النكرة العالمية!
«رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين الروحانيين يسألك، وهو بالمناسبة عربي، إذا ترغب بحل مشاكلك العاطفية والمالية، والزوجية والاجتماعية أو إلحاق الأذى بأعدائك مهما كان وضعهم، فما عليك إلا ذكر المطلوب، واسمك واسم أمك وكذلك الأخرين وسيتولى أعضاء الاتحاد المختصون بالسحر العلوي والسفلي، تحقيق الهدف الذي تريده، وذلك في مدة أقصاها واحد وأربعون يوماً تبعث رسالتك بالبريد العادي على عنواننا المدون أدناه، مع العلم أننا متوقفون عن قراءة المستقبل أو كشف الطالع، ولا نقبل أي نقود أو هدايا خلال مراسلتكم لنا ونحن سنتحمل أجور البريد…
المجلة العربية التي (بشرتنا) بهذا الفتح العظيم ونشرته بأحد اعدادها تباع ب «۸» ريالات ببقالاتنا ومكتباتنا والمهم ليس السعر بل إن البشري تجعلنا من الآن نمزق صكوك الطلاقات، ونجعل لكل حبيبة حرزاً خاصاً يبعد عنها الغيرة والغضب والمشاجرات الزوجية، لأن رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين سوف يحل عوزنا المادي ويكفينا شر أعدائنا الداخليين والخارجيين، سواء من أولئك الذين يحسدوننا على نعمتنا أو يحاولون فصل علاقاتنا الاجتماعية، أو أعوان الاستعمار والصهيونية ممن يدخلون مع الهواء والأمطار وتيارات البحر إلى كل ثقوبنا وفراغاتنا..
رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين لا يقبل النقود أو الهدايا أثناء كشف الطالع، لأنه يمارس اليوجا، الروحية، ولا أدري لماذا لا يقبل عضوية الكونجرس الأمريكي لعله يؤثر على اللوبي الصهيوني، ويرسل فائض القمح والزبدة إلى جياع أفريقيا، أو يجعل لعناته تضرب إسرائيل بقنابله السحرية، ويضع حرسه المدجج خلف الريح حاجزاً بين الجيشين المتصارعين في إيران والعراق..
ورئيس الاتحاد العالمي للفلكيين أمن لنا أعظم إنجاز في التاريخ، حيث ولأول مرة، يطلع رئيس عربي على اتحاد عالمي، وهو ما لم تجتمع له الجامعة العربية، أو تبلغ به – السفارات العالمية معتمداً فوق العادة ليمثل بصّارينا وسحرتنا بالعالم الآسيوي – الأفريقي، ونائباً عن الأمة العربية في جميع القوي السياسية والاقتصادية، وبنوك الدم، والصحة النفسية، والطيران العالمي، والسوق الأوروبية المشتركة، ومنظمة الأغذية والزراعة..
ولأن السيد رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين ينطق الضاد و«يحاور السحرة بالعالم السفلي والعلوي» بكل أبجدياتهم ورموزهم فإن بطاقات التهنئة تقدم لكل عضو مشترك أو باعث رسالة لهذا العالم العظيم، الذي وفر لنا السعادة بطوالعه، وهزم أمراضنا السياسية والنفسية وزرع بحارنا باللؤلؤ، وصحارينا بالذهب والقمح والقثاء خاصة وأنه من أبناء أرومتنا وبالتالي فإننا الأولى بالمعروف من غيرنا من عطائه السخي الكريم الذي نأمل ألا يذهب للأجانب.
رمضان كريم، ومن حقنا أن نضحك، لأن ما لم نحققه بإرادتنا يريد لنا بعض المشعوذين أن يحققوه لنا بحالات الغيبوبة، وهي جزء من تسويق جاهل درجت عليه بعض المجلات «الرصينة» فكلوا من هذا الزاد العظيم، وابلعوا بعد الفطور ألسنتكم.. وقولوا «الحمد لله أن منحنا العقل والرجحان»!
الغرف المغلقة
قال مخالفاً عاداته بتلك الابتسامات الساخرة..
– «لقد ضعنا بين حلقات الانفصام الصعبة، وما أعنيه ليس له دخل بالحالات النفسية ومدارسها.. فنحن عشنا قيماً صارمة، أعرف أنه بطفولتي لا توجد أي ابتسامة بين الأب وأبنائه في حضرة مجلس كبير يكتظ بالرجال، إذ طالما كنت مستفزاً عيناي جاحظتين تلتقطان أي إشارة أو حركة من يد أو عين أبي..
مجلسنا في الطرف البعيد، لأننا الصغار الذين يجب أن ندرك المراتب الاجتماعية، مع أن كل العائلات تتساوى بالفقر والمعاناة، ولكنها فوقية سيد الأسرة الذي لا يتسامح مع أي خطأ مهما بدت الأعذار.
وأنا الآن في سن الرابعة والخمسين أشعر أن كثافة الإحساس بالارتباط العائلي في تلك الفترة التي عايشتها بطفولتي، لها ما يبررها إذ أن وحدة العائلة قبل أن تكون عصبة ما، هي وحدة اقتصادية، ولكن بناءنا الذاتي، كان يحمل تمييزه الخاص وإن ظل محافظاً، وقريباً من البدائية، فإنك تلحظ الآن الجيل الثاني لا يزال يعيش إفرازاتنا، وإن يكن الأقل في الحفاظ على تلك التقاليد الصارمة».
عَقَّبَ صديق له يحمل نفس السن والمشاعر..
– «أعتقد أنك بدأت تروي سيرة ذاتية على طريقة كبار نجوم الفن والفكر.. حياتنا لا تحتاج إلى هذه الإضافات الكبيرة، لأنها أقل من متواضعة، ولا تحمل إلا تلك السلسلة الطويلة التي توارثناها من أجدادنا، ليحملها آباؤنا بالنقل الحرفي»..
بعد تأمل هادئ.. رد..
– «تقصد أننا يجب أن نسير في نعوشنا المتحركة إلى حيث تقودنا الظروف، دون أن يكون لنا أي حق حتى بإلقاء مزحة قصيرة على حياتنا»؟
قال..
– «لم أقصد هذا بالتحديد، ولكننا سبب مباشر بما يعد عقدة لأبنائنا من بعدنا الذين أورثناهم حكمنا الخاص، وعدم قبولنا لاستقلالهم الشخصي في سلوكهم وعاداتهم»..
قال محتداً..
– «بعني أننا الخطوة الأخرى في الطريق المعوج كما نتهم بذلك»!
– «ليس هذا بالضبط، ولكننا نحمل الصفات التي لا تجعلنا أبرياء من عدة أخطاء لم نستطع التخلص منها حتى مع تغير في الظروف المادية التي توفرت لنا في عصر أبنائنا،
قال..
– «الآن أفهم أنك بدأت التقاعد الفعلي، والاستسلام النهائي لمرحلة لا تجد لك فرصة إلا في الصفوف الأخيرة، من فصول الحياة المعاصرة»..
رد ضاحكاً..
– «الفارق بيني وبينك أنني أستطيع أن أتسلى بأفكاري، ولكنك عكس ذلك مجرد عباءة رماها الزمن على مشجب الأيام»..
بادره ساخراً..
– «كلنا نركض وراء السراب في غرفنا المغلقة»!
بلون الماء.. ورائحة الثوم…
بغير توقع كانت محطته في ذلك الجمع من المثقفين الذين توزعت دائرة اهتماماتهم بالأدب والفن، وعلوم السياسة والاجتماع..
قال معلقاً على هموم المثقفين.
– «إنكم تحملون مختلف الروائح.. بعضكم يشبه إفرازات الثوم والكراث والبصل، والبعض الآخر بلون ورائحة البطيخ، وآخرون خليط من روائح الدخان والاسفنيك.. أما القلة النادرة فهي برائحة الدم والعنبر ودهن العود «!
سأله أحدهم..
– «كل انسان يتحدث بشعور ما ينقصه، وربما أن حاسة الشم معطلة لديك، ولذلك جاء تفسيرك متحداً مع حالة خاصة بك، أو أن لك أنف القط الذي يبحث عن طرائد ضعيفة تتوازى وطموحه؟
علق بهدوء أعصاب..
– «لا هذه، ولا تلك، وإنما يماثل ذلك ألوانكم القزحية، والصفراء، والخليط المهجن من أطياف مولدة من بياض الثلج وإضاءة مصابيح الفلورسنت، تلك الصناعة المقلدة لأسواق العالم النائم»..
قال آخر..
– «هل توضح وتكفينا شر ألوانك، وروائحك، وسحبك الممطرة، ورياحك المغبرة»؟!
تحدث..
– «وهل أنتم في هذه الحالة من الشفافية والرخاوة بحيث يخدش بشرتكم كلمات عابرة من نصف قارئ وربع مثقف»!
تجاوز آخر حدود الصمت ليقول:
– «ببساطة نبحث عن منطق في اتهامك، حتى لو كنت بنصف كلية وثمن لسان، وسدس رئة.. فهل تقول لنا كيف أحدثت لك صدمة الروائح، وتشابك الألوان في أعمال الكثير من مثقفينا؟!
قال معلقاً..
– «بعضكم يشبه إعلان المبيدات حين تشاهده في التليفزيون وأنت تتناول أول لقمة من عشاءك.. والبعض الآخر مثل سائل زيوت المحركات، والقليل يشبه دعاية العطور الباريسية تراها، وربما لا ترغب أن تسقط قطرة منها على جسمك أو ثيابك..
عن الألوان حدث ولا حرج.. شعراء صفر، وكتاب مقالة بلون القطران، وقصاصون كالماء لا لون ولا رائحة!!
بغضب علق آخر..
– «ما زلت تحكي عن مداخلات مشوشة، لكن لا بأس فنحن نحكم على مقاييس أي إنسان من قدرته على الوصول إلى رأي واضح.. فهل تتكرم بمزج الألوان بالروائح، أو فصلهما عن مكوناتهما الأساسية إلى مركباتهما الأصلية..»
قال ساخراً..
– «لقد جففت لعابكم، وسخّنت أذن كل واحد منكم، ومع ذلك فأنا لا أكتمكم أنكم بحاجة إلى من ينفض عنكم سبات قيلولتكم قبل أن تصلوا إلى النومة الأخيرة»..
استشاره أحدهم..
– «لكن حرارتنا أذابت ثلوج صمتك ومن هنا سقطت كل «المكاييج» التي حاولت بها إخفاء طفرة السنين على تجاعيد وجهك ولثغتك الخشة والتي تدعي بها أبوة الثقافة بمهارة الادعاء، لا واجبات الصدق»؟
قال متحديا..
– «اكتب ذلك بأي قصاصة كرتون، أو قلها لأي صديق، وعندها فأنت البطل، وأنا الجبان خاصة إذا وصلت إلى احتكارات النشر التي أصبحت من إقطاعياتكم الكبيرة
ضحك البعض.. والآخرون لزموا الصمت عن كبرياء»..
التاريخ/ الثلاثاء 3 رمضان 1408هـ – 19 أبريل 1988م
0 تعليق