العالم مستوطنة تتصارع فيها الفيلة!

حروف وأفكار | 0 تعليقات

كثير من المحللين الإستراتيجيين يرون أن العالم حكم نهائياً بسطوة القوتين العظميين، وأنه لم يعد هناك من مغامرات جديدة لبناء إمبراطوريات المستقبل التي قد تزاحم على تقاسم النفوذ في العالم، لأن تأشيرات الدخول إلى نادي القوة محكوم بتوازنات لا تقبل المزاحمة في خلق منافس آخر، وأن كل ما يسمح به من بناء اقتصادي أو عسكري يحلل ويقاس ضمن هيمنة القوتين العظميين، ومدى تأثير ذلك على مستقبلهما حتى لا تفلت تلك الحبال من الشبكة المغروسة أوتادها في البيت الأبيض والكرملين.

لقد كان تهكم (ستالين) من البابا حاداً حين قال «كم يملك البابا من القوات العسكرية حتى يحارب الإتحاد السوفياتي»؟ ولعل السبب هنا أنه لم يعد لنفوذ الكنيسة سلطة كونية بعد أن رسمت أبعاد الحياة المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تلك الإمبراطوريات التي حكمت أوروبا وروسيا، هي التي أفرزت التقلبات التاريخية، ليتحول الأطلسي كأكبر محيط تعبره الهجرات الضخمة إلى العالم الجديد، والذي أصبح فيما بعد القوة الأولى في العالم اقتصادياً وجغرافياً وعسكرياً، ولتعد أمريكا الانقلاب الخطير على خارطة الإنسانية المعاصرة تقنياً وعسكرياً حتى يومنا هذا..

ومثلما انتهى عصر الحرب الباردة، والنفسية وخلق زعامات مثل «خروتشوف» كمعادل لغطرسة وزير الخارجية الأمريكي في الخمسينات والستينات «فوستر دالاس» فإن تلك العنتريات قيدت خطواتها بعد أزمة خليج الخنازير، ليبدا الخط الأحمر بين البيت الأبيض والكرملين، عامل تطمين بعدم رفع درجة الضغط إلى استعمال المخزون النووي، وهنا فقط أسدل الستار على تلك الزعامات ليبدأ موقف آخر يتراوح بين الشد العصبي، والمناورة الباردة في إقلاق كل معسكر للآخر، ولكن مع تطور التكنولوجيا، وخشية أن تفلت تلك الخلايا الشاذة من المعامل الروسية، والأمريكية، فإنه لابد من ضبط وإحكام السيطرة عليها تحت ذرائع الشروط المعاصرة لعالم لا يخرج عن القبضة الثنائية للمعسكرين مهما تعددت الأحوال والظروف..

فالاتحاد السوفياتي الذي تحول من الصرامة الأيدلوجية إلى العقلانية التي تتوجب تطوير قوته وفق مسلمات المستقبل، قد لا يكون بالضرورة منهجه قائماً على تبعية أيدلوجية للغرب، وهذا ما جعل أكثر من صوت غربي يؤمن أن خطر القوة الروسية قائم، سواء في تحصيناته العسكرية وانغلاقه الذاتي على نفسه، أو قبوله بتطور جديد يجعله منافساً اقتصادياً وتقنياً للمعسكر الغربي في السوق العالمية القادمة، ويأتي تفسير الوفاق الأخير بين المعسكرين بأن لكل من أمريكا وروسيا نقاطاً جوهرية تلتقي عندها استراتيجيتهما المشتركة ذات الأبعاد المرحلية أو الطويلة..

فأمريكا تشعر أن أوروبا ليست المكان الثابت الذي لا يمكن الصدام معه على المصالح القادمة، أو الاعتماد عليه في رسم أبعاد سياسية اقتصادية وعسكرية، وأن تجربة حظر تصدير القمح للاتحاد السوفياتي التي وضعت قيودها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك محاولة تعطيل أنبوب الغاز الروسي لأوروبا، ثم حرب النجوم التي وضعت لها كل المغريات في سبيل جذب الدول الأوروبية، جاءت بما يشبه الصدمة لتلك الدول، إذ أن البيت الأبيض هو الذي اخترق هذه المواثيق بصفقات من الخلف، ومع نفس العدو، وبما يجعله أحادي التصرف دون أي اعتبار لحلفائه..

الأمر الثاني جاء بالأزمة الاقتصادية الطاحنة والتي تحولت إلى مشروع حرب طويلة الأجل داخل المعسكر الرأسمالي الواحد، والنظر إلى أمريكا بعين الريبة باعتبارها صاحبة الدور المعد سلفاً لوضع القيود على الاقتصاد العالمي، وجعله أسير سيطرتها وهنا فقط بدأ الصراع يأخذ بعداً آخر تحكمه تصورات وتقديرات بين اليابان كجناح شرقي آسيوي، وبين الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا بالذات باعتبار أن بريطانيا لا تزال خارج الدائرة الأوروبية وذلك في تحليل مظاهر هذه الأزمات، وتشكيل تنسيق يجعل أوروبا أقل تضرراً من أي منافسة أخرى..

فأمريكا، وربما بحدس خاص، اتجهت إلى كندا لعقد ما يشبه الوحدة الاقتصادية الواحدة معها، وتتجه كذلك إلى أمريكا اللاتينية باعتبارها التعويض الفعلي عن أوروبا كمجال حيوي لها في العقود القادمة وعلى اعتبار أن اليابان ليست محكومة بالتصور الأوروبي دائماً، إن لم تكن الأقرب إلى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، أو قد يصبح من مصلحة اليابان تفكيك جبهة الغرب في سبيل الحصول على مكاسب أكبر سياسياً واقتصادياً تلك الاعتبارات هي التي قادت أمريكا إلى خلق مصالحة مع القوة العظمى الأخرى في المجالات العسكرية، ومن ثم التفرغ إلى ملء الوعاء الخاوي بهندسة اقتصادية تستشرف المستقبل القادم وبما يشبه الاتفاق مع الخصم التاريخي في اقتسام النفوذ في العالم..

الجانب السوفياتي ليس بعيداً عن نفس الروح وهو وإن كان بلداً آسيوياً وأوروبياً، فان عقد صفقة مع الهند كقوة آسيوية، ومحاولة مغازلة الصين في ترك (أكثر من مائة زهرة تتفتح) فإنها لم تغفل عن أوروبا بقطاعيها الشرقي والغربي لأنها الأقرب جغرافياً لها، وإن نزع السلاح النووي من القارة يضعها الأقرب إلى الحياد، وهو الذي سيفيد الروس من التقدم التقني والاقتصادي الأوروبي..

الدوائر الأوروبية واليابانية ليست غافلة عن التنسيق بين المصالح الأمريكية/ الروسية، لأن هاتين الذراعين لا تمسكان فقط بباقات الورد أو خرائط مواقع الصواريخ، وإنما الهدف أن تبقى الأحجام كما هي غير قابلة للنمو، وهذا الشعور هو الذي كثف الحذر الأوروبي بوجه خاص من أي صفقة لا يعرفون ملفاتها السرية أو بنودها..

وسط هذا الضباب الكثيف نجد أن هناك من يتفاعل بانعقاد صلح كوني بين المؤسسات التحتية اقتصادية أو دينية، أو ثقافية، بحيث تعيد توازن العالم الى ما يشبه الدولة الواحدة، وهي وإن كانت صورة لعالم «اليوتوبيا» إلا أن أصحاب هذه النزعة يتفقون على أن المقدمات موجودة بين شبكة العلاقات الإنسانية، وأنه من خلال ذلك يمكن تشكيل عقل إنساني واحد تتعدد فيه الحريات الذاتية، ولكن لا تتنافس على مواقع قد تؤدي إلى إفناء هذا الكوكب الصغير بمخزون الدمار الذي تتحكم به المؤسسات العسكرية..

مثلاً هناك من يتصور أنه إذا كانت الشركات المتعددة الجنسية تسعى إلى إحكام سيطرتها على العالم من خلال قواها الظاهرة والخفية، فإن هذا يجرنا على الاحتكام إلى أن الأسباب تجعل المجال مفتوحاً لقوى تسعى هي الأخرى إلى أن تقوم بوظيفة الموحد لمختلف الشرائح الاجتماعية وأنها قادرة على التأثير حتى داخل المؤسسات المالية بتأثيرها العقائدي الديني أو المادي، بحيث يمكن التحكم بمسار السلوك البشري من خلال القيم والمصالح وأن تقارب رجل دين مع أخر في بيئتين مختلفتين قد يوجد العلاقة الأكثر التصاقاً من عسكري تحكمه مؤسسة مالية تقيم روابطها على فلسفة المنفعة وحدها!!

رأي آخر يرى أن في تطور الإنسانية ومحاولة صيانة هذا الكوكب من العبث في بيئته وتراثه الفكري والروحي يجعل قابلية لقاء الشخصية الثقافية من أي بيئة مع شخص آخر قد يشكل الوحدة الانسانية في إطارها العملي، وأن مثل هذه القوى الاجتماعية قادرة أن تقف بين الصراعات السياسية والعسكرية إذا ما تنامت واستطاعت أن تجعل فلسفتها السلمية قابلة للفعل الإيجابي..

العامل المهم في كل هذه الأفكار أن عالماً ينمو ويتبدل، وأن التقارب بين العناصر البشرية قادر على حسم الخلافات وتقليص رقعة الأغنياء على الفقراء باعتبار أن المشروع الإنساني الأكبر سوف تكون مجابهته القادمة بين سكان هذا الكوكب والكواكب الأخرى كما كان يتخيل «برتراند رسل»، لا أن يظل مستوطنة تتصارع فيها الفيلة..

ومع أن كل تلك الآراء افتراضية تحكمها أمال غير قابلة للتحقيق، إلا أن أخطر ما يواجه المجتمعات البشرية الراهنة هو «أمية الجيل الواحد» أي أن المنافسة على اكتساب المعرفة وملاحقتها، وعلى سبيل المثال «الكمبيوتر» جعل أصحاب المنزل الواحد، والمدرسة الواحدة تقع بينهما فواصل كبيرة من المعرفة والجهل، وهو تطور آخر يعزل المجتمع الواحد على نفسه مما يجعل السلطة آخذة بالمركزية والاحتكار بحيث أن وسائل التكنلوجيا المعاصرة سوف تكون الأداة في السيطرة على المقدرات البشرية، وأن نخبة جديدة صارت تضع العالم تحت يديها لدرجة أن تلك المثل التي تقول بتحرير الإنسان من سلطان الآلة أوقعته في شبكة أخرى أكثر تعقيداً على الرغم من ثورة المعلومات التي دخلت مرحلة السباق الأخر في اختزال الأزمنة وبعث شخصية «السوبرمان» التي تنبأت بخروجه الفلسفات العنصرية في ثلاثينيات هذا القرن..!

لقد أصبح تراكم مخزون الغذاء والسلاح والترف الاجتماعي للعالم المتقدم، بؤساً للعالم الفقير والجائع، ومثل هذا الواقع يجعل المتشائمين أكثر خوفاً من المستقبل إذ أن عزلاً شاملاً بدأ يأخذ مساره بحيث لا مكان في الأرض إلا للنخبة المتقدمة التي يتوفر لها الشبع والترف والدفء، وإن لم يكن لمثل هذا السباق تشكيلاً جديداً لخطوط الطول والعرض على هذا الكوكب..

فالطبقية الكونية لم تعد (بروليتاريا) مسحوقة، وإنما مجتمعات وشعوب آخذة بالتباعد والانفصام وأن شروط البقاء تحت المطحنة الكبيرة هو عدم التساوي بين مجتمعات غير قابلة للتطور تحت أحكام السيطرة التاريخية للقوى الكبرى، وأخرى تحتكر كل شيء وبما يشبه تسلط قوى خارقة تملك الهيمنة وتفرض كل أنواع التملك على الأرض..

من هنا ندرك أن العالم لا توحده المبادئ، ونعني بالعالم تلك المظلة الهائلة التي تكبر وتتمدد كالأخطبوط داخل مفاصل الشعوب والأفراد، وأنه لم يعد لعالم المثل والأحلام مكان إلا توابيت الأموات التي تختزنها الأرض..

آخرون يعتقدون أن قضية الغيبوبة الأزلية لا تقع على الشعوب المعزولة عن وسائل التطور، إذ أن المجتمعات المتقدمة دخلت مرحلة التآكل والاستلاب لحرياتها، وأن جميع تلك المكتسبات ليست إلا (ديكوراً) بنته ظروف مزيفة أدت إلى أن يتعاون ويخطط لها النخب الكبيرة من المثقفين والمحامين لتقع البقية تحت وطأة الحاجة والتبعية، وهذا قد يفرز اصطداماً قادماً تحت ذرائع تعارض المصالح، وأن ما يشبه القانون الذي تفرضه التبدلات الإنسانية سوف يأخذ مجراه في حلقة صراع جديد قد تصبح الأزمة الجديدة في العلاقات الإنسانية..

في كل الأحوال ليست هذه الأفكار، إلا محاولة لرؤية آراء مختلفة قد تتفق أو تتعارض ولكن الشيء الذي لا يمكن التنبؤ به أن التقلبات السريعة تظل في إيقاع مستمر ومتطور وأنه من غير الواضح إدراك الهوية التي ستصبح عليها الحياة القادمة، ولكنها ليست من البشاعة التي تجعل مسألة التشاؤم الحالة الصعبة في تصديق البيانات التي تكتبها الأرانب وتستثمرها الأسود..

التاريخ/ الثلاثاء 21 جمادي الآخرة 1408هـ – 9 فبراير 1988م            

مقالات مشابههة

الكرت الذهبي!!

الكرت الذهبي!!

لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...

التفسير المضاد!!

التفسير المضاد!!

لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك،...

رأي في موضوعين

رأي في موضوعين

في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *