يقول الدكتور جمال حمدان في كتابه «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» (يري بعض المراقبين أن مركز ثقل الصراع العالمي يتحول بالتدريج إلى آسيا، والعلامات والمؤشرات كثيرة في هذا الاتجاه فعلاً، فالمحيط الأطلسي كبحيرة حلف الأطلنطي الخاصة قد أصبح نسبياً «بحر السكون» بينما انتقل الخطر إلى المحيط الهادي «بحر العواصف» منذ الحروب الأمريكية العديدة في الشرق الأقصى، ولعل من المنطق بعد هذا، وقد عد البعض آسيا قارة القرن الحادي والعشرين، أن يعدوا المحيط الهادئ محيط آسيا أساساً، محبط القرن الحادي والعشرين»..
هذا التصور يجعلنا نأخذ الصين الشيوعية كأحد العوامل الجديدة التي انتقل إليها الصراع في الأفق الآسيوي العريض، ولعل ما يحكم رأي الدكتور حمدان، هو التطورات اللاحقة والتي يرى فيها أن أوروبا بدأت مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي والانكماش الداخلي لتترك المرحلة إلى آسيا، وهو التناقل الحضاري والسياسي الذي تعيده عوامل الحقائق الراهنة وحدها، ليصبح التزامن بين القوتين الآسيوية والأوروبية، اقتصادياً وسياسياً مربوطاً بحقائق المستقبل، ولأنه أيضاً أمام النمو الجديد والتطلع إلى حوافز امتلاك السيطرة على الذات، جعل الصين القدرة القادمة في الانقلابات الاستراتيجية العالمية ..
وإذا كانت القوتان العظميان في المرحلة الراهنة تشعران أن الوفاق بينهما يعيد الترتيبات الجديدة في العالم، وأنه من غير المقبول أن تدخل للمزاحمة قوى أخرى، مثل اليابان أو أوروبا الموحدة، بحيث يحدث خلل في التوازنات الاقتصادية، ليصبح الاستقطاب القادم مرهوناً بعوامل أسلحة التبادل التجاري، والتكنولوجي السلمي، فإن مثل هذه الأسلحة سوف تجعل فرص السيطرة أقل نفوذاً مما يعزز دور الكيانات الأقل قوة في ظل حياد الأسلحة النووية الجبارة..
فالصين التي اعتبرت رأس بطيخ يعطي شرائح غزيرة العصارة للغربيين (1) وقت الاستعمار الماضي، بدأت تخضع لمراجعة عريضة في جميع الأسس الأيديولوجية، والتطلع إلى أن تتواجد ككيان أسيوي عملاق، واعتقادها بأن الفرص لا تمنح، ولكنها تخلق، ولهذا السبب فإن «دينج هيساو بينج» يفترض أن طريقاً أخر للإصلاح السياسي والاقتصادي في بلده، لا ينتمي إلى نبوءات ماركس، ولينين، وأن الأول الذي رأى أن الصين والإمبراطورية السماوية الهادئة حصن للرجعية المتطرفة، والمحافظة المتطرفة، تقف نقيضاً مباشراً لأوروبا، مغلفة بعزلة بربرية تامة عن العالم المتحضر .
ثم ليقول: (إن شبه الحضارة المتعفنة لأقدم إمبراطورية في العالم كانت تغرس «الغباء الوراثي» بين سكانها، وكانت تحيا حياة نباتية راكدة في الزمن، تمثل العالم القديم، ساعية إلى خداع نفسها بأوهام الكمال الإمبراطوري السماوي) (۲)..
لو أخذنا بهذا النقد الحاد لماركس، وكيف أن الصين، جاءت بعد الاتحاد السوفياتي كقوة ثانية في الأيديولوجية الماركسية، فان السؤال ينحصر بالكيفية التي جعلت الصين البلد الآسيوي الكبير الذي يأخذ بهذا المنهج، في الوقت الذي تتشابه فيه الظروف التاريخية والضغوط السياسية مع الهند، وهو توقع لم يأخذ به ماركس أصلاً، سواء بتبني نظرياته وطريقه في روسيا أو الصين..
وللتدليل على هذه المفارقة، فان الصين تشبه العرق الواحد اجتماعياً، وبنفس الوقت فإن ديانتها وفلسفة حكمائها لم تكن تأخذ بالرؤية (الميتافيزيقية) التي حدثت بها تعددية الديانات بالهند، إلى جانب أن السيطرة المركزية للدولة الصينية، وصياغة لغة قومية واحدة، وكذلك مقارعة ثلاث دول جزأت الصين بينها، قبل تحررها الأخير، تجعلها الأكثر قابلية للانتقال من بؤر التخلف الاجتماعي والسياسي، إلى انتهاج أيديولوجية صارمة تتكئ على قوة الاتحاد السوفياتي العظمي، في الوقت الذي نجد فيه الهند حددت طريقها سلفاً بمنهج الديمقراطية الغربية باعتبارها الطريق القابل للتعايش بين القوميات والديانات المتجذرة بالوجدان الهندي، والسعي إلى خلق دولة علمانية ترتكز إلى القانون وسيادته، وهو حل منطقي استطاع أن يبعد التنافس الأيديولوجي بين النظام الماركسي، والنظام الرأسمالي ..
على أن مرحلة الانشقاق المبكرة بين المعسكرين الشيوعيين أوجدت تلك النزعة الاستقلالية عند الصينيين، وخلقت قناعة أكثر تطهراً، بأن عليهم وحدهم عبء قيادة قطاعات الفلاحين الفقراء ووضعهم في مواجهة التحديات القادمة، ليأخذ شكل الانشقاق بين نظامين وأطروحتين لا تلتقيان عند مفصل واحد، خاصة وأن فلسفة (ماوتسي تونج) وضعت في المقابل الأيديولوجي لثورة لينين، حيث اختلفت صورة البروليتاريا التي قادت الحركة البلشفية، عن البرجوازية الصغيرة للفلاحين الصينيين، الذين خرقوا التصور الماركسي بأنهم الطبقة التي لا يمكنها أن تمتلك حوافز الوعي والتطلع إلى الثورة في الوقت الذي فيه نجحت في الصين..
بعيداً عن هذا كله، وخشية من تنامي الجيوب الروسية داخل الإمبراطورية «الماوية» جاءت الثورة الثقافية التي قادها (ماو) لتدخل مرحلة التطهير الأيديولوجي «حتى إلى إشارات المرور الحمراء، والتي اعتبرت رمزاً للسير، لا للوقوف وليذهب المهندسون وأساتذة الجامعات إلى الريف، لتنظيف شوارع المدن الرئيسية، حتى يتم تطهيرهم من ذلك الفكر البرجوازي وتثقيفهم بحيوية وتجدد الفكر المادي..»
هنا تبدأ المرحلة الجديدة، فلم يعد «الصينيون يعتقدون أن الأرض مربعة، وأن بلادهم تشكل المربع المهم في الأرض، (۳) حيث وجد الرئيس الأمريكي نيكسون، أن الصين القوة المعادلة لنفوذ الاتحاد السوفياتي في آسيا، وهنا بدأت اللعبة تنتقل من تنس الطاولة، إلى غرفة العمليات الإستراتيجية لترسم حدوداً أخرى في الأمن الآسيوي، لأن تناسي القوة الأولى في القارة الكبيرة، نوع من «الغباء السياسي» ليبدأ محور الصين/ الولايات المتحدة، مقابل محاور الروس/ الهند/ فيتنام، وبالتأكيد فإن اليابان لم تكن تجلس على شواطئ المحيط الهادي يغالبها النعاس وسط مفاخرها التقنية، وسيطرتها الاقتصادية القاهرة، لأن السياسة الباب المؤدي إلى الاقتصاد، ولا يمكن عزل تفاعلات القوى القريبة منها دون أخذ كل الاحتياجات، خاصة وأن الصين عملاق آسيوي لم ينس سيوف «الساموراي» التي قطعت أوصال الصين..
• • •
«وكان الفرنسيون يستأثرون بالأرز والأرانب الصينية كأجمل هدايا للأباطرة الغربيين، بينما الجنود الإنجليز يتدافعون بحثاً عن العقود واللآلئ، والأثواب الحريرية المرصعة بالحجارة الثمينة» (4) ولكن المرحلة انتهت، لتبدأ سيرة السوق العظيمة البكر، وهنا فقط حدث السباق المحموم في الدورة الفلكية الراهنة، لتصبح الصين النموذج الآخر في مصاهرة آسيوية غربية في مقايضة التكنولوجيا وفوائض الإنتاج الصناعي، مقابل فتح السوق الصينية الكبيرة، ولكن بكين التي عرفت أن الإرث البيروقراطي، والجمود الأيديولوجي، لا ينفعان مع واقع التحديث الذي تنشده، ليبدأ «دينج هيساو بينج» مرحلة ثورة جديدة إصلاحية سبقت «غورباتشوف» في (إعادة البناء) حيث بدأ في تحطيم مركزية الشيوخ المتقاعدين داخل مقاعد الحزب والحكومة، ليعطي الثقة إلى الدماء الجديدة في قيادة المرحلة القادمة..
فالرصيد الصيني لم يكن فقط باكتساب تكنولوجيا الغرب، والمنافسة السياسية مع العملاقين الكبيرين، وإنما الفائض السكاني الذي وزعته على دول جنوب شرق آسيا في الصين الوطنية، وهونج كونج، وسنغافورة، وماليزيا وغيرها، تلك القوى الناجحة والمسيطرة اقتصادياً وإدارياً على تلك الدول «الميكروسكوبية» والتي تحولت إلى عناصر بناء أسطوري، عزيت إلى العنصر الصيني وحده، في الأرصدة الأكبر التي لا تزال تجد في الوطن الأم العمق التاريخي والمستقبل العظيم..
لذلك كان لإيجاد أرضية للتفاهم مع تلك الجيوب المتغلغلة في الاقتصاد الآسيوي، المجال الحيوي في جذب الخبرة والرأسمال معاً للوطن الأم وهنا بدأت المرحلة تأخذ طابعاً آخر، حيث أن الصين الشيوعية والتي تعتبر مشروع المستقبل المغري، من حقها أن تطرح الثقة أولاً لعناصرها المهاجرة، وتمنحها الفرص المتكافئة مع أي قوة اقتصادية أخرى، ومع أن العوامل لا تزال مبكرة في الإغراء فإن الآسيويين من العناصر الصينية، بدأوا بالفعل يتجهون إلى فتح النوافذ للإبقاء على الاستقلال الذاتي، وحرية العمل مع الوطن الكبير، وكأنها تغني مع ذلك الشاعر العظيم «لي – يو» أو أحد «الستة المعطلين في أريكة الخيزران» حين يقول:
«تذكر ذلك الذي اختطف سيفه وسار لحماية الحدود.»
«ذلك الذي قاسى أشد الآلام في البرد القارس وراء السور العظيم»
«ذلك الذي جندل في ساحة الوغى ولن يعود أبداً» (5)
السؤال مرة أخرى هل نندفع مع المقولة التاريخية «لنابليون بونابرت» بأنه «عندما تنهض الصين، يهتز العالم» والذي أخذها «آلان بيرفيت» عنواناً لكتابه، وهل تتحقق مصالحة تاريخية ومزاوجة استراتيجية بين تقنية اليابان وعمق الصين، لاختراق القوة الثنائية – الروسية. الامريكية – بـ «القوة اليابانية/ الصينية» وكسر الاحتكار بالمرحلة الآسيوية القادمة؟
ليس من أحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال، لآن الرصد «الإلكتروني» والعيون اليقظة، والهاتف الساخن بين البيت الأبيض والكرملين، وتغير المقاعد التي لا تقبل بها القوتان العظميان إلا بإذن خاص منهما، تجعل المرحلة الآسيوية تدخل نطاقاً آخر، وهو بتقديري أن الصين التي تحتاج إلى الوقت والمال والتقنية المعاصرة، تحتاج إلى سياسة النفس الطويل في معركة القواسم المشتركة، وإن كان ما يظل احتمالاً في اليوم، قد يصبح واقعاً في الغد.
المصلح الصيني العظيم الذي كان يضع على باب قصره طبلاً يضربه الناس إذا أرادوا أن يدعونه لسماع شكواهم، أو لوحاً يكتبون ما يشيرون به على الحكومة. (6)
أو الحكيم الآخر الذي قال: «إن ألين الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليها، وليس في العالم شيء ألين وأضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القوية» (۷)..
فهل بدأت الطبول الصينية، ومياهها المتسربة تدق وتدخل الشقوق الأرضية لتفتح الأنفاق الجديدة على الكون لتكون الذبذبة القادمة للعالم؟!
ذلك ما لا يستطيع أن يتنبأ به أحد، ولكنها في كل الاحتمالات أمور تصلح أن تكون محل رصد وتحليل لعالم يمور بالسرعة والمتغيرات.
التاريخ / الثلاثاء 9 جمادي الأولى 1408هـ – 29 ديسمبر 1987م
0 تعليق