أعرفه مهموماً بالقضايا العربية يتابعها باستمرار، وإن كانت المواقف الحرجة تلقي عليه كثيراً من ظلالها، خاصة تلك المتاهات التي يضيع فيها القرار العربي لتحل الغيبوبة بدلاً من الاستيقاظ المبكر..
قال:
«نحن لدينا فائض من العواطف، وقليل من التوازن العاطفي مع المستجدات التي تجتاح منطقتنا، وإن كانت تلك المساحات الواسعة التي ضعنا بها في متاهات السياسة على حساب التحديث والتنمية قد شكلت ضغطها الآن، خاصة وأن تبدلات دولية كثيرة أفرزت نظماً ومواقف لا تتسع لتلك المغامرات الصغيرة في العالم الثالث بحيث ينشأ ما يشبه إعلان حالات التوتر القصوى بين فصائل القوى العظمي»
الاكتشاف العربي الجديد، أدرك أنه لا توجد ثوابت بين الأعداء والأصدقاء، وإنما هناك أرضية مشتركة للمناورة لا تطغى فيها العواطف على العقل، ولهذا ظل التجاذب بين العملاقين في شؤوننا العربية يأخذ الانتظار الطويل، والهدوء البارد، ليأتي اليأس والملل منا وحدنا..
خذ مثلاً الحرب العراقية الإيرانية بكل زخمها وما اعتقدنا أنها سوف تحسم بقوة مصالح القوى الكبرى، لأن المنطقة حساسة ومؤثرة على أي توازن دولي، ولكن معطيات الواقع جعلت الأساطيل وحدها تنجذب للمنطقة لتراقب وترصد فقط، وهو عمل له طابع نفسي لنا في حين أنه رمز لاستعراض القوة وفقاً لأي تطورات قد تنشأ عن تدخل آخر أو محاولة تفرد من قبل دولة أو حلف في المنطقة..
فقد ظلت أحاديثنا فقط عن القرار (5۹۸) وهو من القرارات التي مازلنا نجد فيها متعة اليأس، إن صح التعبير، لأن لها تفسيرات وتحليلات لا تصل في يوم ما إلى حقوقنا وإن وجدنا تلك الخلافات (التكتيكية) بين الحلفين، حيث أحدهما يريد، كما يزعم، فرض حظر على وصول الأسلحة لإيران، والأخر يتباطأ في التنفيذ، ولكل منهما سلة مهملاته التي يرمي بها الأوراق والأفكار التي لا تناسبه..
دعنا من هذا ولنصل إلى نقطة اخرى، في فصل جديد في صراعنا مع العدو إذ وضعت الانتفاضة مساراً جديداً في سياسة المنطقة، وأوجدت تحولات في الرأي العام العالمي و(الإسرائيلي) بالذات، وهذا لا يجب أن يكون مصدر حكم مطلق على أحداث سريعة التبدل، إذ أننا كعرب مازلنا نتعامل مع الانتفاضة بصوت البطل فقط دون تحليل لمعطيات الظروف الراهنة أو التي قد تستجد..
وبرغم أن الوقائع تحكمها مسارات مختلفة إلا أن ما يجعلنا نقف بحيرة هو أننا حتى الآن نتعامل مع الانتفاضة بأساليب البكاء والشعارات، وأحياناً التفاؤل المطلق الذي لا يستند على تفهم للحقيقة، والتعامل معها من آفاقها وخصائصها الدقيقة..
فالعدو استنفر فوته الداخلية والخارجية ليحول المسار المضاد للإعلام الدولي كطرف محايد على الأقل ليمكن احتواؤه في المستقبل، وما هو أخطر من ذلك أن الخلافات العربية المتضادة والخلافات الفلسطينية مع بعض الدول العربية يجعل اتخاذ إستراتيجية مشتركة أكثر الصعوبات المحتملة..
الشيء الآخر والذي نفتقده على صعيد الصراع الراهن أن تحليلنا للانتفاضة وما قد يترتب عليها من أساليب مضادة يمارسها العدو لايزال في غياب تام عن الرؤية العربية، مع أن مقتضيات الحاجة هو إيجاد الاستقراء والدراسات المستمرة على الكيفية التي يفكر بها العدو والطرق المحتملة بأن يسلكها لأننا طيلة معاركنا معه كان يكسب الجولة على الصعيد السياسي والعسكري معاً، وهنا يبرز تساؤل آخر فلو قدر أن أجهضت الانتفاضة بأي موقف فهل قدرنا مثل هذه الاحتمالات والكيفية التي يمكن التعامل بها مع ظروف مستجدة، وكذلك ما هي الأمور التي يمكن بها أخذ مثل هذه الاحتياطات بحيث تستمر الانتفاضة، وتجعل العدو هو الذي يعيش حيرته الخاصة؟..
بمعنى آخر ما هي الحالة النفسية والاقتصادية التي يتركب منها التفكير الإسرائيلي وكذلك الصورة الداخلية للواقع الفلسطيني في الأرض المحتلة، خاصة وأن إجراءات صعبة بدأ العدو يتخذها وهي سياسة الحصار الغذائي والعسكري ومحالة استعمال النفس الطويل تجاه الصمود الفلسطيني، والمراهنة على أن تعدد مصادر القرار العربي تأتي بالدرجات المناسبة لإضاعة الفرصة على العرب بأن يتسلموا مقاليد ضغط مباشر عليها..
فوزير الخارجية الأسبق كيسنجر، والذي عرف بأنه مهندس الصفقات السياسية بين العرب وإسرائيل خرج عن طوره المتزن ليرفع مذكرة لاجتماع صهيوني يحثهم فيها على إغلاق الأرض المحتلة أمام أجهزة الإعلام الخارجي، والتعامل مع الانتفاضة بقوة السلاح، وهو تعبير واقعي مع رجل ثبت ولاؤه لإسرائيل أكثر من أرومته الألمانية وجنسيته الأمريكية، ولكن من وجهة نظر أخرى نجد أن تعبير مثل هذا الرجل الذي عرف ببرودة الأعصاب حتى أمام أحداث عام ۷۳ يجعل التصور بأن المخاطر المحيطة بإسرائيل أكثر من أي حرب شنتها وكسبتها أو خسرت بعضها، ومثل هذا التحليل يصدق على كل الجبهات السياسية والثقافية الصهيونية والتي لابد من رصد اتجاهاتها حتى نصل إلى طروحات جديدة تسجل الواقع الراهن بمنطق التحليل العلمي حتى يمكن وضع استراتيجية عربية فلسطينية لكل الطوارئ القادمة ..
على المستوى العربي نجد أن مشروع اجتماع للقمة مطروح بشكل سريع، وإذا لم نستبق الأحداث، فهل سيوفر الاجتماع مظلة عربية تتفق على التفاصيل الشاملة لرأي عربي موحد يحمله أي وفد لاجتماع سلام قادم؟
أيضاً هل ستصل القمة العربية بقراراتها إلى ربط القضية الفلسطينية بجملة ضغوط مختارة على الدول التي تملك قرار الحل بحيث نلجأ إلى استعمال أسلحة اقتصادية وسياسية قادرة على التأثير على سياسة العدو أو من يتعاطفون معه؟
الاحتمال الوحيد، هو أن القمة العربية سوف تخرج بتأييد مطلق لمنظمة التحرير وبأنها الممثل الوحيد للفلسطينيين، وهو موقف إيجابي، ولكنه لا يحمل التأثير المناسب، لأن مثل هذا الموقف تحدد في قمة فاس وباتفاق شامل، ولكن ما هو تأثيره على مسارات السياسة القائمة، خاصة وأن المشروع الأمريكي يرفض منذ البداية أي تمثيل للمنظمة، ويرى في الاجتماع الابتدائي الدولي مجرد احتفال «بروتوكولي» يشهد الاجتماع ولا يؤثر فيه بالإيجاب أو السلب..
ومع أن هناك من هو على قناعة تامة حتى بين صقور إسرائيل بأن المنظمة هي التجسيد العملي لأي مشروع حل للقضية، إلا أن تجاوزها يعني أن (إسرائيل) لا تزال تملك المساحة التي تناور عليها، وتدفعها إلى تحقيق غاياتها..
القضية الأخرى نجدها في المأزق الإسرائيلي وفيما إذا كانت ستسلم بحلول تنقذها من ورطتها وسط مقاومة عارمة في الأرض المحتلة..
فهي من جهتها لا يمكن أن تقبل بمفاوض عربي يجد وراءه رصيداً من الضغط والمجابهة يحركه في أي وقت، بنفس الوقت تدرك أنها عاجزة عن إنهاء الانتفاضة في الوقت الراهن، وعملية إطالة أمدها يعني مواجهة ضغوط اقتصادية صعبة، وتعاطف دولي مع الانتفاضة يجعلها في الموقع الخاسر..
وإذا كان مثل هذا الموقف يشكل حرب استنزاف طويلة للعدو وأننا نملك القدرة على استمراره، فإن إيجابيات التريث أفضل من التسرع في قبول أفكار تتعارض مع مصالحنا لأن عامل الزمن يسير لصالح القضية دون إخلال بمواقعنا مما سوف يضاعف المشكلة الإسرائيلية ويدفعها إلى الخيار الذي يتناسب وحق الشعب العربي الفلسطيني..
هناك حالة أخرى تعتبر جوهرية، وهي أن أي خطأ بالممارسة من قبل أي فصيلة فلسطينية قد يجعل الذرائع الإسرائيلية قادرة على كسب الرأي العام العالمي، وما أعنيه هو أن نضع في حساباتنا أي خطوة على عمل عسكري أو سياسي، بحيث لا يؤثر على إيقاع الخطوات التي تسير في الأرض المحتلة، وهذا لا يعني إيقاف المقاومة على حدودها الدنيا، وإنما اختيار المواقع التي تعزز تلك الانتفاضة وتضعها في ميزان الاتجاه الصحيح.
وبكل المعايير، فان الانتفاضة التي أحدثت صدق المقاومة الفلسطينية، وتكتيكها السريع الذي استوعب رد الفعل المضاد من قبل الجيش الإسرائيلي يجعلها الأكثر قدرة على استيعاب الزمن الراهن، يضاف إلى ذلك أن الاحتياطي الشعبي ممن بقوا من الفلسطينيين في الأرض المحتلة يجعل (إسرائيل) تأخذ بحسابات أخرى لاسيما وأن أي تحرك من تلك القوى الشعبية سوف يضاعف المشكلة، وحتى بقاء المواطنين الفلسطينيين على ما يشبه الصمت في الوقت الراهن يجعل الحالة النفسية للمستوطنين أكثر توتراً، والقيمة هنا أن عدم الشعور بالأمن داخل الكيان الإسرائيلي يوازي أي حشود عسكرية على الجبهات العربية مع العدو، وتلك مسألة تحتاج إلى مهارة في التحريك والاستثمار متى كانت الظروف تستدعي استعمال ذلك الاحتياطي الذي يعيش بين المفاصل الإسرائيلية، و يواجهها بالتهديد من العمق..
قاطعت محدثي أسأله:
- «.. ولكنك لم تتعرض لمؤثرات الحرب العراقية/ الإيرانية، وأوضاع لبنان، وبالأخص المخيمات الفلسطينية التي واجهت حرب استنزاف عربية، وفيما إذا كان ذلك يدخل في دورة الحلول اللاحقة أو السريعة مع الظروف العربية الاسرائيلية» …؟
قال بحذر: - «يجب أن لا نعلق أمالاً كبيرة على صياغة حل لتلك الأزمات، لأنه لابد من وجود رصيد للصراعات السياسية والعسكرية في المنطقة وهذا جزء من أهداف عليا ترتبط بالتباعد والتقارب بين الدول العظمى، وأن مثل هذه الأزمات تعد جزءاً من استمرارية بقاء نفوذ تلك الدول، ولعلها تختلف عن منازعات تهدد كياناً محسوباً على قوى عظمى لا تريد أن تفقده كموقع عسكري واستراتيجي يجسد المعنى الحقيقي للذراع الغربية، وهذا ما جعل الركض لإيجاد حلول سريعة مرتبطة بالأزمة الإسرائيلية حتى تصل إلى هذه الأهمية، بنفس الوقت يجب أن لا ننسى أن الإنفلاتات التي قد تحدثها أي ظروف جديدة ربما تسوق إلى فتح أبواب مغلقة، ولكن الحصيلة الإيجابية تتركز على مدى قدرتنا على (التحدي والاستجابة) من موقع رسم أبعاد لمستقبلنا وحاضرنا قبل أن تستهلكنا حالات الانقراض والتسيب»!
التاريخ/ الثلاثاء 4 شعبان 1408هـ – 22 مارس 1988م
0 تعليق