يخطو للمائة عام.. وأيام وسنين هذا العمر الطويل تقرؤها على وجه هذا الشيخ الذي ترسبت في أعماقه ذكريات الصحراء والبحر، والكفاح المرير..
ملابسه البيضاء، وقواعد الآداب القديمة في الحركة والحديث، وحتى الخاتم الفضي بخنصر يسراه والنعل التقليدية، كلها تثير فيك الحماس للحديث مع هذا الشيخ الجليل..
لم تستثره المضيفة الواقفة على رأسه، وهي تناديه..

• (قهوة يا شيخ)؟
• (وش عندك من قهوة.. أو قهوة القواطي.. لا يا بنتي كتر خيرك….
  صوت الطائرة، وحركة المضيفين وطقطقة الملاعق والصحون، ورائحة الأكل، تذبح ساعات الملل برحلة الظهيرة الحارة..
  قلت، وأنا أعبئ بطاقة دخوله مطار الرياض من جوازه الكويتي.
• (غربية أن تكون لهجتك نجدية، ومهنتك (نوخذه).. والجواز كويتي؟)
  ولأن سمعه الضعيف لم يستوعب كلماتي السريعة، اضطررت لإعادة سؤالي مرتين.
  رفع رأسه.. أدار خاتم خنصر يسراه.. عاد من رحلة ماضيه الطويل بابتسامة سبقتها نحنحة ضعيفة..
• (يا ولدي أنا من منفوحة.. أعرف نخلها وأهلها، وحتى عدد الدجاج اللي بكل بيت… لكنني فت على منفوحة العام الماضي، وما شفت إلا باقي الأثل)
• وكيف صار فلاح منفوحة (نوخذه)؟!
• (العيشة.. العيشة.. وأنا أبوك.. ما كنا نعرف حدود، ولا يأس.. ضاقت الحيلة بنجد، وانتقلت للكويت)!
• (والفرق بين حياة الصحراء والبحر)؟
• (كلها دروب صعبة.. تايه الصحراء يموت.. وغرقان البحر ينعونه ربعه.. لكن رزق البحر كان أكثر).
• (وذكريات البحر، والحياة مع البحارة والغوص تذكرها جيداً)!
• (نرحل في موسم الغوص، وقبل أن نركب (البوت) نكتب وصايانا، والأربعة أشهر التي نقضيها بالبحر مصيرها مجهول والموت كان أقرب لأنها حياة مغامرة وجوع ومخاوف)
• (وتجارة اللؤلؤ كيف يتم البيع فيها والشراء؟!
• (يجينا أجانب من ايطاليا وفرنسا، وانجلترا.. وغيرها وتبدأ المزايدات، وصاحب السعر المغري هو الذي يشتري)..
• (وإقامتك الآن)؟
• (بين الكويت، وعمان.. وكل سنة أجي للرياض أخذ مكتوب الله من عقاراتي)..
  الطائرة تهبط مطار الرياض وقصته (لبحر صحرائي) لم تنته..
  .. ولكنه بقية من الآباء الذين كتبوا لنا بمعجزة صبرهم على ذلك التاريخ ليهدونا هذه الحياة
  القائمة..