حين نقول أن حرب أفغانستان يتقاطع داخلها نفوذ القوتين العظميين، فإن حرب الخليج بين العراق وإيران لا تخرج عن نطاق التجاذب الاستراتيجي بينهما، وهذا ما ينطبق على لبنان وجنوب السودان حيث الغطاء يتخذ شكل الحروب المتعددة الوجوه، طائفياً، و أيديولوجياً وسياسياً..
تحت المظلة الكبيرة نبتت بذرة النضال الفلسطيني، ولكن مسلسل الخيبات ومحاولة تحجيم الشريان الفلسطيني في الدورة الدموية العربية والعالمية إلى حيز ضيق، أدخلا القضية في مسارات الدبلوماسية الرخوة
ليبدأ المشوار الآخر بين القبول بسلام إسرائيلي منفرد، أو تجاهل تام للقضية، لتذوب في دوائر اللجان والأزمنة الطاحنة..
لكن الانفجار الأخير جاء بمعادلة رحم الأم الفلسطينية الولود، مع الأرض التي تنبت الحجارة، وتبني سواعد الأطفال، أو لعلها عبقرية الشعوب التي لا تتراخى مفاصلها حين تواجه بوسائل الضغط العسكري والسياسي، أو حتى حالات التجويع والقتل، كما يحدث الآن في الأرض العربية المحتلة..
العدو الصهيوني انتصر في ۱۹6۷م، وحجم حرب ۱۹۷۳ ليضعها في حوزة الصدمة المؤقتة، ثم جاء الغزو للبنان ليضع أخر حد لأي قوة فلسطينية وكانت النتائج معاكسة تماماً، لأن المقاومة اللبنانية وشجاعتها، جعلتا الشعب العربي الفلسطيني بأخذ دوراً مماثلاً أمام النزعة الصهيونية، لتصبح ثقة الجيل الثالث أكثر معاناة وقوة لتتوفر الأرضية التي سمحت للانفجار الأخير أن يأخذ بعده السياسي أمام الرأي العام العالمي، وبعده النضالي على الأرض المحتلة..
وإذا كان الفلسطينيون يقومون بتنقية ذاكرة التاريخ بالحجارة ليضعوا الموازنة بين طريق الألغام وطريق الحرية، فإن أول ما يتبادر لذهن إسرائيل هذه الوحدة الشاملة في المبادرة والالتفاف بين من بقوا أثناء احتلال 48، وبين من دخلوا الاحتلال بعد عام 6۷، وكيف تحول الموقف إلى ما يشبه التحدي، والانسلاخ من أي وصاية سياسية وتخلياً عن كل الحيثيات التي جعلت القرارات الدولية مجرد أقراص لتنويم القضية..
العدو عرف أن القضية الفلسطينية ليست غطاء سياسياً قابلاً للتفسخ مع الزمن، بدليل أن تصريحات زعمائه تدرك البعد الجغرافي والسكاني بأنهما الورم الخبيث بالأحشاء الإسرائيلية، ولم تعد المسائل تحسب بمحاور القوة حيث أن الرئة الفلسطينية أكثر قدرة على تحمل الأجواء الملوثة، هذا إذا لم تتأقلم معها وتصبح المناعة ضد كل الصدمات هي الغذاء الفعلي لصدور هذه المقاومة وتفاعلها..
وإذا كانت المكاسب من هذه الانتفاضة كبيرة ورائعة، فإن الخسائر الإسرائيلية جاءت بحجم هائل، إذ أن تقييد القوات الإسرائيلية ووضعها في حالة استنفار دائم، وإضراب العمالة الفلسطينية التي تعد المحرك المهم في الاقتصاد الصهيوني، جاءت في الوقت المناسب في إشراقة عام فلسطيني جديد، لتكون العوامل المساعدة في تدهور جديد داخل حزام الأمن الصهيوني الهش.
المكسب الآخر، أنه ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية يتعامل العالم مع موقف يكشف إسرائيل وعريها الأخلاقي والإنساني، لدرجة أن شجاعة الوزير البريطاني السيد «میلور» وصفت من الصحافة البريطانية بأنها الموقف الرسمي للحكومة أمام أحداث الأرض المحتلة ومن هنا يبدأ التساؤل..
هل ما قاله الوزير البريطاني الشاب تعبير أوروبي وأمريكي بالدرجة الأولى، وأن الظروف الراهنة جعلت بعض الساسة يدركون أن العدو يحتاج إلى مراجعة جديدة في وسائله السياسية لتتكلم بريطانيا نيابة عنهم بما يشبه التحذير، واتخاذ موقف أكثر وضوحاً في سباق الأحداث الراهنة.
قد لا نتفاءل أو نعطي القضية ما يفوق حجمها، ولكن الأمر يضعنا أمام طور آخر إذ أن القيادات الأمريكية لا تستطيع إعطاء أي رأي طالما أن معركة الانتخابات بدأت تحتدم، ولكن الافتراضات الأخرى ترى أن ذلك يعني تحجيم الرأي الصهيوني كعامل ضاغط في الانتخابات القادمة، وهو ما يسمح بجعل القيادة القادمة ترى الأمور من زاوية أكثر انفتاحاً خاصة وأن قضية التجسس الإسرائيلي، وتوريط البيت الأبيض بفضيحة تسليح إيران هزتا الموقف الرسمي هناك، حتى لو جاء العتاب الأمريكي ليناً ومتسامحاً مع العدو..
على الجانب الآخر، فإن أوروبا، وإن لم تتكشف أبعاد مواقف الكثير من دولها، إلا أنها تواجه ما يشبه تأنيب الضمير، ومحاولة الاستقلال برأيها عن السياسة الأمريكية/ الإسرائيلية، لأن مصالحها بالمنطقة موازية بظروفها إلى مصالحها مع كثير من المؤسسات الاقتصادية الهامة في العالم، ومعناه أن أي تطور يأخذ بثنائية الموقف الأمريكي/ الإسرائيلي قد يؤثر على الكثير من المكاسب الأوروبية ذاتها..
كذلك الأمر مع القضية الفلسطينية من زاوية أنها ليست احتقاناً مؤقتاً أدى إلى ما سمي بحالات الإرهاب، لأن المقاومة الداخلية في الأرض المحتلة قامت دون مساعدة أي قوة أجنبية بما في ذلك من يتعاطف معها أو يأخذ بالجانب السياسي منها داخل المحافل الدولية..
الرقم الفلسطيني يتصاعد في ميزان الرأي العام العالمي، ولكن المسافة بين من يعطي من دمه وقوته، وبين من يكرر الأحاديث المتواترة والمملة في الشجب والاسترخاء على مقعد وثير في مكاتب الأمم المتحدة، أو وزارات الخارجية للدول الكبرى، يجعل مهمة العدو، وإن كانت صعبة، إلا أنها سهلة لامتصاص الحدث أمام المواقف العربية شبه السلبية..
فالعدو يملك وسائل الضغط بالتجويع، والحصار، ومنع المياه والأدوية، وأخذ القيادات الشابة للمعتقلات، وحتى لا تتكرر المواقف السلبية، فإن التحرك العربي على صعيد الدعم المباشر، وتحريك القوى الخارجية بتبني الرأي الفلسطيني، ومحاولة إدخال أكثر من عنصر محايد، أو طرف رسمي في القضية، تؤدي إلى إحداث خلل في الخطط الصهيونية، لأن العيب العربي دائماً أنه يتعامل مع الأحداث بسلبية مطلقة، تضع الرأي المقابل غير مهموم أو مبال بما يحدث، ومن هنا تأتي الانتفاضة بما يشبه الصدمة التاريخية الحقيقية للعدو، وهي بمقياس آخر تشكل الفعل الأخطر حتى من الحروب التي كسبتها أو خسرت بعضها.
هنا فقط تأتي مسؤوليتنا القومية والأخلاقية فنحن أمام حقائق جديدة أنهت المسلمات الإسرائيلية بأنهم «جاءوا لأرض بدون شعب لشعب بدون أرض» لتكون المجابهة تكذيباً لهذه الرؤية التي كسبت بُعدها السياسي وشبه القانوني أمام العالم..
الخيار الفلسطيني حاد ومحرج معاً.. حاد لأن الانتفاضة شكلت قناعة جديدة بأن وحدة الشعب العربي الفلسطيني فوق كل الاعتبارات، وأن المدارات التي تسير فيها أفلاك القضية خارج التحجيم أو الضغط من أي جهة كانت..
ومحرج، لأن كل التسهيلات التي أعطيت بتحويل القضية من موقف نضالي، إلى سياسي، هو تجيير للرقم الفلسطيني في خزانة مكاسب إسرائيل، وتلك مسألة تجعل الموقف العربي أكثر انتصاراً إذا ما تحرك بشكل يتناسب وتفاعلات المشكلة..
فأمريكا تعاني الآن من أوضاع قابلة أن تعدل الموازين في المنطقة، لاسيما وأن استثمار القضية بموقف عربي واحد، ومحاولة كسب الرأي الأوروبي، والسوفياتي، وتحريك المواقف المناصرة لنا في العالم الثالث، مهمة وفعالة، ومن هذا المنظور ستتواصل المقاومة وتفرض وجودها داخل إسرائيل وخارجها..
الوسيط الدولي الذي اغتاله الصهاينة السيد «برنادوت» قال لوفد عربي عام 1948م. «إن مرد الوضع المتأزم في فلسطين هو سياسة الإرهاب والعدوان التي تلجأ إليها أقلية سكانها ليس لهم أي حق شرعي فيها، خاصة وأن القسم اليهودي في فلسطين يتكون بشكل رئيسي من المهاجرين الذين لا يمتون بصلة لمنطقة الشرق الأوسط.. (كتاب الإرهاب.. أكاذيب وحقائق) لمؤلفه «مود جوريان»..
ثم يعقب بحديث آخر..
«لم تولد الدولة اليهودية في جو من السلام كما كان متوقعاً عندما صدر القرار رقم ۲۹ تشرين الثاني، ولكن نشأت في جو من الإرهاب والعنف»!!
ويقول (إيلان هاليفي) في كتابه «إسرائيل من الإرهاب إلى الدولة» أن الصهاينة «هم الذين جعلوا من عذاب يهود أوروبا المصدر الرئيسي لشرعيتهم الدولية» ثم يضيف بأن «الجثث التي أقامت إسرائيل حصانتها الأخلاقية عليها يرون أن ممجدي هذه الحصانة يرون بجزع صور استشهاد الفلسطيني تحتل الشاشة، ويعرفون أنه كلما طالت قائمة الضحايا ازدادت الرأفة ولذلك هم يحتجون دون توقف على المبالغات العددية لخصومهم»!
هاجس الأمن الصهيوني هو نقطة الضعف، وهو في مقدمة اهتماماتها وذرائعها، ولكن هذا الأمن سهل الاختراق، لأن كل العمليات والتحصينات لم تتسبب في خلق ذلك التوازن الذاتي بين الآمال والوقائع، حتى أن مؤشرات كثيرة وجدت أن العرب الآن ليسوا بحاجة إلى حرب معلنة يخسرونها، طالما أن عامل الزمن بصالحهم وأن الأراضي التي احتلها العدو عام 67 تحت قناعة الوعود التوراتية، ليست إلا «شوكة في عيونهم» وهو التعبير الذي اختاره «كاهانا» في رؤيته للعرب الفلسطينيين، لأن «شيطان الجغرافيا» هو أخطر ما يراه هذا الإرهابي..
الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى زجاجات العطر، كهدايا للصمود، ولكنهم بحاجة الى النفس الطويل في اختراق حاجز العدو سياسياً وعسكرياً وأمنياً، لأنه إذا كان «بيغن» يقول «لا يحق لأحد أن يبشرنا بالإنسانية، فإنه وعصاباته يشعرون أنهم داخل النفق المظلم، لأن «دايان» بطل (67) حين سُئل كيف ينظر للدولة الصهيونية بعد ثلاثين عاماً قال: «أرجو أن لا أعيش هذا الزمن» وهو حكم يظل يأخذ دورته الزمنية والحتمية، وهنا فقط يأخذ عمق المشكلة الأبعاد الحقيقية في الصراع الطويل.
فالذي لا يريد أن يبشره أحد بالإنسانية وكذلك الذي لا يريد أن يعيش المستقبل الآخر، هما من الأعمدة التي انتصرت عليها الدولة الصهيونية في حروبها وتصرفاتها، ولكنهما في حقيقة الواقع يجدان أن الأزمنة هي التي تحدد طبيعة الصراع ومستقبل الشعوب، ولذلك لا يريدان أن يريا ما يدعيان أنه «الإرهاب المضاد» كمشكلة قادمة..
الإشعاع الفلسطيني جاء وسط كافة الظلمات، تطوراً جاداً في أخذ الواقع كلغة وفعل حقيقيين، وهنا لابد من المضي في تعريف القضية الفلسطينية، بأنها الخلية المنتظمة في الصراع القائم، وأنه بدون أن تراها العين المجردة، فإن كافة العواصف والتيارات، والمدارات الكونية، ليست إلا صوراً صغيرة أمام أبطال الحجارة، ولعل لكل لغة صوتها الخاص، ومن هنا كانت الحجارة أقوى الأصوات في زمن الأقنعة والتضاد الصعب!
أخيراً.. بقي الرحم الفلسطيني بدون حبوب منع الحمل، ولذلك صارت القناعة بأن من يولد هو البطل، وهو الكابوس العجيب لبطون صهيونية لا تريد أن تتناسل إلا الخوف والخيانة، والغضب الانتحاري السخيف.
التاريخ/ الثلاثاء 23 جمادي الأولى 1408هـ – 12 يناير 1988م
0 تعليق