قالت تسألها بود، بعد ذلك الفراق الطويل في مسارات الحياة المتعرجة..
– «البيت نظيف، وصغارك يلعبون بحديقة استطاعت نباتاتها الاستوائية، والشبه باردة أن تتكيف مع طقس هذه الصحراء».
• • •
الماضي يدق بوجوده على هامتها.. تلك الضفيرتان اللتان تقاسمتا رأسها.. والعجوز الكبيرة التي كانت بمشطها الخشبي وشوكة النخلة تزينها لكل مناسبة عيد، أو عرس قروي قريب..
جدها العجوز، في ظل العريش تعاند هجعته أسراب، النمل، والدبابير وذباب التمر.. وعالم ما وراء القرية الذي تحفه الأساطير، والأسرار الرهيبة، والعقد المنقوض بين المتخاصمين و«الشنة» الباردة التي هي مورد الصبيان وأمها الكبيرة القلب على مصارعة الأيام السوداء..
وكمن يسحب من فراغ مظلم تنبهت للسؤال.. قذفت بمنديل الورق في السلة.. سحبت آخر تجفف به عرقها.. لتنسي أحداث طفولتها.. قالت:
– «لم تعد المسألة اصطناع الأشياء، أو تعويدها على الحياة
خارج رحمها.. هذه قضية أنهاها العلم وهجنها عن طبيعتها.. أما إذا كانت الطباع البشرية هي التي أخذت بهذه الحلقة الدائرة لتفوز بالتفوق المنهجي والمنظم على كثير من قوى الطبيعة فإن الحدث الآخذ بالاتساع هو قناعتي بأنني أصطنع الشعور باللذة بهذه الأشياء.. ليس لدرجة أنني أبحث عن تعويض رومانسي، وإنما بتقديري، أننا في هذا الوقت، ولأول مرة، لم نقف ولو لدقائق نسمع حكاية الماضي والمستقبل بشعور من يدرك أنه يستطيع وضع التوقيت الملائم لهذا القضاء الزمني»!!
• • •
تغلق صديقتها صوت المذياع.. صورتها في الأربعين أكثر جمالاً وثقة.. وثقافتها التي خرجت عن دائرة العفويات لتصل إلى مرحلة التحليل، والاستدلال بالقرائن، جعلت هذه الصديقة ترغب بصدق أن تفهم تجربتها بهذه السنين التي فرقتهن.. ولأن ما بينهن من صراحة تجاوزت تلك الخلافات التي تنشأ عادة بين صديقتين على أمور عادية فإنها ألحت بسؤال آخر..
– «دعينا من صرامتك، وفرض عنفوان (اليوجا) على تأملاتك وعقلك، وقولي على أي دروب الواقع يمكن لك أن تضعي مسألة الزمن كموضوع لما تسميه بالمستقبل، وعلى افتراض أنه لم يعد هناك من ثقافة أو تعليم مميز لكلا الجنسين.. وباعتبار أن شهادتك الجامعية وخدمتك الطويلة جعلت كثيراً من ظروف الحياة تأخذ الجانب الإيجابي والسلبي.. أي أن كلامنا يحاول أن يطبع زمنه برؤيته وتصرفاته الشخصية، وتلك أنانية يرفضها الواقع»!!
• • •
كومة المناديل تكبر.. حتى يداها تعرقان أيضاً والخواطر التي امتزجت بالأحلام.. والجسر الضبابي للمستقبل جعلتها هذه المرة تقتحم بما تسميه (ثقافة الرجال) !! قالت بهدوء أعصاب..
– «نشأتنا مركب صعب تفكيك عناصره.. ولكن لنتجاوز المقدمات والتعليلات، لقول إن تلك المزرعة الصغيرة التي قام على نشأتها ووجودها أجيال متعددة من أسرتنا تجعلني أضع حقيقة التنمية الزراعية باباً للنقاش، ولو بمفاهيم اجتهادية قد يغلب عليها طابع المرئيات الظاهرة دون معرفة ما خلف ما تختزنه الخطط من أرقام وإحصائيات هي سلوك المتخصص الباحث، لكن هذا الهاجس يجعلني أضع عدة افتراضات بأننا نمارس الخطأ والصواب، وهذا ليس عيباً إذا انتهت الغايات إلى سلوك سليم قادر على تجاوز هذه الأخطاء..
نحن جيل محظوظ قياساً لكل الماضي ولكن بنفس الوقت الحظ ليس هو الموقع الذي تقاس عليه كل الأشياء، ومفاجآتها..
فثروة الماء والبترول عنصران أساسيان في تلاقي هذه الثروة الهائلة لهذا الجيل.. وطالما أن هذا الموضوع يشغل بال الكثيرين فإنني أريد أن أقتحم هذه العزلة الفوقية لأكون شريكة في الرؤية الاجتماعية لوطننا.
• • •
تهم الصديقة الضيفة أن تقاطعها، وهي التي فرضت حصاراً على هذا الاجتماع الثنائي حتى من صغيرها المدلل !! قالت..
– «أرجو أن تدعيني أستطرد حتى لا تضيع النقاط التي طالما كانت مبعث تفكير وجدل بيني وبين نفسي..
أعود لأقول إن الماء هو الشطر الثاني في هذه الثروة، وبدون أن نتجاهل القوة البشرية كمحرك رئيسي فإنني أرى أن هذا الماء يستنزف في بعض الأحيان على غير قاعدة اقتصادية سليمة، بمعنى أننا مدفوعون برغبة الاكتفاء الذاتي، ومخافة حرب الطعام التي دخلت باستراتيجيات العالم المتقدم.. أقول أيضاً أننا نتفق ومعنا كل التقارير والندوات، والمظهر الواضح للأساليب التي نستخدمها أو الكثير منها ينطق بسلبية بعض تصرفاتنا..
لنأخذ مثلاً، زراعة القمح.. إنه يستنزف كميات هائلة من الماء، وكما يقولون، إنه ليس من وسيلة للري إلا بأسلوب الإغراق، وبحساب فطري نجد أننا نخسر جزءاً من تلك الكميات الهائلة بين البخر والتسرب إلى الأرض.. وكعامل اقتصادي قد نعتقد – ونرجو أن نكون على خطأ- إن ما يصرف على هذه الزراعة مكلف ليس من الناحية المادية المربوطة بعناصر المساعدات والقروض فقط ومن ثم شراء هذه الحبوب بأسعار قياسية.. نقول إننا نملك بدائل لزراعة غير مكلفة ولأن تلك السلعة لم تعد نادرة جداً، ويصعب توفيرها بظروفنا الحالية من الأسواق التي تعرضها.
فالماء ثروة ناضبة – لا شك في هذا – وتلك المستودعات الكبيرة نسبياً، لابد من ترشيدها بطرق تحفظ المعادلة المنطقية بين ما يستنزف منها وما يمكن توفيره من مصادر أخرى..
وإذا كانت هناك طرق متعددة بأساليب الزراعة كالتنقيط في سقي الأشجار، والبيوت الزراعية الخضراء واستعمال الأنابيب بدلاً من السواقي التقليدية هي بعض الحلول، فإننا من جانب آخر نجد أن هذه الرقعة التي توسعت بشكل جيد ورائد لابد من وضع منهج وقانون يحد من هذا الاستهلاك الزائد أو التصرف غير المنطقي من الآخرين.
• • •
الهاتف العنيد يصرخ محتجاً هو الآخر.. والطرف الثاني هذه المرة ممن اعتدنا على السؤال عن الصحة والأطفال، وحكايات الأسبوع كاملة بالزيارات والحفلات، والمواليد الجدد، والأموات!!
انتهت المكالمة.. ولكن صاحبتها وجدتها فرصة ذهبية أن تغمزها -على طريقتها بكلمة سخرية.. قالت:
– «يبدو أننا سنحتفل بشهادة أخرى لك في الاقتصاد الزراعي هذه المرة.. لكن لم تقولي أن هناك مجالات لتعويض تلك المياه بطرق حديثة كالتحلية واكتشاف مصادر جديدة من المياه الجوفية، والتجارب التي تحاول أن تستفيد من مياه البحر بالزراعة إلى أخر البدائل التي لا تخنق صورة المستقبل كما تعتقدين»!!
• • •
تتسع حدقتا عينيها.. ترفع تلك الخصلة من الشعر التي حاولت أن تغطى طرف جبهتها.. ترد:
– «لم أكن، كما تعتقدين، متشائمة من المستقبل، وهذا ما أريد تصحيحه معك، فأنا أعرف أننا نملك ظروفاً جيدة للمستقبل، أقيس على هذا أنه بالرغم من تزايد الكميات الكبيرة في استهلاك المدن الرئيسية وكذلك المدن الصغيرة والمتوسطة، فإنني أجد المجاري إذا ما استغلت يمكن إضافتها لمياه الزراعة، وهناك -كما سمعت – خطة لحقنها في الفراغات الجوفية التي استهلكت مياهها وكذلك إنشاء السدود.. ولكن سؤالاً يطرح نفسه، وقريب الصلة من الموضوع، وهو أنه لماذا لا نعمل على قيام زراعة تتفق ومصادرنا الطبيعية والمستحدثة، وجعل بجانبها تنمية الثروة الحيوانية، والتي لا تتطلب بعضها الاعتماد على بعض زراعتنا، أو محو بعض مناطق مراعينا.!؟
فالدواجن، والأبقار، والأغنام، وأخص منها الضأن هي ذات عوائد ممتازة.. بجانب ذلك هناك زراعة الأشجار بوسائل التنقيط التي قد لا تأخذ جزءاً من الكمية التي تتطلبها زراعة الحبوب مثلاً، وكذلك رعاية الأشجار البرية أو المزروعة التي لا تعتمد إلا على مواسم الأمطار ومحاولة زيادة رقعتها، أي بطريقة إيجاد الغابات المزروعة كما عمل بذلك في أستراليا وبعض ولايات أمريكا ذات المناخ المشابه لمناخنا.
وإذا كنا نملك الآن الطاقة التي تحرك قطاعات كبيرة من مشاريعنا ونجتهد – بجانب ذلك – بامتلاك طاقات أخرى كالشمس، ومستقبلاً «الذرة»، فإن دولاً متقدمة كألمانيا نجحت في جعل التدفئة في بعض المنازل القريبة من مزارع الأبقار، تأتي مما تشعه أجسام تلك الأبقار!! وهذا طرف يجعلنا نتساءل هذه المرة بمرارة عن دور الجامعات ومراكز البحوث في القبول على هذا الاتجاه الذي يحتاج إلى الصبر والجلد وتناسي الهجرة الداخلية للأدمغة التي تبحث عن وسائل مريحة ومغرية في وظائف بعيدة عن مجال اختصاصها!؟
وإن الذي يغريني على هذا الحديث ليس فقط الصورة الظاهرية، أو كما تقولين حلم ليالي الطفولة، ولكن صدقيني كم سعدت حين عرفت أن أشجار الأثل أعيد لها بعض الاعتبار حين أصبحت أخشابها تصدر لبلد عربي شقيق محتاجاً لها، وهي ثروة موجودة كافح على زرعها المواطن في الماضي بطرق لا تدخل في خيالنا في الوقت الحاضر..
• • •
ترتشف صديقتها أخر ثمالة كاس عصير الليمون، تبحث في الخطوط المستطيلة على جانبي الكأس عن جنسية ثمرة البرتقال التي شربت عصيرها طازجاً، ولكنها قبل أن تهم بالخروج من هذا الاجتماع الصاخب.. تطرح أخر سؤال بجعبتها.. قالت:
– «وهل أفهم من أختي العزيزة أنها على استعداد على التضحية برفاهية المدينة والعودة إلى الزراعة لتحيا.. ولو بعصر حديث في الميكنة الزراعية – لتحكي في لقاء قادم عن تجربة المزرعة العصرية…؟!
تضحك مستجيبة لهذه المداعبة الخفيفة.. تعود لتقول..
– «إنسي هذا تماماً على صعيد التجربة الفعلية فأنا جزء ممن تستعين بخدامة وسائق، وربما الاستقالة قريباً عن عمل التدريس لعلى أستطيع أن أفتح صفحات كتب، علاها الغبار، ولربما أستطيع الكتابة عن أي شيء يصل إلى درجة القبول عند الآخرين.. وتلك أمنية.. والأماني خيول الشحاذين!!
في المعنى الجمالي..
المحتوى أو الشكل الجمالي هل يجب إخضاعه للقيمة الأخلاقية البحتة؟!
وإذا كانت المفاهيم الأخلاقية تفترق في تفسيراتها من مجتمع لآخر ليصل الخلاف إلى الأفراد، فإنه طرحت مسائل كثيرة حول مفهوم هذا الجانب من المجتمع العربي بوجه خاص..
فالذين يقولون بإعادة كتابة التراث بما يتفق وأخلاقية الحاضر، لا أدري لماذا لا يسألون كيف أبيحت – مثلاً – تلك القصائد في عصر فيه قوة الدولة العربية الإسلامية، وتواجد شخصية الفقيه بكل ما تملك من نفوذ إيجابي في ظل المعتقد الإسلامي الحنيف؟!
فيما أعتقد أن مثل هذا السؤال طرح على الشيخ «علي الطنطاوي» وأظن أن إجابته كانت قريبة من هذا القول، بأن التراث ليس ملك هذا الزمن، وإنما هو للماضي والحاضر والمستقبل، ولا يوجد في أية أمة ممن رغبت في تحريف تراثها حتى ولو كان مغاير لهذا الظرف الزمني.. وأعتقد، إن لم تخني الذاكرة، أنه ضرب مثلاً بكتاب الأغاني الذي هو أهم مرجع أدبي وتاريخي في التراث العربي.
وهناك يتساءل أن العرب في مجال الفن الجمالي، لم يتجاوزوا الهندسة المعمارية في بعض القصور والمساجد، وأن الصور المجسمة للإنسان والحيوان قد حرمها الإسلام، وكذلك لم يتجه الشعر العربي إلى قصائد الملاحم التي كانت تراثاً بين أيدي العرب حين اتسعت الحملة بالحضارة اليونانية في المجال الفكري والعلمي؟؟
برأيي الشخصي أن مسألة الفن عند العربي ارتبطت بشخصية المجتمع العربي أكثر منها في المعايير الجمالية عند الإغريق، بدليل أن شعر الملاحم – وهو لم يكن محرماً – لم يتكون في التراث الشعري العربي، لسبب أن الشعر كان جزءاً من حياة المجتمع في تلك الفترة وله شكله ومضمونه، سواء ما كان منه جاهلياً، أو مخضرماً إلى أن وصل وأوجد قوته في العصر العباسي..
ويبدو لي أن هذه الصفة لازمت العربي في الحفاظ على هذا التقليد وتطويره من ذات القاعدة، وذلك مميز جعل تلك الشخصية مترابطة مع مكونات العربي النفسية والاجتماعية.
أما مسألة الأخلاقية في علم الجمال، فإنها تخضع عادة للعرف الذي عليه المجتمع في أي عصر كان، وما تسمح به تقاليده..
ولذلك فالتفسيرات الاجتهادية التي اختلفت على جمالية الشعر العربي وخروجه عن التقاليد الصارمة لمجتمع القبيلة من عهد عمر بن أبي ربيعة إلى آخر ما جاء به أبي نواس وبشار، وشاعر المحبسين.. لم تكن الصورة المرفوضة على صعيد المجتمع إلا ما كانت تفرزه الأحقاد الشخصية من الذين يدسون على الولاة وشاية بذلك الشاعر، أو ذلك الفيلسوف أو العالم..
وإذا كنت لا أستطيع أن أبريء الكثير من أولئك الرواد سواء لشكوكهم الدينية، أو الطابع الشعوبي لبعضهم، فإن الطبيعة البشرية والبيئة التي عاشوا فيها سمحتا لهم لأن تكون أشعارهم وأقوالهم مصدراً للدارسين في اللغة والتاريخ والأدب وصورة حية لتلك المرحلة بكل اختلال موازينها أو تقدمها..
من هنا أقول إن الطابع الذي عليه مجتمع حضاري سابق، ليس بالضرورة أن يتواجد بكل صفاته ومثله وتقاليده في مجتمع يخلفه حضارياً، ولذلك سميت كل فترة تاريخية هامة بروح مجتمعها.. وهنا كان الخلاف في كل الحضارات، ومنها كذلك الفنون..
بتاريخ/ 19-1-1402هـ
0 تعليق