رغم سن التقاعد والشيخوخة المبكرة، إلا أنه ظل يقاوم أي عجز في ملاحقته للأحداث وإعطائها المضمون الواقعي الذي يضفي عليه آراءه وتجاربه..
ورغم أنه يعيش عزلته الخاصة فإن ما يميزه تلك الصرامة الحادة التي يطبقها على نفسه، بحيث لا يتوانى عن التراجع عن أي آراء يطرحها، إذا ما وجد أن مسلمات جديدة مناقضة لأفكاره، هي الأكثر حيوية، ومع ذلك فإن «دبلوماسيته» في إدارة أي حوار أو الاستماع إلى أي متحدث، يضعك أمام شخص متنوع الصلات وبعيد الغور في المسائل المعقدة، دون أن تشعر أنه يدعي أو يتطاول على معارف أو علوم لا يفهمها..
قلت محاولاً أن أستثير فيه رغبة الحوار الجاد..
– «هناك من يرى أن المرحلة العربية الراهنة تمر بمداخلات جديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، والتقديرات تنسب الأزمات المتلاحقة إلى بنية الفكر العربي، وعدم صياغة منهج جديد يتابع التحولات التي تتلاحق، إلى جانب أن المنطقة، وهو ليس تبريراً لمجمل الظروف، تعرضت لأخطر هجوم منظم من جميع القوى الأجنبية، لذلك أعتقد أن الأوضاع المستجدة تخفي أحداث أخرى قد تبعث على التفاؤل أو التشاؤم، وهو ما أظن أنه مجال رؤية خاصة لك؟
وكعادته في اختيار المخارج وتنظيم أفكاره قال:
– «في الماضي القريب شهدنا صراعاً على تشكيل الهوية العربية، وسط استعمار يقبض على كل القنوات الفكرية والسياسية والعسكرية، واستطاع أن يخلق جيلاً هجيناً أعطاه الوجاهة المادية ووزعه على دوائر العلاقات الاجتماعية الداخلية حتى لا تحدث مواجهة مباشرة مع المواطن الذي يكره بغريزته كل أشكال العبودية، ولكن ضعف البنية العربية، وتعدد مدارس الاستعمار، سهلا المهمة بأن تبقى تلك السيطرة مدداً متوسطة وطويلة..
وبخروج الاستعمار بدأت تحولات أخطر، خاصة بغياب السلطة الإدارية والسياسية التي تخطط لمرحلة أهم، وهنا أخذ الصراع شكل القبائل العقائدية التي لم تتأطر بشكل يعمق الفكر الوطني ، أو يواجه معارك التنمية ورفع مستويات المواطن بروح من يرث تجديداً وتأصيلا لموروثنا، ودمجه بالعصر الذي نعيش فيه، وهنا أصبحت الثغرات تمتلئ بمذابح الشوارع التي تنازعتها الأفكار القومية والماركسية، وشبه المهجنة، أو تلك المتقوقعة على نفسها داخل التراث، ولهذا السبب كانت الخسائر فادحة لدرجة ظل معها كل ضابط بثكنة صغيرة يحلم بتتويج نفسه قائداً وثورياً، وهي الأسباب التي أجهضت الكثير من الأزمنة الضائعة علينا بخسائر فادحة لنصل إلى ما عرف بالصدمة العربية عام 67..»
قاطعته..
– «إنني أريد أن نهرب من تسلسل التاريخ في هذا الحوار وذلك من منظور، أن رؤيتنا دائماً تدور إلى الخلف، وهو اتهام تقول به كل أجهزة الرصد لحركتنا التاريخية والحاضرة»؟
قال معقباً..
– «إنها ذات الأزمة التي تلاحقنا، إن نسيج أفكارنا وأحكامنا على أنفسنا نستمدها من رؤى الآخرين، وأنا هنا لا أنصب نفسي حكماً للتاريخ أو ضده، ولكن أي سيرة لأي حدث يقع في سياق التاريخ القديم أو الحديث، هو المترجم للدراسات المستقبلية..
خذ مثلاً حرب فيتنام، وهي قريبة الصلة من الأحداث المعاصرة، وأن التكيف مع ملابساتها وطبيعة تركيبة الحرب التي واجهتها أمريكا، هي على جدول أي دراسة تترك لأمريكا الخيار بالدخول لمناطق اللهب في العالم، أو تحاول التقرب منها، أو تبتعد عنها كلية..
بريطانيا، هي الأخرى، تعد المستشار الفعلي لدول أوروبية، ولأمريكا الأكثر، في العلاقات الدولية، لأنها الوحيدة التي تملك أكبر أرشيف ورصد لحركة التاريخ الاستعماري، وهذا كله لم يعب مراقبة التاريخ والعودة إليه، وأنا هنا لا أريد أن أقع في وهم قداسة الماضي كله، ولكنني حين استشهد بحوادث معاشة، فإنني أريد تقريب الحاضر إلى الماضي القريب، لأننا في حالة مراجعة، وهذا ليس عيباً في قراءة ما يتوفر لنا من فتوحات في أفكارنا نستلهمها ونواجه بها قاعدة انطلاقنا إلى المستقبل..
أعود ثانية إلى ما تعده استرجاعاً للماضي، فأنا بتصوري أن السنوات الماضية تعد حصاراً استراتيجياً على كل المستويات، ولذلك فإن كل النتائج للحروب بدءاً من حرب 48، وإلى الثورة الجديدة في الأرض العربية المحتلة هي تفاعل طبيعي مع عدة متناقضات، ولهذا لم يكن مفاجأة أن تنفجر الحروب الأخرى، في تجهيز أحداث تعد ألغاماً موقوتة في أفريقيا، والبحر الأحمر، وتحديداً مع جيران العرب الذين يختلفون معهم في التركيبة السكانية أو طبيعة الحياة والتاريخ، أو قل بعض الأطماع التي يريد استثمارها أعداؤهم..
وإذا كنا لا نستطيع فصل العامل الزمني بكل تعقيداته عن الواقع الراهن، فإن الخيارات الأكثر توتراً في حاضرنا، هي أن نفهم أن المواقع لم تتبدل ولكن رسم السياسات، ومهارة المناورة وتحقيق المكاسب، ظلت هي الطوق الذي يعد مشروعاً بديلاً لأي تحرك عربي نحو اليقظة أو الوصول إلى حدود دنيا من التفاهم عربياً، وتلك عملية ديناميكية في كل الخطوات التي ترسم للمنطقة، وأحب أن أوضح أن الترتيبات التي تعد هي أشكال جديدة لأهداف قديمة ومع كل هذه الوقائع فإنني لست من الذين يقولون بالهزيمة الدائمة، لأننا رغم كل قسوة الواقع فإننا نتقدم نوعياً وفعلياً..
فالحديث الآن عن التنمية والتكامل الاقتصادي ووحدة الهدف لم تعد ترفاً سياسياً، إنها الحقائق التي لا نقول إننا نكتشفها لأول مرة، ولكنه الوعي بمصير مشترك حددته طبيعة الحاجة إلى مواجهة عربية مع جميع التحديات..
وحتى لا نقع في خلط المفاهيم، أجد نفسي أنه وبمقياس التحليل الاجتماعي لسنا أمة مهزومة وحتى لو خسرنا بعض المواقع والتضحيات الهائلة مادياً وبشرياً، فإنني على يقين أن الأمور لم تصل بعد إلى الانهيار الكلي في مؤسساتنا وتطلعاتنا..
مثلاً يكفي أن وطناً يقوم بصد ثلاث حروب في لبنان، والعراق، وفلسطين المحتلة، ويظل شعور الانتماء للروح التي لا تجعلنا في المنفى، هي انتصاراً على كل الظروف..
الأمر الثاني في القضية أن الملايين من الطلبة في المدارس والجامعات هم الطرف الفعلي في اختيار اللحظة الحضارية، وأنه يستحيل أن يوجد النموذج الذي يتنازل عن قيمه حتى لو جاءت الحرب الأخرى بتفتيت المجتمعات العربية بالألوان العرقية والطائفية، والمخدرات، وتوظيف كل القوى المضادة في مطالبة حجز الكرسي العربي المتحرك ليقف عند النقطة المتوترة والحرجة دائماً والتي تستهلك كل قواه البشرية والمادية..
فأنا أختلف مع من يرسم حدوداً ضيقة للأمم، لأن حركتها ليست أرقاماً محددة في بورصة ما، وطبيعي أن نجد الأمة العربية في حوار مختلف مع ذاتها وأبعادها الدولية، وهو ما يجعلني أقوّم الرسالة العربية بأنها أكثر الخيارات الصعبة مع أي أمة لم تتعرض إلى ذات الصدام المستمر»..
قلت..
– «إنك تريد أن تحمل الأمور أكثر مما هي عليه، وأنا لا أعترض بأن الأمة العربية تتقدم لأنها طبيعة المؤثرات الحضارية للإنسان المعاصر، ولكن القضية تتمحور في ظل قواعد الصراع العالمي، والذي جعل الوطن العربي بؤرة تحترق، وتتكرر فيه حالات الاستنزاف المستمر، وأنا هنا أسال كيف ننهض من مجموعة هذه الكبوات سواء في نطاقها الداخلي أو العالمي»؟
قال مسترشداً بتلك التطلعات المتفائلة..
– «بتقديري الخاص أن ما نحتاجه هو النقد الموضوعي لكل توجهاتنا حتى لا نبني تصوراتنا على فراغات أو أوهام، لأنك لو أخذت أي أمة من الأمم الناهضة والمستقرة فأنك ستجد أن الرأي الآخر لا يعيش عزلته المضنية، أو بتعبير أصح، ليست هناك أبواب مغلقة بين القرار السياسي، والرأي العام الوطني، أضف إلى ذلك أن مراكز التحليل الاجتماعي والسياسي لا تمر عبر اختناقات تضيق المسافة بين الطرفين..
فأنا أعلم أن بلدين صغيرين في جنوب شرقي آسيا كانا على مسافة حادة من الانهيار الأخلاقي والاقتصادي في الخمسينات، حيث خرجت كل من كوريا الجنوبية، والصين الوطنية من محن طاحنة ومع ذلك نجد فوائضهما الاقتصادية تتجاوز بعض الدول الأوروبية.. من هنا تقول إن التحديات التي تواجهها أي أمة لا تصنع حلولها خارج بيئتها البشرية أو الجغرافية، وهذا ما يجعلني أؤمن بأن الفكر المنهجي الذي يدرس الواقع من خلال المعطيات القائمة هو الذي يستطيع مواجهة المستقبل بفعل خلاق..
لقد خرج عرب الجزيرة العربية من خلف ستار التاريخ واستطاعوا أن يبنوا على أنقاض حضارات قائمة، المستقبل العربي، ولتلك معطيات لا أقول خلقتها ظروف شاذة، وإنما لأن الخصوصية العربية التي جاءت بمشروعها العقائدي والإنساني، هي التي كسبت الجولة..
على هذا الأساس يجب أن ننظر للواقع من زاوية فكرية أولاً، وثانياً من خلال التجارب البشرية القائمة والتي مزجت بين تراثها وفلسفات الشعوب الأخرى، ونقوم أوضاعنا على تركيبة لا تتناقض مع قيمنا الطبيعية، أو مشروعنا الحضاري».
قلت متسائلاً:
– «إننا لا نزال ندور في حلقة العموميات، فالعربي الآن لا يصنع تاريخه أو يؤثر فيه، لأن كل شيء يوضع له سلفاً، سواء بعلاقاته شبه المستلبة مع الثقافات والطروحات الأجنبية، أو بوضعه الداخلي غير المتوازن، وهنا تتركز الأزمة بازدواجية لم نخرج منها – بعد»؟!
قال:
– «هناك من يعيب علينا عاطفتنا الحادة ونمونا المتباطئ في الأخذ والعطاء بعقلانية هادئة، ويبدو أنه بغياب الممارسات الفكرية المتحررة من أي ضغوط لا يمكننا أن نحدد الإيجابيات والسلبيات، لأنك لو أخذت المفكرين العرب بكل اختصاصاتهم لا تجد تأثيرهم متوازياً مع أعمالهم، وهي العزلة التي لم تستطع أن تتجاوز المساحات الضيقة لهذا الفكر، ولهذا فان المنطق السياسي نجده في مواجهة كل شيء دون أن يحقق نمواً متصاعداً في الأساسيات الحضارية من تربية واقتصاد وعلوم، وغيرها، أو قل إنه عزل التواصل الفكري في المجالات الأخرى التي ترتبط عضوياً مع المنهج السياسي»..
قلت:
– «السياسة حالة ضرورية في أوضاعنا وأزماتنا؟
قاطعني..
– «.. ولكنها السياسة المتوازنة التي تستجيب لكل معطيات المجتمع العربي، وعلى رأسها تحريره من الخوف، وجعله سيد نفسه وفكره»!
التاريخ/ الثلاثاء 6 رحب 1408هـ – 23 فبراير 1988م
0 تعليق