الصفر الهندي.. معادلة الجوع بالقوة!

حروف وأفكار | 0 تعليقات

مأزق الهند أنها تحاول أن تكون على خط عرض العالم الثاني الذي يسعى إلى تغيير بنيته الاجتماعية والاقتصادية، بنفس الوقت تتنازعها ظروف الداخل التي تتحطم فيها عملية الانسجام والتراخي على حلول معقولة. وهو ما يضعها في خندق خط الطول للعالم الثالث، سواء بتوزيعها العرقي، وتناميها السكاني أو روابطها العائلية والعشائرية التي تحتل الكهوف والمعابد، وتختلط عليها الأساطير بالديانات وتعددية اللغات والأرومة

أحد رجال الاقتصاد في الغرب قال هازئاً «أن الهند تستطيع حل مشكلاتها الغذائية بإعلان الصوم الجماعي لكل أفراد الشعب». لكن المسألة ليست بسن القوانين، وإلا فإن قطعان الأبقار التي تعد بالملايين – يمكنها هي الأخرى أن تحل الأزمة، تماماً كما كان الرأي بأن (تايلند) لو أقدمت على بيع تمثال بوذا الذي يتجاوز الطنين ونصف الطن من الذهب في مرحلة تصاعد أسعار هذا المعدن – ربما يحل عقدة انخفاض عملات ذلك البلد، وبلدان أخرى..

القضية محكومة بعقدة الموروث التاريخي، لأن تقطيع تمثال بوذا وتحويله إلى أقراط وأساور، ومقابض أبواب في قصور مهراجات الهند، قد يحول تايلند إلى بؤرة لحرب أهلية يختلط فيها التاريخي، بالأزلي، وهو ما يحكم نفس الواقع في الهند التي تجعل من البقرة صورة مقابلة لعبادة وثنية، حتى أن صفقة مشهورة عقدت بين (المهاتما غاندي) وأحد علماء المسلمين بالتوقف عن ذبح البقر تجنباً لمعركة يذبح فيها المسلمون والهندوس معاً، إبان معركة الهند مع الاستعمار البريطاني..

كانت الهند لغزاً تاريخياً، لأن حصاراً جغرافياً جعلها بعيدة عن التدخل العسكري مع جيرانها، ولأن المحيطات البحرية والجبال الشديدة الانحدار، المكسوة بالجليد، هي العوازل الطبيعية التي حدت من شهوات الغزاة، إلا أن اقتحام القارة المسالمة من القوقاز، عبر الممرات الوعرة في الجبال، وإعلان الهجرة الطويلة لذلك الجنس الآري، حطم المعيار الثابت لتبدأ أول سلسلة من التمايز العرقي، والطبقية المتعسفة بدءاً من سلالم الكهنة والتجار، والمزارعين، فالعلماء والمحاربين، إلى آخر طبقة التعساء من المنبوذين (الشوردي) «1».

لكن الهند التي تختلط فيها الفلسفة مع الحكمة والحكمة مع «طقوس الظلام»، وجدت أن معابد الرهبان لا تقدم (جينات) جديدة في تحسين سلالة المزروعات، بحيث تسد الفجوة الضخمة بين أكبر معدة في آسيا تلتهم مع جارتها الصين ما يوازي ثلث المنتجات الزراعية على الأرض، وبين مرحلة تحتاج إلى فك الطلاسم بين العلوم وحاجات الشعوب للتقدم الشامل..

خرج غاندي من أكواخ الجائعين، يتدثر برداء بسيط، يقود عنزته کرمز أخر مضاد لحركة الاستعمار البريطاني، التي تسربلت بالتبشير، ودخول شركة الهند الشرقية، التي حولت شبه القارة إلى اقطاعية زراعية دامت قرناً ونصف القرن تحت راية الإمبراطورية البريطانية، حتى أن العاملات الهنديات الحوامل في حقول الأرز، وأنوال القطن والحرير يحملن أطفالهن مخدرين حتى لا يتعطلن عن العمل أو يتسبب أطفالهن في تأخيرهن عن مواعيد الدوام!!

تلك الحصيلة من السنين هي التي أعطت غاندي، قناعته بأن الغرب لا يمكنه قبول مصالحة ذات معيار ثابت مع الشرق، حتى لو صدر قرار تاريخي بأن الطوافين من الكهنة الهنود الذين علموا الإغريق مبادئ الفلسفة، حين حدث أول لقاء بين روحانيات الشرق، وعقلانية الغرب بتلك الهجرات الأولى من سنين ما قبل الميلاد، ولأن استنتاجاً خاصاً خرج به غاندي أدرك معه أن المقاومة السلبية أو الدعوة إلى اللاعنف، هي الشفافية التي تكشف سر الهنود أمام جبروت القوة العظمى.

فالمرافعات بالقوانين التي أتقن متونها وحواشيها في الجامعات البريطانية وعرف مداخلاتها في جنوب أفريقيا، ليست إلا «مخدة بين الغيوم» تصلح للنومة الأبدية، ولكن شعب الهند الذي وزعته الفروقات الطبقية محتاج إلى وعي ضمير يخلصه من زمن مثقل بالخرافة والأساطير، ومن هنا بدأت السلسلة الطويلة من الإضرابات والمقاطعة للبضائع الإنجليزية، لتتحول الكهوف البائسة إلى معامل للنسيج وطحن الغلال والمزارع شبه الجماعية، تلك كانت البداية من المعلم المتقشف إلى الشعب البائس، لحظتها عرف الإنجليز أن المقاومة الجديدة تطرح مشروع قانون وانسان، وأنه من غير الممكن أخذ المبادرة بالسلاح ليبدأ فتحاً جديداً، أو حرباً مشابهة لحروب الأفيون بالصين..

فطريق الحرير ذلك الذي يبدأ من الصين، فالهند، فجزيرة العرب، لينتهي إلى القارة الأوروبية، كان يحمل التسامح الهندي، وأبجديات العلوم الرياضية التي تلت الحصار بين العقل والوهم، ولم يكن فقط مجرد بخور، وعطور، وتوابل تعطي مذاقاً خاصاً لطبق «الكاري» و «البرياني» مغموساً بالخلائط المعتقة ولكنها مزيج آخر، إذ أن أرومة اللغة السنسكريتية تعتبر الأم الفعلية لتناسل اللغات الأوروبية، وأن أسرار الحكمة التي أعطت العالم أول غلة للتأمل، عادت لاختبار الذات أمام مأزق الواقع، لينشأ زمن آخر غير زمن غسل التماثيل بالعطور والزيوت..

الهند اليوم تحقق مشروعاً آسيوياً آخر، قاومت المجاعة وزيادة عدد السكان بمزيد من التخطيط العلمي، والحوافز المادية، لتصل إلى مخزون مثالي من الغلات الزراعية، والتي اعتبرت قفزة اقتصادية على كل الاستنتاجات الخاطئة..

سياسياً تقف بين المنجل الروسي، ومحيط آسيوي متداخل المشاعر والتبدلات.. حروب ومجاعات، وجار أخر صيني يتطلع إلى سيطرة كونية على مفاصل المراكز الاستراتيجية، الآسيوية، ليتنافس مع الهند على اختراق الحدود الثقافية والأيديولوجية.. وعلى غير بعد يقف العملاق الياباني (يتقدم كأمة شرقية، يخفف من توتر الشرق عموماً في تفوق اليابان البوذي الديانة والشرقي الموقع بالنسبة لأوروبا، ويجد الهندي أو الشرقي أملاً بالتقدم، وبلمسة إنحراجات ونوعاً من التشفي بالغربي) «2».

الحلقة المفقودة هي تلك النزاعات الداخلية التي تريد أن تجعل الهند بلداً يقوم على صنع التوابيت بدلاً من الانتقال إلى صنع القرار السياسي الآسيوي..

فلعبة تقطيع باكستان تداخلت فيها الصراعات التاريخية، مع تحرك مراكز القوى العالمية، بنفس الوقت فان دخول قوات الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، كحلقة أخرى في مد الجسر الاستراتيجي، والحرب الأهلية في سريلانكا التي مدت جذورها إلى داخل الهند، وُضعت الحكومة الهندية داخل النزاعات الحادة، حتى أن سباق التسلح الآسيوي بما في ذلك امتلاك القنابل النووية يضع القارة الآسيوية على أولى عتبات حرب باردة جديدة. إذ لم يعد مبدأ عدم الانحياز إلا بناءً خيالياً جاء به مصلحون بنزعات مختلفة، ولكنها واهنة أمام جبروت سلطة القوى العظمى..

الأمن الآسيوي، هل يصبح انتقالاً إلى الممكن والمسموح على خارطة التقاطع بين العمالقة، أم أنها المرحلة الأخرى في الصراع على الزعامة الآسيوية بين قوى تتحرك في محيط أخر، ومتغيرات أخرى داخل الحلقة الجديدة في انتقال الجغرافيا من الأطلسي إلى الهندي، الباسيفيكي؟!

قد تكون الهند الطرف الثالث بين الصين واليابان من حيث التطلع لخلق مساحة لها بين تزاحم الأضداد، غير أنها تحتاج إلى ما يشبه المعجزة في تخطي حاجز الجوع، وبناء قاعدة تكنولوجية منافسة، إذ أن الصين التي قطعت الخط الأحمر بين الأيديولوجية الجامدة وبين تلبية الحاجات الطبيعية والانتقال من فصيلة الدم المتخثر وضعت لها منهجاً آخر في الوصول إلى نادي الأقوياء، ليبدأ التحديث من القاعدة، ولأن «الجماجم الأمريكية التي ستكون منافضاً لسجائر شعبها» أو أن «قارات العالم التي سوف تمر فوق نهر سكينانج» ليست إلا طفولة سياسية احتاجها «ماوتسي تونج» في رحلة الشعارات البراقة..

واليابان تخلت عن المنازعات السياسية، إلى المغامرة داخل السوق الدولية، لتصبح ثالث قوة كونية في السيطرة الاقتصادية..

في هذا التخوم الكبير تقف الهند وسط تعقيدات داخلية تنذر بما يشبه الحرب الأهلية، ولكن النظام السياسي الديمقراطي، يعتبر بالفعل الحدث التاريخي، الذي وازن بين الطوائف والعلاقات الاجتماعية، حتى أن ورثة البراهمة الذين يعاملون المنبوذين «بصب الزيت الحار في أفواههم، وآذانهم لمجرد إبداء رأي في حق خاص» تحول إلى حكم القانون وحده، ولكن ذلك لا يجعل الخرائط لا تتبدل حين تتعدد الولاءات في مجرات القوى العظمى..

الهند تحتاج إلى مصالحة مع الجار الشيوعي، مثلما هي بأمس الحاجة إلى خلق عوامل الثقة مع الباكستان، وإغلاق ماسورة الحرب مع سريلانكا، والتفرغ إلى كسر الفجوة الضخمة بين عمالقة آسيا الذين يتحركون مع الشمس..

أحد الهنود قال في «هايد بارك» بلندن إن أرصفة المدن الإنجليزية، وأنفاق قطاراتهم الأرضية، ومصانع النسيج والفولاذ قامت على نسيج لحوم الشعوب الأفريقية والآسيوية..

وغاندي يترنم بمقطوعة «كوجاراتيه» تقول: (مقابل الدرهم البسيط، قدم ديناراً ذهبياً ومقابل قدح من الماء، أعط وجبة طعام عظيمة وإذا أنقذت حياتك فلا تبخل بحياتك) «3».

ما بين الغضب والتسامح الهندي طريق أخر، لأن تعدد الفصول في بيئات العواصف والجفاف لا توجد مثاليات مطلقة، أو حالات انفصام دائمة، وهنا المأساة..

لقد كان غاندي، ومن بعده نهرو يقفان على عصر واحد من حيث نهضة الشعب الهندي، حتى أن بناء تقاليد حقوقية وتشريعية تلم خليطاً من شعب يصل تعداده في ذلك الوقت إلى ما يقرب من أربعمائة مليون انسان، تعد مرحلة تأسيسية كبيرة، غير أن السيدة (أنديرا غاندي) والتي كانت تجلس على رصيف الشارع احتجاجاً على أي نزاع عرقي أو ديني، هي الضحية الثانية بعد (المهاتما غاندي) التي تسقط بيد السيخ..

التضحيات الكبيرة للهند لا توجد في قوانين «مانو» المشرع الهندوسي، ولا في مظلة إحدى القوى العظمى، وهنا فقط يكمن التحدي الأزلي بين التناسب غير الطبيعي في المواليد ونقص الغذاء، وتحديات القوة وكذلك في تلك المناظر التي تخترق شوارع العاصمة حين تكون عربة «الركشة» منظراً مسلياً للسياحة…

لقد انفصلت باكستان عن الهند بفعل واقع يتجاوز حالات القبول أو الرفض، وانفصلت بنغلادش عن الباكستان فيما يشبه الحلقة الأخرى في تقطيع أوصال تلك الدولة الإسلامية، فهل الطريق في توزيع القارة الهندية إلى كيانات وقوميات في تفتيت ثاني أكبر شعب في العالم مطلب عالمي يدخل في حلقة التصادم الدولي بين القوى العظمى؟

وسؤال آخر يأخذ باتساع الأفق الآسيوي.. هل الزعامة الآسيوية تدخل مرحلة أخرى تتزاوج فيها تكنولوجيا اليابان، مع طوفان الشعب الصيني، وديمقراطية ثاني أكبر بلد في العالم بالهند لتبدأ حلقة جديدة في توازن القوى، وهو ما يتنبأ به معظم محللي المستقبليات بحركات التنقل الاستراتيجي بين القارات والشعوب، وبأن آسيا سوف تشهد أكبر مرحلة تغير في التاريخ الحديث؟

الأمر لا يصلح للرهان الذي ينبني على الحدس أو الاستشعار عن بعد، بنفس الوقت لا توجد مستحيلات تتعطل معها مسيرة الشعوب، حتى قيل إن العالم القديم لا يصلح إلا أن يكون متحفاً للآثار، فإن القارة الآسيوية ليست مخزناً أسطورياً نشاهد فيه معالم وقوف ذلك العالم عند خط النهاية، وإلا فان اكتشاف الصفر في مفتاح الشفرة الرياضية، ليس إلا صفراً بدون خانة تقبل التخزين «والبرمجة» في آخر صرعة للكمبيوتر، وهو اكتشاف آسيوي على كل حال، وفي كل الأحوال..

التاريخ/ الثلاثاء 24 ربيع الآخر 1408هـ   –   15 ديسمبر 1987           


هوامش
«1» احمد شلبي – أديان الهند الكبرى
«2» على زيعور – الفلسفات الهندية
«3» غاندي – تجاربي مع الحقيقة

مقالات مشابههة

الكرت الذهبي!!

الكرت الذهبي!!

لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...

التفسير المضاد!!

التفسير المضاد!!

لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك،...

رأي في موضوعين

رأي في موضوعين

في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *