هل يوجد شريط حدودي بين ثقافتنا المعاصرة، والأخرى التراثية، وهل ما نستخرجه من معايير تتطابق تماماً مع نهضة ثقافية تحدد رقمنا بالثقافة العربية ومن ثم الثقافة الإنسانية؟!
ومع أنني من المؤمنين بالثقافة العربية الواحدة التي نسيجها اللغة والتراث الواحد، إلا أنني أرفض مبدأ التناسخ بين الإبداعات الجديدة، والتي تظل في فراغ آخر عن محيطها الفعلي، بحيث نجد القاص أو الشاعر تتداخل نصوصه من المعاجم اللغوية المترجمة وتنتقل أجواؤه وعالمه إلى ما يشبه التداعيات التي تقوم على نسيج هجين لعوالم خارج سطوحنا ومناخاتنا.
ما ندعي أنه الثقافة العربية التأسيسية في الستينات لا يخلو من مبالغة كبيرة، لأن تلك المرحلة جاءت مشروطة بظروفها التاريخية والموضوعية كحركة فكرية سياسية بشكل خاص، لا كنمط فني مطلق يستوعب نشاطاً إبداعياً هائلاً، ولذلك كان القالب السياسي هو المسيطر على القصيدة والرواية والفنون المسرحية والتشكيلية، وهو الأمر الطبيعي لسياق تاريخي أحدث ما يشبه الصدمة في خلق الهوية العربية بين المتناقضات السياسية والاجتماعية، والصراع مع القوى المتعددة، ومحاولة التحرر من كل التبعات الفكرية والاقتصادية وغيرها..
وإذا كان النشاط الإبداعي يبدأ كأي قطعة حديد خرجت من المنجم لتبدأ سلسلة معقدة من التفتيت والصهر والانتهاء إلى أغراضها النفعية المتعددة، فإن كل الثقافات بدأت بحروف الهجاء إلى المستويات العليا في التنظير والخلق الكبيرين.
هذا التبسيط في الموضوع يأتي من مضمون واقعنا الثقافي الراهن، حيث دخلنا الحلبة بمعامل تفريخ قد تنتج «الصيصان» لا الإبداع، وهذا التصور لا يأتي من فقدان التفاؤل، ولكنه من المضمون الذي بدأ يأخذ شكل التضخيم، وهو طور جديد لا يدخل في محاكمة المبدع والمبشر اللذين تنسج حولهما هالات كبيرة من الكبرياء، بقدر ما تقع المسئولية على المحيط نفسه بحيث ظلت الجامعات مجردة من الدور الفعلي الذي شهدناه في المحافل العربية أو الدولية، بنفس الوقت هناك حقيقة مرة وقاسية، وهو أن مراكز الثقافة والأندية الأدبية تستهلك نفسها بتوقيع عقد مع (كم) يجعلنا في سباق لكسب درجات الامتحان كل عام، وأي من تلك المراكز والأندية أعطى لنفسه حق البروز والوصاية على تحريك ثقافتنا دون مستند يضعنا في المقاييس الخلاقة ويجعل لنا منحانا ضمن خارطة الثقافة العربية، ولكن بنصوص وأجواء تتحدد من خلال وظائفنا الاجتماعية وطبيعة علاقاتنا مع بيئتنا ونسيجنا الخاص..
لقد مرت ثلاث مراحل جسدت تجربة هائلة من مسيرتنا التاريخية. وفي البدايات الأولى لنشوء مجتمع ينتقل من الرعي والزراعة الضيقة إلى أجواء المدنية بشروطها الخاصة، ثم كانت المرحلة الثانية حين تبلورت المدن بحشد كبير من المتعلمين لتكون الأجهزة الإدارية مستودعاً ضخماً يبتلع جميع الاختصاصات التي تعددت مناهجها وثقافاتها ونوعية اتجاهاتها..
تلا ذلك المرحلة التي اصطلح على تسميتها بالطفرة، والتي انقلبت فيها الأشياء إلى ما يشبه الأحداث الأسطورية على كل المستويات..
هذه المراحل لم تأخذ أي شكل من ثقافتنا رغم اختزالنا لها ومرور أزمنة تسمح بأن تأخذ حجمها كعمل إبداعي يطال المسرح والرواية والقصة وغيرها ولهذا السبب نجد أن القضية تتعلق بتطورنا الثقافي والذي لم يكن بحجم التغيرات السريعة التي مرت بها بيئتنا وهو ما يعزي إلي أنه لا يوجد لدينا تقاليد ثقافية راسخة تتطور مع أنساقنا وتؤثر في حركتنا الفكرية لدرجة أن ما نمر به الآن من صراعات حول الحداثة والجبهة المضادة لها ليست إلا ترفاً فكرياً يأخذ شكل الحلقات المفقودة في أعمال لا يمكن أن يكون لها منهج وقواعد فلسفية وطروحات تتغذى من رصيد ثقافي مستمر، ولهذا جاءت الاتهامات عبارة عن سلسلة طويلة لمحاولة جر الطرف الأول إلى جدليات أيدلوجية لتحاكم زمن الخارجين عن قانون الطاعة الفكرية، وهي تسليم مطلق بعجزنا عن تجاوز الحالات الذاتية إلى الموضوعية والعقلانية ..
وافتقادنا مثل هذه الأجواء، هو الذي دفع بكل طرف إلى حشد أنصاره والادعاء باستيطان أزمة فكرية على مستوى حضاري تهدد قيمنا وتراثنا من قبل من يرون رفضها، أو أنها تلبية عصرية لحاجات المستقبل حيث ضاعت المسافات بين مناطق العالم. وأنه لابد لنا من الاستجابة للمتغيرات تبعاً لواقع إنساني جديد حقق مشروعه من خلال تمازج الثقافات وسرعة انتقالها بين شعوب العالم..
ومع أن الموقف لا يحتاج إلى وسيط يقرب بين الخلافات والآراء بوازع أن الحلقات مترابطة بين وجهات النظر لأنها تلتقي عند مجتمع واحد وثقافة واحدة..
من هنا تبدأ الأزمة، ولا أدري إن كنت على حق حين أجد أن الأغنية المحلية وصلت إلى مسافات عربية كبيرة فاقت حجم نشاطنا الثقافي، وحتى لو سلمنا بأنها تلامس قطاعاً شعبياً كبيراً وترويجاً تجارياً يسهل سرعة انتشارها، فإنه بالمقابل نجد أن المغرب العربي جاء بما يشبه الفتح الجديد على ثقافة المشرق العربي حيث أن أسماءً لم نكن نعرفها دخلت الواجهة وخلقت ما يشبه التطور الجديد في صياغة نسيج الرواية ودراسة التراث، والخروج بمضامين فكرية هامة..
على طرف آخر نجد أن الاهتمام المباشر بترجمة آداب أمريكا الجنوبية والقارة الأفريقية إلى العربية فاجأنا بتقليد جديد للإبداع إذ لم يعد أمر الثقافة احتكاراً لدول متقدمة. وهنا بدأ التساؤل عربياً عن هذه الحالة، وكيف أن دولاً من العالم الثالث استطاعت أن تكسر الاحتقار الثقافي، وكان الجواب أن اللغات التي يكتب بها أولئك لم تخرج عن رحم اللغات الأم المسيطرة على الثقافات العالمية، وهو قول صحيح ولكن الأهم أن الإبداع أخذ بتقاليد عريقة جاءت كمفاجأة كبيرة لتلك الثقافات الراسخة بين مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة..
نجد على نفس الطريق الترجمات المتواصلة من لغة شرقية معقدة هي اللغة اليابانية، وأخرى اللغة التركية، وكيف أن أسماء كثيرة أخذت تدخل الأبواب المغلقة بنشاطاتها المسرحية والروائية لأوروبا، وهي ليست من أرومة الثقافات (الأنجلو – سكسونية) المنتمية إلى الأجواء الغربية بكل تفاعلاتها وتطلعاتها..
مثل هذا التوجه لا أعتقد أنه احتكار ثقافي وطمس لمعالم الثقافات الأخرى، ومع أنني على قناعة أننا نواجه جبهة عريضة من العداوات بفعل ظروف تاريخية وأحداث معاصرة، إلا أننا نجد أن الثقافة العربية بدأت تتسلل إلى تلك المواقع الحصينة، ولكنها تختلف بالتأثير، وسرعة الانتشار بفعل أننا لا نزال نعيش على هامش الثقافات الأخرى، حتى أن الذين أخذوا بعض الانتشار ممن يكتبون بلغات أجنبية ظلوا داخل تلك الشبكة الرهيبة بالسيطرة الفكرية والعقلية ممن يواجهون الازدواجية بين اللغة التي يكتبون بها والمناخات التي يحاولون جذبها وإدخالها إلى تلك العوالم الخارجية..
داخل هذه المعركة التي تتعدد أسلحتها نجد من يتشيع لمبدأ الغموض باعتباره وسيلة لتحريك الركود في العقل العربي، ولو أخذنا بهذه القناعة وبأننا معه في الوسيلة دون الغاية، فإن الغموض ليس دائماً وسيلة للفهم بلا انغلاق أو تسامح في السطحية المطلقة، ولكن المسألة ليست بهذه السهولة لأن نصاً شعرياً (محلياً) أو قصة لا يمكن أن نقبل بترجمتها إلى معادلات رياضية تأخذ بالأرقام النسبية، وهو ما جعلني أتوجه لشاعر محلي أسأله إن كان فعلاً بدأ بعملية رياضية لنصه قبل أن يحوله إلى كلمات ولغة تأخذ أبعادها وأجواءها الاجتماعية من طبيعة اللحظة التي كتب بها قصيدته ..
قال:
- «إنه ليس من مسؤوليتي أن أتفق أو أناقض، لأن ذلك محسوب على من يملك الرأي الآخر، وحتى لو وصلت القضية إلى مثل هذه الجبرية الضيقة فإنني أترك للآخر حرية ما يقول مهما كانت المتضادات واقعية أو خارج المعقول»!
هنا تبدأ الحقيقة بالتناقض لأن الناقد يتفرغ إلى تصنيع أحجام وافتراضات لا تقبل القياس العقلي، وهو ما بدأنا نأخذ به كجدلية فكرية بحيث صار أي رمز له أبواب وسقوف وحيطان، وفراغات عريضة لا تدخل في المعقول، وهذا انقلاب حاد في معركة طرفها الأول افتراضي يصل إلى حد تقويم الأشياء في فراغات ميتافيزيقية، وآخر يجعل الواقع ميزان التوافق مع الطبيعة الراهنة.
في هذا التنافر نحصل على نتيجة أخرى، وهو أن الهد، ضائع بين مساحات مختلفة كل ما ينجذب إلى تيار بعيد عن مناطق رؤيتنا وتعايشنا.
فإذا كنا نمر بطور التشكيل، وأن نمو المعارف المتعددة التي تنصب على كل مجال حياتنا، والتي يصعب على المجتمعات الحديثة التكوين أن تهضمها، فإنه في المجال الإبداعي لا يمكننا أن نلغي نمو المجتمع بمحاولة تخطيه بمسلمات بعيدة عن واقعنا بحيث تظل عوامل الرفض لقصيدة عمودية مثلاً، تحرراً من طبيعة تقليدية سائدة، أو يأتي العكس باتهام نص حديث بأنه مؤامرة فكرية محكومة بفكر أيدلوجي يريد مصادرة قيمنا وأخلاقنا..
فهذا التشتت بين طاقاتنا المحدودة خلق ما يشبه العزلة بدلاً من الحوار، وأصبح الناقد يدخل الصراع من خلفيات ثقافية تتعامل مع آفاق ورموز تأخذ بمصطلح «التركيب الداخلي للغة» والأخذ بحدية النص كهدف مطلق، مما جعل القضية تأخذ مساراً مضاداً لها..
فالمجتمع بكل فصائله الثقافية لا يمكن تغييبه باسم كبرياء النص، والدخول في عالم مركب رياضياً وشبه فيزيائي أمام جمالية العمل الفني، وهو الجدل الذي أصبح سمة ثابتة في اعتبار المدارس الحديثة «بنيوية، وتشريحية» وغيرهما تواجه هذه الحدة حتى من الكلاسيكيين الحديثين..
هنا نقول: هل نمر بأزمة على نطاق ثقافتنا المعاصرة.. أم هذه مجرد مداخلة بين واقع حضاري وآخر سلفي فكري؟
الأمر يستدعي مراجعة هادئة وعاقلة، حتى نستطيع الحكم على حاضرنا ومستقبلنا الثقافيين بأقل الخسائر، وهذا ما يتوجب أن يسود بين كل من لهم علاقة بالهم الثقافي، ويريدون الوقوف على قدمين تحملان جسدنا الثقافي إلى المستوى المطلوب..
التاريخ / الثلاثاء 20 رجب 1408هـ – 8 مارس 1988م
0 تعليق