اليقين الضائع!

حروف وأفكار | 0 تعليقات

قالت:

– «لقد توقفنا عند محطة يجب أن نأخذ فيها استراحة مفتوحة، وحتى لا يتداخل الوهم مع الواقع، فإننا عشنا المرحلة التي لابد أن نصل فيها إلى نهايات موضوعية»..

قاطعها محتداً..

– «من يسمعك، أو يفهم أفكارك يرى أنك تسكنين فوق محطة «بنزين».. فأنت قابلة للاشتعال في كل وقت، على الرغم من مرورك بحياة تقل فيها العواصف، حتى أننا في الغربة شبه الطويلة عايشنا مجتمعاً أعطانا تجربة أخرى، حيث لا محل للعواطف الحادة في العلاقات الزوجية، لدرجة أنك تصفين ذلك المجتمع الغربي بأنهم يسكنون غرفاً محاطة بالجليد، وبالتالي لم تعد لديهم عواطف تفيض عن الحاجة»..

ردت بهدوء..

«المسألة أننا لأول مرة ننزل إلى الأرض، فأنت رغم ما تتمتع به من مقاومة لمزاجك وطرحك حسابات جديدة لكل موقف تفاجأ به، إلا أنك تخلو من اليقين الذي يجعلك توازن بين طبائعك ومخزونك من التركة الكبيرة التي تركبت عليها ذاتك، واسمح لي أن أقول أن روح المخادعة الذاتية عندك هي التي جعلتني أتصورك بحجم مختلف ولذلك فإن (تنوري) لا يصلح لعجينة خبزك طالما أن قابلية الاشتعال عندي، أكثر «خراطيم» مياهك الباردة»!!

عدل جلسته، وكمن يسحب مجرة جديدة في الكون الواسع قال:

«… منطقك فيه شيء من الصفاء، وشيء من الواقعية، وبحثك عن يقيني استرسال «ميتافيزيقي»، ولعل القضية ناتجة عن سوء تطابق في الأفكار وتحليل المواقف، ولهذا السبب ظلت علاقاتنا تنمو خلف الأشياء الصحيحة، إذ أننا من الطينية ذاتها وإن اختلف المقياس والشكل اللذان تحدد فيهما آراؤنا وسلوكنا..

فأنت متفقة تتنازعك رغبات تفوق الواقع، وأجزم أن الصدمة التي تعيشينها هي من مشتلك الخاص، والذي قام على استزراع صناعي، بحيث ظلت التربة والأسمدة، وحتى المياه مستوردة ومن هنا بدأت الصعوبة في قبول التنازلات إلا من طرف واحد …»

احتدت قالت بغضب.

– «.. إنك ذات النسخة (المكربنة) من كل الرجال، محاصر بنوازع الطفولة والرجولة، تعيش حالة اختناق دائم، إن لم أقل بحصار تاريخي بين سلطة أبويك وحياة الغبن الاجتماعي، ولهذا السبب فإنك تريد أن تخلع كل الأبواب في سبيل أن تقفلها على غيرك..

وإذا كنت مشبعة بنزعة التكيف، واعتبارات القيم التي تنسج عليها خيمتنا، فإنني لست مطالبة أن أكون الحاضنة والزوجة، وهذا مصدر خلافي معك، وهو أن كل ضعف في بناء شخصيتي يعد تراكماً في خزانة كبريائك، وأعفني من هذه القسوة، إذ التخلي عن شيء، وبنفس الوقت المطالبة بما هو فوق المحتمل يعتبر نقصاً في تكاملنا الأسري»..

وكعادته في امتصاص أي انفعال.. قال معقباً..

– «نختلف نعم، ولكن قسوتك ترجع أساساً إلى رؤيتك للمواقع من خلال أبعاد ضيقة، فأنا أقاوم انفعالك من موقع مسؤوليتي كزوج بحمل موروثه.. ولكنه ينفي أن يكون مزدوج الشخصية بين نوازعه وتصرفاته، بحيث أظل أختفي بثوبين أو رؤيتين متعاكستين، وطالما أننا في حالة «اللاتلاؤم» في الوقت الحاضر، فإن الوصفة المشتركة التي يمكن أن نتعاطاها هي أن نخلص لمواقفنا حتى لو كانت متعارضة، لأنها الحالة الخاصة التي يمكننا من خلالها أن نصل إلى مواقع الانفراج والقبول بالتصحيح لأي وضع سلبي أو إيجابي»..

بين صمتها وتحفزه الهادئ، بقيت في حالة التنازع التام، وفيما إذا كانت في الوقت المناسب لإعلان موقفها النهائي، حتى لا يتغذى الخلاف، ويصل إلى اقتلاع كل شيء. وفي هذا الحصار قاومت رغبتها لتستفزه مرة أخرى قائلة:

– «كلانا في الدائرة المغلقة، وأعتقد أننا بحاجة إلى إجازة مفتوحة نزود بها رصيدنا من المراجعة، وأظن أنك تلتقي معي بأن العذاب الذي نعيشه يحتاج أيضا إلى إعادة تقويم، لأنه من غير الواقعي أن نتبادل التهم، ونتحمل سلسلة من المخالفات الأدبية، دون أن نصل إلى حالات الحسم المعقولة والمقبولة… قاطعها قائلاً:

– «أوافق بشرط أن يُبني هذا التعليل على طلب منك، ويكون سراً بيننا حتى لا تكون للرياح الأخرى مجال في سد الفراغات التي سوف تتركها حالة افتراقنا المؤقت»..

قالت معقبة..

– «إنه واقع لابد منه، وصدقني أنني لم أقدم على هذا الطلب، لو لم أجد أن كل الأسباب متوفرة في أن أواجه نفسي ومصيري بكل إخلاص»..

قال مودعاً..

«أشعر أننا ننتصر للحقيقة، وأرجو أن نواجه المستقبل بما يضمن سلامة تفكيرنا وسلوكنا، لأن المعركة الأخرى قد لا توفر لنا كل المناخات الصحية، خاصة لو أطل علينا من ينازعنا المسئولية»..

قالت:

– «ذلك ما أعتبره الطريق إلى صياغة القرار النهائي في حياتنا القادمة..

• • •

تجاوزت المدة المقررة ما كان متوقعاً لهما.. حملت حقائبها مع أهلها في رحلات طويلة، غرقت في التحاليل النفسية، بحثت في مصنفات مختارة حالات تقبل القياس على وضعهما.. استشارت صديقاتها، قلبت في ذاتها كل المخارج التي تستطيع أن تجعلها مفاتيح لمشكلتها، ولكنها في النهاية وضعت حداً لابد أن تكون النهاية..

• • •

أمامه قالت الحقيقة.. فقد نشأت على أن تسوي معركتها مع الحياة بخلائط من الحلم والعفوية، وكتدليل على صدقها، فإنها تركت للاختصاصي النفسي أن يختار جميع الاسئلة دون حرج، عند نقطة معينة انفجرت باكية بعصبية، حتى أن الاختصاصي أرجأ الجلسة الأخيرة إلى ما يزيد على الأسبوعين تختار بعدهما الوقت المناسب لطرح المشكلة من كل أبوابها..

كانت لواقعيتها المفتاح المهم لشخصيتها المتداخلة العواطف مع الأحلام، وذلك الاستسلام المطلق، والثورة العنيفة التي عاشتها في سنوات زواجها الماضي..

فهي لم تجد فيه أكثر من زوج يحمل صفات متوترة في حياتها، أنه صورة الأب رغم تقارب السن والهموم، ولكنه الظل للزوج الذي تتداخل في سلوكه عوامل الإخلاص وبؤر التناقض الحاد..

لقد أحبته، خلعت عليه بناءها المعماري، ولكنه غير مؤهل أن يضعها في الأفق الذي يتسع لحياة تقاوم التصدع أو تتسم بالمعايشة الطبيعية..

فعلى الرغم من جموده الذي يصل إلى التنازل الكلى لها، فإنها ترى في ذلك مجرد أبوة الطفولة ناقصة، تحاد في الطبائع، وثورات عاطفية مرهونة بلحظات مجنونة عاصفة..

لقد قالت له يوماً «إنك مجرد هيكل في «فترينة» للأزياء الرجالية، إنك لست جديراً بي، إنني أتصورك منزوع المفاتيح للرجولة المتكاملة، ومع ذلك لم يقاسمها الغضب، وإنما انسحب ليترك لها المعركة تعالجها وحدها مع لاوعيها وخرائط حربها.

اعترفت بذلك كله، وحتى لا تترك فرصة لتداخل الألوان على ماضيها، فإنها دفعت بصراحتها إلى أن تظل قريبة من كل شيء..

قال الاختصاصي..

– «إن التقرير النهائي لا يمكن أن يتم إلا بحلقات أخرى من الجلسات الطويلة التي تحتاج إلى تصميم هيكل جديد لحياتها..

• • •

استدعى الزوج.. اختلق قضية أخرى بأن وضعية زوجته محتاجة إلى جهد خاص وتضحية متساوية مع مسئولياته كإنسان وزوج معاً، وكتأكيد على بناء الثقة بينه وبين الزوج، قال إنني لا أضعك أمام تحليل نفسي، أو اختبارات عضوية، أن مجهودك فقط هو أن نصل إلى الخيط الذي يصل تلك العواطف المتناقضة مع التجربة اللامتكافئة بينكما..

قال الزوج معترفاً..

– «لقد شعرت أنني أساهم في أزمتها وكأنني في حالة غيبوبة، إنها تشحن عواطفي بما يجعلني أضعها في موازين مختلفة عن حياة زوجية طبيعية..

عشت لا أرفض لها أي طلب، أقف منها مختفياً بشخصية أخرى، صحيح أنني أتماسك معها بواجب الزوج، ولكن الحقيقة مغايرة تماماً، إذ أنها صورة أخرى تغريني بالضياع في عالمها.. هي نسخة تقبل التشكل في كل لحظة، عشت معها أحاول أن أطور مواقفي وأقنع نفسي بأننا في منزلة متساوية المسافات والحدود، ولكنني أشعر بالضياع وقت أي منازلة، إنها محطة تمويه لعواطفي ونسيج حياتي، ومع ذلك فإنني لم أحيا مستقلاً عنها، إنها كل القيود والفصول العاصفة في عالم الهموم»..

ثم أكمل..

– «لقد حاولت أن أغلق ملف الزواج نهائياً، وتعليلي أننا خارج منطقة التوازن، ولكن جاذبية خاصة أمامها تدفن كل مشاريعي، أنني أراها بلون خاص، تماماً كأي طقوس لراهب بوذي يعيش دورة اللاوعي أمام معبوده الخرافي»..

قاطعه الاختصاصي قائلاً..

– «حتى الآن لا تقف على النقطة الجذابة في شخصيتها، هل هي روحها المتناقضة، لأقول إنك فيلسوف، أم تقاطيعها التي تعوضك بجمالها، أو هي تلك الصلة الخفية التي تدفن في أعماقك عالماً آخر تتمازج فيه مواقع مختارة من طفولتك وشبابك»؟

قال:

– «لأختصر لك المسافة، أن فيها التجسيد الشامل لكل المراحل التي عشتها وباختصار محدد، إنها تحمل صفات الأخت في طيشها والأم في تنازلها في لحظات صفائها النادرة، ولذلك فإنها الخيار الصعب الذي يجعلني استسلم بطوعي، وكأنني تابع صغير في قافلة من الأطفال في روضة خاصة..

• • •

عند هذه النقطة اتحدت المشكلة في نظر الاختصاصي، أنه أمام إطار من الطفولة المتأخرة..

فهي تراه بعقدة الأب في الملامح العامة، ولكنه لا يحمل الصفات التي تجعلها في نطاق ذوبان الشخصية أمام جبروت الأب الحليم والصارم، وقارع الطبول عند كل خطر..

وهو يحمل شكل الطفل الرضيع أمام حلمة ثدي أمه، بمعنى آخر أنه يبحث عن خلاص فقده في مراحل طفولته المتوسطة.

• • •

في لحظة المواجهة وفي عيادة الاختصاصي قالت لزوجها..

– «لم نكن نحتاج إلى وسيط يدون رحلة عذابنا، لقد تبادلنا الغباء المقنع، إن كلامنا يقف على حافة خطرة من حياته.

قاطعها متسائلاً:

– «.. وهل أنت التي ستدفع الخطر الى نهاياته الصعبة»؟

قبل أن ترد طاف بها عذاب تلك الأيام.. قالت..

– «لست على كل حال السبب المباشر في تأصيل تلك العقدة، إنها من تراكم طويل في مسلسل حياتنا المعقدة، ومن غير الممكن تجاوز الأزمة بافتراضات غير صحيحة وأن ما نحتاجه للتخلص النهائي من أحلام زائفة أخذت قناعات مطلقة».

قال…

– «.. والأهم أن نعترف أن الخطيئة ليست دائماً بدون ثمن، ولعل قيد الحياة هو الرقم الجميل في المعادلة المستمرة، أو هي النتيجة لحالة الصفر في تأسيس عالم بلا فراغات دائمة..

التاريخ/ الثلاثاء 7 جمادي الآخرة 1408هـ – 26 يناير 1988م                 

مقالات مشابههة

الكرت الذهبي!!

الكرت الذهبي!!

لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...

التفسير المضاد!!

التفسير المضاد!!

لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك،...

رأي في موضوعين

رأي في موضوعين

في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *