الخارطة العربية باتجاهاتها الأربعة، وقرأنا بصورة هادئة تفاعلات الصراع الذي تفجر منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى الآن، سوف نجد أننا منطقه الغزو المباشر، والتقطيع الإقليمي، وموقع التمركز لتسريب وسائل التبشير الديني والعقائدي، وطمس الهوية القومية بإعلان الحرب على اللغة والتراث، وتأصيل قيم جديدة بديلة عن تاريخنا القومي الكبير.
الوطن العربي تحرك ليدافع عن نفسه، ولكن الحصار ظل عنيفاً وقاسياً، خاصة حين كانت القوتان العظميان في ذلك الوقت (فرنسا – بريطانيا) تدخلان تخوم البحار وتسيطران على مراكز المرور البحري والبري، وتحتكران التجارة الدولية في جميع أنحاء العالم، ولكن تغير الظروف دفع الشعوب التي تقع في ظل الاستعمار إلى أن تكافح وأن تبدأ مرحلة أخرى في السيطرة على مقدراتها وحرياتها، وكان الوطن العربي في طلائع تلك الحركات التي خرجت لتواجه قدرها مع زبائن جدد، يرسمون على الدوائر الضيقة والمتسعة المرحلة القادمة السيادة أخرى وعالم أخر..
وإذا ما انتقلنا إلى تلك الانفجارات الداخلية التي كثيراً ما تحددها ساعات الفجر الأولى بإعلان البيان الأول، والرابع والعاشر.. الخ في تغيير الكراسي بين إمبريالي الأمس وديموقراطي اليوم، أو العكس، فان الوطن العربي كان أكبر مستوطنة عالمية عاشت على التوتر النفسي الذاتي، والانقسام الفكري والعقائدي، وكانت الأحلام أكبر من الواقع في ظل العسكر الذين جلبتهم الظروف من ثكناتهم، ولا يحملون أي تصور لسياسة الحكم أو بناء مؤسساته الوطنية والشعبية..
مرحلة ترسيخ الذات ظلت أكبر التحديات سواء على الصعيد القطري أو القومي، وكانت المزاوجة بين الحرب مع (إسرائيل) والوحدة العربية طرفين لمعادلة صحيحة، ولكنها لم تكتسب زخمها إلا في إطار الشعارات وتضخيم الذات بما هو خارج دائرة المعقول..
صحيح أن تلك الشعارات تركت ظلاً من الخوف والاحترام العالميين لدرجة جعلت المصادمات مع فرنسا وبريطانيا، وإسرائيل تأخذ شكلها القديم في الغزو العسكري المباشر..
فالخوف من كتلة عربية جديدة بعثت رواسب الماضي البعيد، وكانت أوروبا هي أكثر المتسائلين عن موقعها فيما تعتقد أنه مجالها الحيوي القريب، ولكن الاحترام الذي حظيت به حركة التحرر العربي من الاستعمار الغربي كان مثار سخط للقوتين العظميين على التصرفات الأوروبية، بجانب أن غليان القوى الأخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقطاعات أسيوية كبيرة، أوجدت ما نستطيع تسميته بالمناخ المضاد لكل أشكال الاستعمار القديم..
كان رصيدنا من العالم الثالث المؤيد لنا كبيراً، وهو بالتأكيد صوت جيد، ولكنه لا يستجيب لحركة تاريخية تحكمها أطر من السيطرة العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، وهذا ما أفرزته السياسة اللاحقة في إجهاض تلك القوة، وتوزيعها بين دوائر القوتين العظميين، لتبدأ سياسة الحرب النفسية وسباق التسلح، ومواجهة كل انقلاب في أفريقيا مؤيد للاتحاد السوفياتي، بانقلاب عسكري آخر في أمريكا الجنوبية مؤيد لأمريكا وهكذا ظلت كواكب العالم الثالث ندور في أفلاك أكثر جاذبية وقوة..
ثم جاء الانتقال الأكثر شراسة في السلوك السياسي العالمي تجاه الأمة العربية، وهو أمر تبرره هشاشة الأوضاع العربية وسلبياتها، لتبدأ مرحلة الحروب والهزائم، وتفتيت تلك القوة بحصار نفسي واقتصادي، واختراق حصانة الجوار مع البلدان الصديقة بتعزيز المخاوف من أطماع العرب، وأهدافهم التاريخية، لتبدأ سلسلة طويلة في إيجاد المكابح أي حركة عربية قادمة تبحث عن موقعها القومي في العالم..
فإسرائيل عززت قدراتها العسكرية بعد انتصار 67، وجاء شاه إيران ليبني أكبر قوة عسكرية خارج الحلفين في الغرب والشرق، وتنامت القواعد العسكرية في البحر الأبيض والأحمر والمحيط الهندي، وتشكل حزام ضخم على المنطقة بأسرها، مبرر بصراع القوتين العظميين على أخطر منطقة حساسة في استراتيجيتهما، وأخذ الاحتياطات بعدم سقوط تلك المواقع بيد أي منهما..
هنا بدأت المسألة تأخذ حدها الأكبر في الصراع، وكان لابد من تحجيم الدور الذي يمكنه أن يبقي على الأزمات المتلاحقة، ولكنه لا يفرض موقفاً ساخناً على القوتين العظميين، وكانت (دراما) حرب ۷۳ هي الحد الفاصل الجديد برسم حدود الصراع، ومواجهته بما يشبه الإجماع بين القوى العظمى في الشرق أو الغرب على وضع خطط استراتيجية جديدة للمنطقة بأسرها..
فلم يكن الانتصار العسكري في الحرب هو المسألة الحساسة فقط، ولكن أن تنقل العرب الصراع من حالة عسكرية – سياسية، إلى تحكم اقتصادي في النفط وفي نفس المرحلة التي تسقط فيها مفهوم الأمن (الاسرائيلي) نتيجة تماسك الوعي العربي وقيادته لأخطر معركة واجهتها (إسرائيل) ومؤسسات الغرب بشكل خاص، نقول إن هذا الموقف جدد فتح الملفات الكبيرة للمنطقة العربية ودراسة المرحلة القادمة وكيف يجب أن يتم وضع صيغ تتناسب والاستراتيجيات العظمى..
لقد جاءت (كامب ديفيد) كأكبر خطة إجهاض لدور عربي يرسم آفاق السبعينات والثمانينات، وأثمرت تلك الخطة بتفجير لبنان وتقزيم الدور الفلسطيني، ثم كان الحدث الأخطر حين أخذت إيران شكل القوة القادمة في رسم الحدود في المشرق العربي، وتحديداً في الخليج العربي لتمد تطلعاتها في اختراق أمن العراق باعتباره ميدان الثارات التاريخية، ومفتاح الأفق العربي الذي سوف يتساقط بفعل زخم إيران الثوري والعسكري، كما اعتقدت، وهنا كان الفرج العظيم للاستراتيجية الدولية بإضاعة أكبر فرصة لدول المنطقة بما فيها إيران، بإسقاط قوة النفط كقوة اقتصادية، واستهلاك الرصيد المادي في غابة من الأسلحة التي قامت بدور تهديم جميع المؤسسات الحيوية بين العراق وإيران.
وإذا كانت الظروف الآن أقل قلقاً، فإنها ليست الأكثر أماناً حين نتطلع إلى حلقات الصراع في مناطق العالم الثالث، وتجييرها بنسب مختلفة لعصر الوفاق بين الشرق والغرب، ولعل أكثر منطقة تستهدف بالقلق والتوتر في منطقتنا العربية…
فنحن الآن أمام رحلة لا تقل أهميتها ونسب مخاطرها عن أي فترة زمنية أخرى، ولهذا السبب فإن دورنا المطلوب لم يعد التعامل مع الظروف التي تسيطر علينا أو تفاجئنا بالحدوث بدون سابق إنذار، بقدر ما هو فهم للواقع والمستقبل بشكل جذري..
فحدودنا العربية تتداخل شمالاً مع المواقع الأوروبية، وجنوباً مع أفريقيا، وفي الشمال الشرقي مع إيران وتركيا، وقبرص، وحتى اليونان، وفي الخليج العربي ومضائقه، وشريان البحر الأحمر، تكمن أكثر الفرص العظيمة للسلام، أو أخطر المعارك التي يمكن أن تقود إلى حروب طويلة الآجال..
هنا يجب أن نتساءل، ما هي الخطة العربية الواحدة مع دول الجوار، وكيف نرسم مع جيراننا أهدافاً سياسية واقتصادية قابلة للاستثمار بثقة واقتدار..
من جانب إسرائيل، تعتبر أن لها أرصدة مهمة يمكن التحكم بها في زعزعة أمن المنطقة، ولهذا نجدها تدخل في شبكة فضيحة (إيران – كونترا) وتغذي أزمات السودان مع أثيوبيا، وتفتح النار على دول أفريقية مجاورة للدولة العنصرية في القارة السوداء، لتشكلا قوة الضغط في الكيان العربي والافريقي..
على الطرف الآخر لا يمكننا التسليم بحسن النوايا لأي من القوى العظمى في العالم، حتى لو تظاهرت بموازنة سياساتها مع المصالح المشتركة بيننا وبينهم، لأن الخلاف لا يقع في حدود التصور العادي للأزمات المتلاحقة، بقدر ما هو الجذور المتأصلة في جعل العرب أسرى مخاوفهم وشتاتهم حتى لا يبنوا قوة قادرة على لعب دور آخر في العالم، وبمساهمة مباشرة مع جيرانهم الأقربين..
القضية في منحاها الأخر تتعلق بآفاق المستقبل القريب، والذي لا نعتقد أنه يتجاوز العقدين القادمين على أكثر الاحتمالات، ولهذا نقول إن واقعنا الاجتماعي والسياسي، وحتى الاقتصادي، لا يختلف من حيث الكم أو الكيف عن البلدان المتحادة مع الوطن العربي، اللهم إلا إذا استثنينا، وبشكل نسبي، دول حوض البحر الأبيض المتوسط التي تقع في نطاق الجنوب الأوروبي.
فمن حيث التماثل بيننا وبين تركيا، أو إيران، أو بيننا وبين دول أفريقية عديدة، لا يختلف كثيراً، إذ أن الظروف التنموية، والتخلف الثقافي والسياسي، والقيم المشتركة التي تداخلت بفعل عوامل تاريخية قديمة لا يمكن وصفها بأنها متنافرة، أو يتعالى طرف على الآخر بأنه دخل النادي الدولي للعالم المتقدم..
بنفس الوقت لسنا خارج نطاق الضغوط الدولية والأهداف الاستراتيجية العليا، ومن هذه النقاط بالذات يجب أن نحدد خطواتنا بشكل يحسم عقدة التاريخ والصراع القديم التي ترسخت وجاء من ينميها كحقائق أزلية في حروبنا واختناقاتنا الدبلوماسية..
دول الجوار العربي لها مصالح قومية أو إقليمية يستحيل فصلها عن بعضها، لأنها محكومة بإطار عوامل جغرافية وتاريخية وعقائدية غير قابلة لقلب الحقائق، حتى لو ظل التنافس الاقليمي، أو ما يدعى بالثارات التاريخية، قضية تتحكم بسياسات اليوم..
من هذا المنطلق تأتي ضرورات فهم العلاقات الإقليمية بيننا وبين الدول التي تشترك معنا بالحدود الدولية، أو الجغرافية بروح أكثر مودة ومصارحة…
لنأخذ تركيا، على سبيل المثال، وهي الدولة نصف الآسيوية، ونصف الأوروبية، فعلى الرغم من فترات التوتر بينها وبين جيرانها العرب، إلا أنها لم تقع فريسة التضليل السياسي، أو الإقليمي، ولذلك كان لإدراكها بأن مجالها الحيوي الأكبر يقع في الدول العربية والإسلامية المجاورة، فإنها لم تحاول أن تدخل لعبة الأمم، وكان لمواقفها المعتدلة من الحرب العراقية/ الايرانية ما جعلها أمينة على علاقاتها وسياستها المعتدلة، ولعل مثل هذا الإدراك يجعلها الأكثر انجذاباً بحكم الصلات الروحية والتاريخية مع الدول المجاورة، رغم أنها بالحكم السياسي والعسكري، دولة أطلسية..
هذا المثل يجعلنا مجبرين على تعريف الواقع على ضوء الحقائق المباشرة، وفيما إذا كنا نحتاج إلى وسطاء، وأمم متحدة، لأن أزمة الثقة ظلت العقدة الثابتة في علاقاتنا الإقليمية والسياسية بيننا وبين الدول الصديقة المجاورة..
نحن نحتاج إلى وقفة شجاعة تخرجنا من أزمة عقدة ثارات التاريخ، لأننا بمصطلح اليوم نفهم، أن دول أوروبا مزقتها الحروب والقوميات، ومثلها ينطبق على دول آسيوية، وحروب الولايات المتحدة مع بريطانيا، والصين مع اليابان، وغيرها، وهي الآن ترتفع عن تلك الثارات بإيجاد علاقات مصالح مشتركة تقوم على رؤى المستقبل البعيد، ولعل الحاجة لنا أكثر إلحاحاً، لأننا حتى الآن لم نتجاوز بتطلعاتنا مواقع الدول النامية الأقل تقدماً، ومن هذا الاعتبار نعتقد أن استهلاك قوانا البشرية والمادية في الحروب وتركها مواقع مثالية لثارات الدول الأجنبية، هو ما يضعنا في مركز الأزمة البعيدة المدى، والخسارة التاريخية الدائمة..
صحيح أن ما يُعرف بمنطقة الشرق الأوسط بأنها مركز التجاذب والتذبذب بين القوى العظمى أمر واقعي، ولكننا سنظل أسري هذه التصرفات، وإذا بقيت عوامل التوتر تحكم مواقفنا الإقليمية، فلن يكون بوسع أي دولة أو تكتل أن تمتلك أسباب استقلالها الحقيقي، إلا بتعريف موقفها وبناء استراتيجية مصالحها على ضوء حريتها وسيادتها، ولا نعتقد أن المطامع الإقليمية لدول الجوار مع بعضها قابلة للتحقيق وسط تعقيدات دولية تنسج مصالحها أو توازناتها على أسس جغرافية وسياسية لا تخل بتلك التوازنات..
هذه الصور العامة تضع ما يسمى (بدول الشرق الأوسط) أمام حكم تاريخي جديد، وتجعل المهمة صعبة إذا لم يتحقق حسن جوار ينبني على الثقة واستثمار الإمكانات الطبيعية في المنطقة، ومثل هذا التقدير لا نعتقد أنه خارج تصور من يرسمون أبعاد مستقبلهم وسياسة بلدانهم ويريدون لبلدانهم أن تصل إلى القرن القادم بروح متوثبة، ولهذا نقول أن الحوار وحده هو السبيل لبناء علاقات أوثق، وهو الفعل الضروري والحساس لنا جميعاً قبل أن تأكلنا الحيتان الكبيرة، ونظل نحن الخاسرين في كل وقت..
التاريخ/ الثلاثاء 23 صفر 1409هـ – 4 أكتوبر 1988م
0 تعليق